حكايات من الجانب الآخر: كل ما يتعلق بالذهاب إلى الطبيب النفسي

التصميم: منشور

رنا أشرف
نشر في 2018/11/15

عند اقترابنا من باب المستشفى، يسألني سائق التاكسي بينما تتعلق عيناه باللافتة التي على البوابة: «حضرتك دكتورة نفسية هنا؟»

يكون هذا السؤال عادة مقدمة لأسئلة أخرى: «هل يُشفى هؤلاء الناس؟»، «هل يخرجون من المبنى أم يبقون هنا إلى الأبد؟». قد يتبع الأسئلة ما يراه الشخص استشارة سريعة بخصوص زواجه، عن الخصائص النفسية للزوجة، أو يطلب مني تحليله نفسيًّا، أو يطرح عليَّ استفسارًا عن ابن عمه «غير الطبيعي».

توضح لي الأسئلة اليومية من هذا النوع كثير من الأمور عن مهنتي. عن علاقتي بها، عن مدى غموض الطب النفسي لغير المختصين، وامتزاجه الذي يصعب فصله أحيانًا بالمعتقدات والدين والثقافة المجتمعية.

أنا طبيبة نفسية.

استغرق الأمر 12 عامًا من الدراسة والتدريب حتى أصل إلى هنا. يختلف عدد هذه السنوات من دولة إلى أخرى، ومن نظام طبي إلى آخر. درست الطب وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة، ثم عملت طبيبًا عامًّا، قبل أن أتدرب وأعمل لسنوات في مستشفيات الصحة النفسية.

ينتهي التدريب الرسمي بشهادة التخصص في الطب النفسي، التي تتنوع في المدة الزمنية والامتحانات اللازمة للحصول عليها. ينطبق تعبير «المعالِج النفسي» على مَن درس الطب النفسي أو علم النفس، وتلقَّى تدريبًا أكثر تخصصًا في مدارس العلاج النفسي. يمكن أن يكون طبيبًا نفسيًّا أو متخصصًا نفسيًّا تخرَّج في كلية الآداب قسم علم النفس، وحصل على شهادة ممارسة إكلينيكية أوترخيص مزاولة مهنة العلاج النفسي.

من حقك دائمًا السؤال عن مؤهلات معالجك النفسي وتدريبه. قد تكتشف أن حرف «د.» قبل اسم الذي ذهبت إليه لا تعني طبيبًا، ربما دكتوراه في اختصاص آخر، أو أن خبرته مجرد دورة تدريبية نظرية استمرت خمسة أيام حصل بعدها على شهادة حضور، أو أن طبيبك النفسي يمارس العلاج الدوائي فقط.

الطبيب النفسي هو الذي يصف الدواء ويضع التشخيص والخطة العلاجية. المختص النفسي يُجري الاختبارات النفسية المختلفة، ويشارك في الخطة العلاجية. كلاهما يمكنه ممارسة العلاج النفسي بعد تلقِّي التدريب والدراسة الملائمة. اختيار الطبيب/المعالج النفسي المناسب مسؤوليتك، بالضبط كما تختار طبيبك الباطني أو أفضل ملابس عند التسوق.

ما تتوقعه من الطبيب النفسي في المقابلة الأولى

عادة، يذهب الناس إلى الأطباء النفسيين بمجموعة من التصورات الشخصية عن الطب النفسي، وعن المعالج، وكذلك عن العلاج. هذه التصوُّرات ليست بعيدة عن الواقع في كثير من الأحيان فقط، بل إنها تعوق العملية العلاجية نفسها، وتؤثر فيها، لأن توقعات المريض هنا تقوده إلى الحكم المُسبَق على ما يجب وما لا يجب فعله من الطبيب أو المعالج.

يمكننا على الأقل أن نحدد مجموعة من العناصر الأساسية التي من الممكن والمفيد توقعها من الطبيب النفسي:

1. أن يستمع إليك

نطلق عليه «الاستماع التفاعلي»، وهو مختلف عن الحكي. قد يستوضح الطبيب بعض النقاط، وقد يكرر كلامًا قلته أو يطلب تفاصيل أكثر في ما يخص الشكوى.

