برجوع الثورات الشعبية للشارع، والتي دشنتها الجماهير المنتفضة في السودان يوم 19 ديسمبر 2018، عادت نقاشات قضايا المرأة في الثورة ومدى شمولية هذه الأخيرة لتطال كافة أنواع القمع والاضطهاد الممارَس من الحاكم ضد الشعب والرجل ضد المرأة.
النزول للشارع من أجل إسقاط النظام ومطالب الحرية والكرامة عادةً ما يُستثنى منها السلطة الأبوية وقمع النساء، ويُنظر إلى فتح النقاشات النسوية حول وضع المرأة على رأس أجندات الحركات والثورات الشعبية كنوع من الترف والمطالب الثانوية، وفي خطابات أكثر رجعية: تشتيت لأهداف الثورة وتآمر على المصالح العامة.
أهداف الثورات هي أهداف النسوية
تهدف النسوية إلى تسليط الضوء على عناصر القوة والعنف والتمييز لدى السلطة، والتمكين من فهم ديناميات القوة داخل التنظيم السياسي والاجتماعي، وبالتالي إسقاط الامتيازات الطبقية والاجتماعية والجندرية التي تسمح للنظام السياسي بممارسة العنف والقمع، وهو الأمر نفسه الذي يمارسه النظام الأبوي.
في كتابه «النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي»، يوضح أستاذ التاريخ هشام شرابي أن النظام الأبوي هو «الهيمنة المطلقة للأب في صورتها البيولوجية أو الاجتماعية على مستوى العائلة، أو الرجل في مقابل المرأة، أو الأب في صورته السياسية ممثلًا بالحاكم. أي إنه في المجال الذي تسود فيه القوة على حساب الحجة»، وهذا ما يجعله يخلص إلى أن «غياب المساواة بين الرجل والمرأة يُغيب مبدأ المساواة في المجتمع ككل».
هنا يأتي السؤال: كيف يمكن أن تنجح أي ثورة ترفع شعار الحرية والكرامة وتنادي بالنضال ضد الظلم والدكتاتورية، دون أن تمس البنيات الاجتماعية والسياسية التي تمارس قهرها على الفئات المضطهَدة، وعلى رأسها النساء؟
النساء وقود الثورات
لم تتأخر النساء في أي ثورة، سواء ضد الاستعمار أو الأنظمة الشمولية، في النزول إلى الميدان جنبًا إلى جنب مع الرجال، وكافحت المرأة من أجل أن تخرج إلى المظاهرات والاحتجاجات، رغم الحصار الذي كان ولا يزال يُفرض عليها من العائلة.
بالرجوع إلى التاريخ القريب للمنطقة، نجد أن المرأة كانت إحدى عناصر ومفجري ثورات ما سُمي «الربيع العربي»، الذي لم يكن سلسلة من الثورات المطالبة بالعدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد والأنظمة القمعية فقط، بل نقطة فارقة في التاريخ النضالي للمنطقة، خصوصًا النضال النسوي.
حضرت المرأة كمنادية بالاحتجاج والنزول إلى الميدان، وغطت وأوصلت صوت آلاف المحتجين إلى العالم، وساعدت الجرحى وضحايا العنف، وكانت من المنظمين والمشرفين والساهرين على إنجاح الثورات التي هزت المنطقة العربية. وبذلك، تمكنت المرأة من كسر الصور النمطية التي أنتجتها الثقافة الذكورية عنها، ككائن ضعيف غير قادر على المبادرة أو التغيير.
ورغم أن النضال النسوي كان غائبًا تمامًا عن الساحة لسنوات وشهد فتورًا عامًا في المطالب، لم يكن هذا عائقًا، بل جعلت النساء من الثورة تحديًا لإثبات النفس، والوقوف في وجه خُطب الإقصاء والتهميش والانتقاص التي تُغرس في الوعي الجمعي، وخصوصًا في وعيهن، من الصغر.
لعبت المرأة البحرينية دوراً يُفتخر به، ولاقت نصيبها من القتل والاعتقال التعسفي والفصل من العمل والتعذيب.
في بعض الثورات العربية، استُخدِمت خطابات دينية وثقافية لإضفاء الشرعية على حجب النساء عن ساحات الاحتجاج، مثل استشهاد الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح بفتوى تحريم الاختلاط بين النساء والرجال للحد من مشاركة النساء في المظاهرات ضده، وكان الرد نزول آلاف النساء اليمنيات إلى ميدان التغيير في اليوم التالي.