من الشائع ألا تجد ما تقوله في البداية، لا يجب عليك أن تقلق من هذا أو تراه مؤشرًا على فشل التجربة قبل بدايتها. أنت في مكان جديد مع إنسان لا تعرفه، وعلى وشك الكلام عن أمور تخصك، وتأمل في تغيير يستطيع الطبيب أن يساعدك عليه في البداية.

2. أن يوفر لك بيئة آمنة تحافظ على الخصوصية

قد يبدو أن المعالج ينصت إلى «أسرارك»، لكنه في الحقيقة يلتقط أنماط التفكير المتكررة، ويضع فرضيات لدوافع سلوكك.

يقول أحد أساتذتي: «غرفة العلاج عند الطبيب النفسي هي غرفة العمليات لدى الجرَّاح». ويعني بقوله هذا أنها مكان آمن يشهد تغيرات دقيقة، ما يحدث داخلها خاص وإنساني.

في أخلاقيات العلاج النفسي، أي تسجيل صوتي أو مرئي يجب أن يكون بموافقة مكتوبة من المريض. ومفهوم الموافقة في الطب النفسي يتعلق بأنها «حرة»، أي ليس بضغط من أحد، و«مستنيرة»، أي إن المريض يمتلك القدرة العقلية اللازمة لاتخاذ القرارات بنفسه.

الاستثناء هنا خطر مهدد وشيك على حياتك (مثل الانتحار)، أو حياة شخص آخر يستلزم خرق السرية.

قد يبدو لك أن المعالج ينصت إلى «أسرارك»، لكنه في الحقيقة يلتقط أنماط التفكير المتكررة، يضع فرضيات لدوافع السلوك، يقارنها بالأعراض المرضية. العلاج النفسي يتعلق بالطبقات الأبعد عن دائرة إدراكنا لأنفسنا، وليس بالأسرار لذاتها.

3. أن يفكر في تشخيصات محتملة

هذه عملية عقلية قد لا ترى ما يدل عليها. يمكنك أن تعرف تشخيصك عن طريق الإنترنت: هل تشعر بكذا وكذا؟ إذًا لديك كذا. قد يكون هذا سبب ذهابك إلى طبيب نفسي من الأساس.

قبل أن أحظى بخبرة إكلينيكية، كنت أحب القراءة في الطب النفسي، وحاولت كثيرًا أن أفهم معنى الظواهر والأعراض من الكتب الطبية، لكنني لم أفهم إلا عن قرب بالمعايشة ومخالطة المرضى والفضول، وراء كل تشخيص محتمل عشرات ومئات المرضى الذين تعلمت منهم.

عين المتخصص لا ترى التشخيصات والتصنيفات كما يراها غيره. لا تندهش إذا لم يصل الطبيب إلى تشخيص بعد المقابلة الأولى، حتى لو أخبرته بكل شيء ممكن. أحيانًا يحتاج الطبيب إلى أكثر من مقابلة، وليس غريبًا أن يرى التصنيف عملية ثانوية في بعض الأحيان، لأن ما يهم الآن مشكلتك الحالية، وطريقة التعامل معها.

الاكتئاب مثلًا له خواص تشخيصية محددة، لكننا لسنا كالآلة. اختلافنا يصبغ الاضطراب النفسي بهويتنا، وعندها يصبح العلاج مرتبطًا بالمريض وطريقة تعامله وتفاعله مع العالم.

4. ثم يفكر في خطة علاجية

العلاجات في الطب النفسي إما دوائية، وإما علاج نفسي بأنواعه المتعددة، وإما علاجات فيزيائية (مثل جلسات تنظيم إيقاع المخ عن طريق الكهرباء، وهو علاج بالغ الإفادة سيئ السمعة، تحت تأثير تراث طويل من الصور النمطية عن المرض النفسي).

يعتمد اختيار العلاج على الطبيب والمريض. يشكو كثيرون من أن الطبيب النفسي لا يسمع، أو يكتب دواء فقط، ماذا لو أن هذا الطبيب يملك مهارات دوائية بالأساس؟

نرجع هنا لاختيار الطبيب المناسب لتوقعاتك منذ البداية.

تتدخل أيضًا حالتك الصحية ووجود أمراض مزمنة في الاختيارات الدوائية، ونوع التشخيص يؤثر في اختيار العلاج النفسي المناسب، وشدة الحالة تتحكم في الالتزام بعلاج واحد أو خلط نوعين مثل الدوائي والعلاج النفسي.

5. أن يجيب أسئلتك المتعلقة بالتشخيص والدواء

أُشرك مرضاي في أفكاري أحيانًا، ما أفكر فيه كتشخيص والاختيارات الدوائية المتاحة. من حقك أن تعلن عن أسئلتك ومخاوفك للطبيب، سيكون هذا أفضل من سؤال صديق أو الإنترنت. أو إن كنت من النوع القلِق، ستقرأ النشرة المرفقة بالأدوية بعناية وتتخيل كل الآثار الجانبية تحدث لك مهما تكن نادرة.

ماذا عن المريض/العميل؟

هل نحن مرضى نفسيون؟

تُعرِّف منظمة الصحة العالمية «الصحة» بأنها حالة الراحة الجسدية والنفسية والاجتماعية، وليست فقط غياب المرض أو العجز. أي إن الصحة النفسية جزء من الصحة العامة للفرد.

لا يختلف هذا المنطق في تعريف «الصحة النفسية»، فمنظمة الصحة العالمية ترى أنها حالة الراحة التي يدرك فيها الفرد إمكاناته الفردية، ويمكنه التعامل مع ضغوط الحياة العادية ،و يستطيع العمل بكفاءة، وقادر على الاندماج مع مجتمعه.

في الطب النفسي، تشخيص الاضطرابات النفسية مشروط باختلال الوظيفة، التي تعني هنا علاقة الفرد بنفسه وبالآخرين وبواجباته الاجتماعية وبعمله أو دراسته. اعتلال أيٍّ من هذه المناحي قد يعني ضرورة التوجه إلى طبيب نفسي.

تشكو لي عميلة كثرة أحلام اليقظة، وهي شكوى غير مدرجة في دليل التصنيفات النفسية كاضطراب نفسي، لكن بمفهوم الصحة النفسية الأمر مختلف.

أحلام اليقظة جزء طبيعي من مخيِّلة البشر، وترتبط أكثر بالتطور في مرحلة المراهقة. لكن ما تعانيه عميلتي يستغرق وقتًا طويلًا ومهمًّا من حياتها: المشي لمسافات طويلة في الشارع لدرجة تشقق القدمين، مشكلات في النوم، بذل مجهود كبير في تنحية الأفكار عنها بالانشغال المستمر، فتشعر بالإنهاك الجسدي والنفسي. كان هذا شيئًا تعاني منه بشكل متكرر، ويسحب من رصيد علاقتها بنفسها وبالآخرين. واستمرار هذا الوضع يهدد استقرارها النفسي.

إذا التزمتُ حرفيًّا بتصنيف دليل الأمراض النفسية، فهي لا تعاني اضطرابًا. لكن على أرض الواقع هناك خلل واضح في الوظيفة. بالبحث أكثر، أكتشف أن ما تعانيه موصوف في أدبيات الطب النفسي، وهناك محاولات حديثة لوضع معايير لتشخيصه، لكنها غير مكتملة.

في كل الأحوال، أبدأ في مساعدتها، مع إعجابي بقدرتها على توصيف ما تعانيه.

أي اختلال في علاقة الشخص بذاته أو بالآخرين أو سلوك يتكرر بشكل يعوق حياة المرء، أمر يستحق الذهاب إلى طبيب نفسي.

هل يعني ذلك أن كلنا، بدرجة أو أخرى، مرضى نفسيون؟

يعتمد العلاج السلوكي المعرفي مثلًا على تحديد أنماط التفكير الخطأ و علاجها. لكنه كذلك يُذكِّرنا بأن التشوهات المعرفية، وارتباك قدرتنا على الإدراك، أمور تحدث لنا كأناس طبيعيين. وبالمثل، تعتمد المدرسة التحليلية على تحديد الدفاعات النفسية المتكررة، لكنها لا تحرمنا من هذه الدفاعات كأفراد عاديين.

هذه التشوهات المعرفية أو الدفاعات النفسية تُشكِّل نظرتنا إلى الحياة، وتتعلق بخبراتنا وهويتنا كبشر، وتعطينا بصمة فردية.

لذلك، فإن مفهوم الاعتلال في مدارس العلاج النفسي يتعلق بتكرار نمط معرفي لدرجة اختلال الوظيفة، ما يتفق مع تعريف الصحة النفسية بوجه عام.