لم تنجح آليات الحجب والإخفاء في منع نساء البلدان التي شهدت ثورات من تقدم صفوف المحتجين. ففي تونس مثلًا، نزلت النساء من مختلف الطبقات والتوجهات والكوادر المهنية والعلمية، وصولًا إلى الطالبات والعاطلات عن العمل، ومَن كُن محصورات في البيت والأولاد، ومنهن لينا بن مهني، المدونة المدافعة عن حقوق الإنسان، التي عُرفت بانتقاداتها لنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وهي التي ساعدت بتغطيتها للتظاهرات والأحداث في الأرياف على إيصال صوت المواطن التونسي إلى العالم.
وفي مصر، كانت النساء الآليات والأعمدة التي ارتكز إليها ميدان التحرير، لا من حيث مشاركتهن الحية في المظاهرات فحسب، بل بتسخير الجهود لمد المتظاهرين بالإعانات الغذائية والإسعافات كذلك.
أما مظاهرات النساء اليمنيات وأحرقهن أرديتهن احتجاجًا، فكانت قبسًا أشعل الثورة اليمنية وأسهم في الانتفاضة. ورغم كل ما تعانيه المرأة اليمنية من انتهاكات لحقوقها، لم تتأخر أبدًا في تلبية نداء الثورة، بل كانت لها الريادة فيها، ودفعت وتدفع إلى اليوم ضرائب رفض الظلم.
وفي البحرين، تقدمت النساء الموجة الثورية التي نزلت ميدان اللؤلؤة للمطالبة بالتغيير ومحاربة الفساد، و«لعبت المرأة البحرينية دوراً يُفتخر به (...) فلاقت نصيبها من القتل، والاعتقال التعسفي، والفصل من العمل، والتعذيب في السجون»، مثلما تقول الناشطة والكاتبة البحرينية أحلام عون.
أكبر ما حققته الثورة للمرأة أنها حررتها من كبسولة النزاع الليبرالي-الإسلامي. كانت المرأة ملفًّا يدَّعي كل تيار أنه يريد حمايته والمطالبة بحقوقه، أما الآن فقد تشكل لها كيان مستقل تمامًا عن الاثنين.
المرأة: وقودها أم رمادها؟
بالرغم من كل هذه المجهودات والتضحيات التي قدمتها وتقدمها المرأة اليوم في سبيل العدالة، فإنها لا تزال الحلقة الأكثر إقصاءً وتهميشًا حتى من دعاة العدالة الاجتماعية والتغيير، وتدفع ضريبة وجودها ضمن الحركات التحررية والثورية مضاعفةً، فهي ضمن الضحايا والمعتقلين والمفقودين، وذاقت ردات الفعل العنيفة للأنظمة السياسية القمعية من بطش وقتل وتشريد، وإضافة إلى ذلك تخضع لآليات تعذيبية أخرى أكثر بشاعة، مثل الاغتصاب والتحرش، التي استُعملت دائمًا كأدوات عقابية للنساء الذين يخرجن إلى الشارع.
«تعرضتُ للاغتصاب لمدة تزيد عن 15 يومًا، وفي بعض الأيام كان الاغتصاب يتكرر أكثر من 10 مرات يوميًّا من ضباط وسجانين مختلفين».
في ميدان التحرير، وقعت النساء والفتيات ضحايا للتحرش والانتهاك الجسدي، وكذلك التعنيف والاعتداءات الجنسية، إلى جانب الاعتقال بالطبع، كما حصل في قضية كشوف العذرية في مارس 2011، حين كشفت قوات الجيش قسرًا على عذرية 17 متظاهرة بعد القبض عليهن واحتجازهن وضربهن. وتعرضت 7 منهن للتفتيش الذاتي، مع تجريدهن من ملابسهن وتهديدهن بتوجيه تهم الدعارة لهن.
أبلغت سلوى الحسيني، التي كانت تبلغ وقتها 20 عامًا، منظمة العفو الدولية أنه بعد اعتقالها ونقلها إلى سجن عسكري، أُجبرت هي وكل النساء الأخريات على خلع كل ملابسهن من أجل التفتيش، الذي نفذته امرأة من الحراس في غرفة لها بابان مفتوحان ونافذة. وخلال التفتيش، كان جنديان ينظران داخل الحجرة ويلتقطان صورًا للنساء العاريات.
وتدل شهادات الناجيات من السجون السورية على استعمال الاغتصاب كأسلوب تعذيب ممنهج ضد المعتقلات، إذ تقول إحداهن: «تعرضت للاغتصاب لمدة تزيد عن 15 يومًا، وفي بعض الأيام كان الاغتصاب يتكرر أكثر من 10 مرات يوميًّا من ضباط وسجانين مختلفين». وتضيف أخرى: «كنا نُجبر على خلع كل ثيابنا ونقف أمامه (ضابط مخابرات) عاريات بالكامل دون أي قطعة لباس على جسمنا».