ربما لا يعاني الشخص من مشكلة واضحة خطيرة تستوجب التعامل المباشر. لكنه على الناحية الأخرى، يعاني من مزاج سيئ لمدة أطول من اللازم، أو إحساس بعدم الجدوى وفقدان الاستمتاع بأنشطة كانت تجلب السعادة في ما مضى.

الأمثلة كذلك تشمل تشوُّهًا في صورة المرء عن نفسه، أن يتصور نفسه مثلًا أنحف أو أكثر بدانة مما هو عليه، أو أن يحدث اضطراب في علاقته بشريكه أو أهله بصورة يصعب حلُّها.

أفكار مثل الرغبة في إيذاء النفس أو الآخرين، أو الانشغال بنظافة الأشياء بصورة متكررة ومعيقة للحياة اليومية.

لذلك، فإن أي اختلال في علاقة الشخص بذاته أو علاقته بالآخرين أو سلوك يتكرر بشكل يعيق حياة المرء، يستحق الذهاب إلى طبيب نفسي.

العلاقة العلاجية/أساطير حول الطب النفسي

لا يُصدِر الطبيب النفسي أحكامًا مباشرة. ليس دوره أن يقول لك صَلِّ أو انفصل عن حبيبتك، بل ينبهك إلى البقعة العمياء في إدراكك لذاتك.

تقول لي عميلة في نهاية الجلسة: «إذًا، هل أطلب الطلاق من زوجي؟».

أنزعج. أسأل نفسي: هل ضغطت أكثر من اللازم في اتجاه معين؟ هل أوحيت لها بمسار ما يجب عليها أن تأخذه؟

هل أشعر بالإحباط لأن توقعاتها مني تختلف عما أفعله وما تقدمه مهنتي؟ أو أنني منزعجة لأنني غير مفهومة ويقدِّمني المجتمع دائمًا في صورة «حلَّال المشاكل»؟

أقرأ على فيسبوك ما تحكيه فتاة عن تجربتها مع طبيبها النفسي. تقول إنها شعرت بأنه «يحكُم عليها» ويوجهها. أنزعج أيضًا.

هل أخطأ الطبيب، أم إن توقعات الفتاة مصدر إحباطها؟

مخيِّلة المجتمع التي أتعامل معها يوميًّا، تحصر الطبيب النفسي في دورين متناقضين: إما يمتلك حكمة تقترب من الآلهة، فيوجِّه مرضاه بشكل مباشر، وإما أنه وعاء للبوح ليس أكثر، فلا يتدخل إطلاقًا في ما يسمع. ربما سترى عميلتي أنني عديمة الفائدة لأنني لا أوجهها بما يكفي، وسأفكر أنا إن كان نمطًا من عدم القدرة على المواجهة والخوف من الأسئلة الصعبة.

سترى الفتاة أن الطبيب سيئ، وسأفكر أنا إن كان رد فعلها هو المقاومة التي تظهر في العلاج النفسي بعد فترة.

لا أعرف.

بشكل عام، لا يُصدِر الطبيب النفسي أحكامًا مباشرة. ليس دوره أن يقول لك صَلِّ أو انفصل عن حبيبك أو حبيبتك، لكن يمكنه أن يساعدك على اتخاذ قرار ملائم، يمكنه أن ينبهك إلى البقعة العمياء في إدراكك لذاتك. في النهاية، نحن لا نملك الإجابات كلها.

كذلك، وهو أمر شديد الأهمية، الطبيب ليس صديقك الذي «تفضفض» معه في نهاية يوم صعب. الطبيب النفسي يقدِّم القبول والدعم، لكن هذا لا يعني أن كشف الذات غير مؤلم، أو أن الطبيب لن يواجهك بما يراه.

الشيزلونغ

من أمام متحف فرويد - الصورة: MOs810

في المسلسلات والأفلام، لا تخلو عيادات الطب النفسي من «شيزلونغ»، رغم ندرة وجوده الواقعي.

ارتبطت هذه القطعة من الأثاث في المخيِّلة الشعبية بالعلاج النفسي، والسبب بالأساس هو شهرة «فرويد»، رائد المدرسة التحليلية، وهو في الأصل طبيب أعصاب اهتم بدراسة الهيستيريا، و فسَّر الأعراض النفسية بوجود رغبات أو مشاعر مكبوتة لا نعيها، تجد طريقها إلى الوعي في صورة أعراض مَرضية.

اعتمدت طريقته على «التداعي الحر للأفكار»، إذ يسترسل المريض في البوح دون تدخل من المعالج/المحلل، الذي يجلس في الظل وراء الشيزلونغ ليتيح أكبر قدر ممكن من الكشف. يحتاج المريض إلى خمس جلسات أسبوعية على الأقل، ويستمر التحليل سنوات.

سيظل الشيزلونغ رمزًا لسيطرة المدرسة التحليلية حتى منتصف القرن العشرين. نتحدث عن عصر ما قبل اكتشاف مضادات الاكتئاب، وما قبل خروج «آرون بيك» بنظريته عن «العلاج المعرفي السلوكي».

في العيادات النفسية اليوم، غالبًا ستجد مكتبًا يجلس وراءه طبيب وأمامه مقعدان، الأمر الذي يتماشى مع عصر العلوم العصبية الحالي.

قرب الستينيات يتزحزح الشيزلونغ، تتفرع المدارس العلاجية، يتغير شكل العيادات النفسية، تسود مدرسة «العلاج المعرفي السلوكي» المنجزة: عدد محدد من الجلسات، تنحصر في جلسة أو اثنتين أسبوعيًّا، تُدرَس فيها العلاقة بين المشاعر والأفكار والسلوك بشكل أكثر عملية، مناسب أكثر للنظام التأميني في الدول الغربية. في تسجيلات الجلسات النفسية في ذلك العصر، تجد المعالج والمريض على مقاعد عادية، قد توجد بينهما منضدة، أو لا توجد.

بالتزامن مع صعود العلاج المعرفي السلوكي، ظهر كشف آخر يتعلق بالأدوية النفسية. أول دواء نفسي جرى اكتشافه مصادفة أوائل الخمسينيات، وهو من مضادات الذهان يُدعى «كلوربرومازين».

تتابَع ظهور الأدوية النفسية المختلفة وتقديمها إلى السوق في الستينيات والسبعينيات. سميت التسعينيات «عصر البروزاك»، نسبة إلى «فلوكستين»، الدواء الأشهر في مجموعة مضادات إعادة امتصاص السروتونين (SSRI)، المجموعة الذهبية اليوم في علاج اضطرابات المزاج والقلق، وهي بلغة الطب حديثة العهد.

اكتشاف الأدوية النفسية عضَّد تغيُّر مفهوم الاضطرابات النفسية، من الرغبات والمشاعر المكبوتة والدفاعات النفسية إلى الأصول العصبية والبيولوجية التي تتحكم فيها النواقل العصبية بالمخ.

في العيادات النفسية اليوم، غالبًا ستجد مكتبًا يجلس وراءه طبيب، وأمامه مقعدان، الأمر الذي يتماشى مع عصر العلوم العصبية (Neurosciences) الحالي، إذ يتأصل الطب النفسي فرعًا من الطب بالأساس له جذوره العصبية غير المكتَشفة بالكامل. نحن الآن نملك صورة أفضل عما لا نعرفه، لكننا نعرف أنه موجود.

في العيادات الأفضل تجهيزًا، ربما تجد أنواعًا مختلفة من الأثاث التي يمكن أن تختار بينها، وقد تجد الأريكة/الشيزلونغ، التي تسللت إلى اللاوعي باعتبارها رمز العلاج النفسي.

الدواء النفسي ليس بئرًا تسقط فيها

تقريبًا، كل أول مرة أصف فيها لأحد عملائي دواءً نفسيًّا لا بد من أن يظهر نفس السؤال: «هل سيتسبب هذا الدواء في إدماني؟».

الأدوية النفسية خط العلاج الأول في كثير من الحالات: في الحالات المتوسطة من الاكتئاب، تأتي أفضل النتائج عادة من مزج الأدوية بالعلاج النفسي الكلامي. وفي الحالات الشديدة، قد لا نبدأ العلاج النفسي إلا بعد العلاج الدوائي. علينا أن نبدأ في تغيير كيمياء الدماغ المسبِّبَة للاضطراب بشكل أسرع يسمح للعلاج النفسي بالتدخل.