يعيش المعتقلين والمعتقلات في ظروف تعذيب فظيعة داخل سجون الاستبداد، إلا أن الأنظمة تعمد لتعذيب النساء وفق آليات ذكورية تنتهك أجسادهن كمسرح للعقاب منذ فجر التاريخ، مثل الإجهاض المميت الناتج عن التعذيب الممارَس على المعتقلات اللاتي يحملن نتيجة للاغتصاب الجماعي.
يخيل إلينا أن معاناة النساء تتوقف فور خروجهن من السجن، لكن المجتمعات الذكورية التي نعيش فيها تعاقبهن مرتين، إذ تصبح النساء المفرَج عنهن من سجون الطغاة عرضة للنبذ والوصم الاجتماعي، ويتحملن وزر ما عاننيه من اغتصاب داخل المعتقلات.
تحكي إحدى الناجيات من جحيم السجون السورية أنها الآن بالنسبة إلى عائلتها «شهيدة ماتت خلال التعذيب». هي التي قررت ذلك، وهي التي طلبت من صديقتها المحررة أن تخبر أهلها بأنها قضت في السجن، فعلت ذلك لأنها لم تكن قادرة على إخبارهم بأنها اغتُصبت عدة مرات: «خلي أهلي فخورين فيني، حرام خليهون يوطوا راسون».
الضريبة الاجتماعية للاعتقال، التي تؤديها النساء فور خروجهن من السجن، تصير بمثابة موت رمزي. تقول المعتقلة السورية مجد الشربجي إن «أغلب النساء يكن خائفات من الخروج من السجن، وخصوصًا المتزوجات، لأن المجتمع لا يرحمهن وينبذهن ويُحملهن مسؤولية ما جرى لهن من انتهاكات، وكثير من النساء طُلِّقن فور خروجهن من المعتقل».
هكذا تكون النساء وقود الثورات، لكنهن أيضًا رمادها، أكثر من يعيش فيها القمع ويدفع ضريبتها. تأثير الأدوات العقابية التي تمارَس على النساء من السلطة، كالاغتصاب والتحرش، لا يقتصر على الناجيات فقط، بل تعاني منه نساء أخريات على طريقة «الفزاعة»، إذ تستخدمه العائلة لمنعهن من المشاركة في الحراكات الثورية، فهن «حاملات الشرف» و«سمعة العائلة»، وتعرضهن لمثل هذه الجرائم يجعل كثيرًا من العائلات، بفعل سطوة الثقافة الذكورية، تفكر في «منظرها أمام الناس» أكثر من التفكير في معاناة المرأة نفسها.
الإقصاء إعادة لإنتاج النظام القمعي
عدم وجود مطالب نسوية تُرفع في كل ثورة وتتبناها شرائح الشعب، وعدم الإنصات لخطاب النسويات، وعدم منح قضايا النساء نفس المساحة والأهمية التي تنالها باقي مطالب الحرية والكرامة في شقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كل ذلك سيفاقم من معاناتهن. حتى وإن تحققت التغييرات والمطالب التي ترفعها كل ثورة وينادَى بها في كل مكان، لكن في وجود إقصاء ممنهج لقضية المرأة، فالنتيجة حتمًا ستكون إعادة للنظام الأبوي وتدوير للقمع.
في حين أنه لو دُمجت قضايا النساء في الحركات الثورية، وحُرِّرت المساحة الثورية من هيكلها الذي تقيده السلطة الأبوية، فإن ذلك سيفتح المجال لتغييرات جذرية تجعل من انهيار النظام مسألة وقت.
تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير بيئة آمنة في المجالين العام والخاص، وإسقاط الامتيازات الذكورية وإعطاء النساء حقوق متساوية ضمن نظام عادل، سيجعل أثر الثورات بليغًا في كل فئات الشعب، ولن نكون أمام سيناريوهات الفشل التي قدمتها ثورات المنطقة.
الوعي بالطبيعة القمعية في مجتمعات وأنظمة المنطقة وما يعانيه الشعب في هذه المجتمعات، دون تسليط الضوء على وضع المرأة والتطرق إليها، يبقى وعيًا ناقصًا مبنيًّا على المركزية الذكورية والإقصاء والتهميش. ومحاولة إسكات النقاشات التي تتطرق إلى الاضطهاد الأبوي، وكيف تتقاطع أوجهه في الجندر والطبقة والميول الجنسية والعرق والديانة وغيرها، لا يختلف عن سلوكيات الأنظمة التي نحاربها.
لأن الثورة السودانية اليوم، وكل ثورة ستنطلق في المنطقة غدًا، معنية أساسًا بمطلبَي الحرية والعدالة، نقول إنه لا ثورة دون ثورة نسوية، ولا عدالة دون تحقيق العدالة للنساء، وأي قفز على مشروعية المطالب النسوية في تحييد كل أوجه التسلط الذكوري وعدم إفساح المجال لسماع صوت النساء، هو إقبار للثورة نفسها.