عائلات الأدوية النفسية كثيرة، واختيار الطبيب دائمًا يعتمد على نوع الاضطراب وشدته، والحالة العضوية العامة للمريض. الضغط وأمراض الكبد مثلًا تجعلنا نستبعد أنواعًا من الأدوية وتعطي الأولوية إلى أخرى. لا يجازف الطبيب بالحالة الصحية العامة للمريض لعلاج اضطراب نفسي، وكذلك لا يجازف بها لتلافي عَرَض جانبي لدواء يراه أفضل.

لا أعرف مصدر أسطورة إدمان الأدوية النفسية.

ربما ارتبطت بمجموعة المنوِّمات «بنزوديازبين»، وشقيقتها الأقدم «باربيتيورات» التي تسبب نوعًا من «الاعتمادية الجسدية»، وهو المفهوم الأقدم والمحدود للإدمان. تطوَّر هذا المفهوم في الوقت الحالي ليرتبط بالسلوك الإدماني، وليس المواد التي تسبب اعتمادية جسدية في حد ذاتها. كأن تقضي وقتًا طويلًا في البحث عن المادة واستخدامها والتفكير فيها، أو تناول كميات أكثر مما انتويت، أو الاستمرار في السلوك الإدماني رغم الخسائر الجسدية والاجتماعية والنفسية.

هناك مواد أكثر ميلًا إلى أن تسبب الاعتمادية أكثر من غيرها. لكن هذا لا يعني أن تناولها تحت إشراف طبي يجعلك مدمنًا لها. غالبية الأدوية النفسية لا تسبب اعتمادية جسدية أو نفسية.

الانتباه مبكرًا إلى التدهور الوظيفي وظهور الأعراض النفسية يحسِّن نتائج العلاج.

كقاعدة عامة في الطب، يبدأ الطبيب بأقل جرعة مؤثرة من الأدوية، ثم يعدِّلها وفقًا لحالة كل مريض. قد يُدرج الطبيب جرعات الدواء في بداية العلاج، ويسحبه كذلك تدريجيًّا في النهاية. هذا التدرج مرتبط بتغيُّر حساسية مستقبِلات المخ باستمرار، فيجنِّبك أكبر قدر ممكن من الآثار الجانبية لتقديم الدواء أو انحدار نسبته في جسمك. ولا يعني أنك أصبحت معتمدًا عليه.  

بعض الاضطرابات تستلزم علاجًا طويلًا، وأحيانًا مدى الحياة. لا يستطيع الطبيب النفسي أن يتوقع مسار المرض، لكن يمكنه أن يتابع التغيرات الجديدة: منحنيات التحسن والتدهور. على هذا الأساس، يقرر استمرار العلاج أو توقفه. تكرار نوبات نفس الاضطراب على فترات قريبة قد يعني استمرار الأدوية لفترات أطول، أو تناولها بهدف وقائي.

لذلك، فإن الانتباه مبكرًا إلى التدهور الوظيفي وظهور الأعراض النفسية يحسِّن من نتائج العلاج.

من المواقف المتكررة أن يقرأ مريض ما النشرة المرفَقة بالدواء فينزعج، أو ينصحه الصيدلي بالتوقف عن الدواء فورًا لأنه ليس لحالته. «فالبروات الصوديوم» مثلًا دواء يُستخدَم لعلاج نوبات الصرع، لكنه كذلك من الأدوية المثبتة للمزاج التي نستخدمها كثيرًا في الاضطراب ثنائي القطب ونتائجها جيدة.

كثير من الأدوية النفسية تتداخل خواصها العلاجية، ويمكنني كطبيبة استخدامها في أكثر من عرض أو اضطراب. العلامة التي تضعها الشركة المنتِجة للدواء لا تحدُّني في استخدامه لتشخيص أو عرض معين. بل إن بعض أدوية الأمراض الباطنية لها خصائص علاجية نفسية أيضًا. لذلك، وجِّه أسئلتك عن دوائك إلى طبيبك المعالج. إنه يعرف لِمَ اختاره، وسيخبرك بالآثار الجانبية التي يمكن أن تتوقعها.

الطبيب لا يرد على اتصالاتي/لم يقبل صداقتي على فيسبوك

يستهلك العلاج النفسي جزءًا غير محسوب من «إنسانية» المعالج. لذا، نحتاج إلى حصر هذه العملية في وقت ومكان محددين، خارجها نعيش حياة عادية.

في بدايات العلاقة العلاجية، ينتابك فضول لمعرفة خلفية المعالج. تبحث عنه على فيسبوك، قد تشعر أنك تحبه أو تكرهه. بلغة العلاج النفسي، يُسمى هذا «الطرح»، بنوعيه الإيجابي والسلبي. الطبيب يلعب دور الشخص الذي يستمع ويهتم، أو يذكرك بشخص مهم في حياتك بشكل لاواعٍ، وهذا يستدعي مشاعر في الغالب لا تعرف مصدرها نحو المعالج، غضب أو حب.

هذه المشاعر مقبولة تماما في إطار العلاج النفسي، بل إن المدارس التحليلية تعتمد على هذا «الطرح» في إحداث التغيير المطلوب للتحسن. في الطرق العلاجية الأخرى، لا يمكن تجنب الطرح خارج غرفة العلاج، فالمعالج أو الطبيب هو نفسه، بذاته.

قد يؤدي تداخل ما تراه مع حقيقة المعالج النفسي في الحياة الخارجية. لو حاولت أن تتابع ما يكتبه على فيسبوك/تويتر مثلًا، أو ما تراه في لقاءاته التلفزيونية لو كان طبيبًا مشهورًا، ما تعرفه عن اهتماماته، انتماءاته الفكرية أو الدينية، ما يحب وما يكره، كل هذا قد يخلق صراعًا يجرف العلاقة العلاجية بعيدا عن هدفها.

قد يختار المعالج أن يكشف عن أشياء تخصه داخل غرفة العلاج أو خارجها، لكنه ليس صديقًا، ولا يجب أن يسعى للتعرف إليك خارجها.

التواصل مع المعالج في صورته الأمثل يتعلق بحالات الطوارئ (آثار جانبية خطيرة من الدواء، محاولات انتحار). وقد تصادف معالجك/طبيبك في مكان عام، لكنه في «واقع مثالي» لن يلقي عليك التحية إلا إذا رغبت أنت في ذلك وبدأت به، وعادة لن يتبادل الكلام معك طويلًا. لا يجب أن تأخذ هذا على محمل شخصي.

في نفس الوقت، يستهلك العلاج النفسي جزءًا غير محسوب من «إنسانية» المعالج. لذا، نحتاج إلى حصر هذه العملية في وقت ومكان محددين، خارجها نعيش حياة عادية. على عكس الشائع، الطبيب النفسي لا يحلل كأنه آلة فحص في المطار.

أداتي الأساسية هي عقلي

يتقاضى الأطباء النفسيون في عياداتهم ما يبدو أنه أكثر من اللازم، لأن عدد عملائنا أقل، في نفس عدد الساعات التي يعملها طبيب في تخصص آخر.

مهارات العلاج والخبرة الإكلينيكية هي القوة اللامرئية في غرفة العلاج. على عكس فروع الطب الأخرى، لا أفحص بالسماعة ولا يساعدني تحليل معين على التشخيص. أدواتي هي عقلي وتدريبي، سنوات من تراكم الخبرات والتدريب توسِّع ما أراه، وما أراه استبطان وتحليل لكلام عملائي أو عائلاتهم.

أبدو كما لو كنت أمتهن مهنة سهلة. وراء الأسئلة التي تبدو لك سلِسَة وتلقائية في المقابلة الأولى، تدريب يجعلها كذلك، وغرض محدد لاستبعاد أسباب الشكوى وتفنيدها.

الطبيب الباطني يمكنه أن يرى ثلاثة مرضى في الوقت الذي أستغرقه أنا في فحص مريض واحد أو إنهاء جلسة نفسية. لذا يمكنني أن أرى عددًا محدودًا فقط من العملاء في اليوم الواحد، وممارستي للعلاج النفسي تحدُّ من العدد والوقت أكثر. المجهود المبذول يستلزم عددًا محتمَلًا من المرضى وأوقات راحة جيدة كي لا أصل إلى «نقطة الاحتراق» (Burnout).

ربما لهذا يتقاضى الأطباء النفسيون في عياداتهم ما يبدو أنه أكثر من اللازم، لأن أدواتنا ليست مادية ملموسة، وعدد عملائنا أقل في نفس عدد الساعات التي يعملها طبيب في تخصص آخر.

الواقع يختلف في المستشفيات الحكومية. أنا لا أتحكم في عدد المرضى المفحوصين في اليوم الواحد، ساعات العمل والإجازات محددة مسبقًا، راتبي ثابت مهما تكن خبرتي أو جودة الخدمة التي أقدمها. لكنها أماكن توفر خدمة معقولة بأسعار مناسبة وتستقبل أعدادًا هائلة من المرضى يوميًّا.

لا، نحن لا نتقاضى أموالًا هائلة. هذا العام كان عليَّ أن أختار بين تدريب متخصص في العلاج الجدلي السلوكي، ومصروفات دخولي امتحانات التخصص.

قلق المعالج/الجانب الآخر

يسألني مشرفي: قلتِ إنك لا تحبين «م» وتُشعِرك بالتوتر. هل تعرفين السبب؟

«م» مريضةُ بالقلق، تعاني في علاقاتها القريبة. قصتها تستدعي جزءًا مؤلمًا من تاريخي الشخصي. التشابه بين خبراتنا يشبه الصراط الرفيع. إما أن أتدخل أكثر من اللازم بمشاعري الموجودة، وإما أنفصل عما تعانيه هي لأجنب نفسي الألم. أرى أنماطها ودفاعاتها بوضوح، لكن كلانا، أنا ومشرفي، يعرف أن الوقت المناسب للتدخل في تغيير أنماط تفكيرها لم يحن بعد.

تقول صديقتي، المعالجة كذلك، إن مرضانا يأتون أحيانًا على صورة أكثر تطرفًا من أوجاعنا الشخصية، أوجه أخرى مما نحبه أو نكرهه فينا، تستلزم شجاعة النمو الشخصي على الألم، أو شجاعة الاعتراف بالعجز عن المواجهة.

يقولون إن المعالج محايد، فأبتسم. المعالج «غلبان»، يسعى نحو الحياد فيخطئ ويصيب. يأتي الحياد الحقيقي من آلة لا تشعر ولا تتحرك داخليًّا.

في غرفة العلاج، قد أشعر بأن الوقت ثقيل أو يتعكر مزاجي دون سبب واضح. أغضب، أتوتر، فيطفو السؤال المعتاد. هذا ما أشعر به حاليًّا أم ما يشعر به عملائي، أم ما أشعر به أنا تجاههم في العموم؟

الإجابة لا تأتيني بسهولة. أقرأ ملاحظاتي في الجلسة، أرجع إلى مشرفي الأكثر خبرة، أتشاور مع زملائي، أقرأ في موضوع محدد، أو أُنحِّي المسألة عن تفكيري وأسمح لنفسي بالشعور بالإرهاق. إحدى المهارات الصعبة التي علَّمتها إياي المهنة هي استكشاف مشاعري اللحظية، تسميتها، وصفها، الاستدلال عليها، وهي مهمة لا تنجح في كل الأوقات.

أحيانًا أخرج من العيادة برغبة في المشي الطويل، أو ممارسة أي نشاط مرح، أحاول أن أنصت إلى جسدي. تقول إحدى المعالجات بالحركة إن جسمنا يختزن الخبرات المؤلمة ويستدعيها عند اللزوم. أفكر في أجساد مريضاتي المكتئبات: كيف يتغير حجمها بالتضخم أو الانكماش، وكيف تنظرن إلى أنفسهن في المرايا، ومعنى الأعراض الجسدية التي تصاحب مرضهن.

يقولون إن المعالج محايد، فأبتسم. المعالج «غلبان»، يسعى نحو الحياد فيخطئ ويصيب. يأتي الحياد الحقيقي من آلة لا تشعر ولا تتحرك داخليًّا.

أكتب هذا الكلام، وأنا أستعد لدخول امتحان آخر جديد بعد أيام. تأكدت من أن عملائي في مناطق هادئة قبل أن آخذ إجازتي، سلَّمت مرضاي في المستشفى إلى زميل آخر. أسبوعان لا أكثر، وأعرف أنني سأعود إلى العمل في اليوم التالي للامتحان.

مواضيع مشابهة