التسعينيات: ما هي مخاوف هذا الجيل وأفكاره؟

الصورة: maxpixel

هبة الصغير
نشر في 2019/06/09

شارك في الكتابة: صابر حسام الدين


«هذا الجيل يحتاج أن يصرخ»، هكذا رد المصري يوسف جورج مواليد 1993 بكل تلقائية وغضب حينما أطلعته على نيتي لكتابة موضوع عن جيلنا، عن أهداف ورؤى جيل التسعينيات.

لم نكن ننتوي أنا وصديقي صابر كتابة أي شيء عن جيل التسعينيات حينما كنا نتشارك بعض الرؤى حيال الظرف الاجتماعي والسياسي والثقافي الراهن لجيلنا فى مصر، ولا كنا ننوي تدوين آلامنا وتساؤلاتنا بأي طريقة كانت حينما كنا نتشارك تجاربنا مع الألم والتساؤل.

ذات صباح اتصلت بصابر وأخبرته أني أريد أن أكتب شيئًا عن أهداف جيل التسعينيات ورؤيته للحياة، أريد أن أدون مشاعرهم، أريد أن نحتفظ بها للتاريخ حتى وإن لم يحالفنا الحظ في نشرها. ثم أخبرته أنني أريده أن يشاركني فيه. تحمس صابر للفكرة وبدأ كل منا في محاورة عددٍ من المعارف والأصدقاء.

وبدأنا بتأريخ بعض من مشاعر جيل التسعينيات حول الحياة، لربما أسهم ذلك في فهم ما حدث لمصر والمصريين خلال القرن الواحد والعشرين.

هبة حزين، مواليد 1990

الصورة:Nick Leonard

هبة معيدة بقسم العلاقات العامة في كلية الإعلام بإحدى الجامعات الخاصة، تعيش مع أبيها وأمها بعد أن تزوج بقية إخوتها. هبة محجبة، وتلتزم لبس التنورة الطويلة بدلاً من البنطال، تخبرني أنه يلائم ما تؤمن به من أفكار.

فاجأتُ هبة بالسؤال الذي يشغلني حينما كانت تنظر إلى عداد الحسنات الإلكتروني الذي تضعه حول إصبعها. نظرتْ إلي فى دهشة ثم ابتسمت، ثم كررت على نفسها السؤال وهي تنظر في الأرض تفكر.

كان السؤال بسيطًا: «هل لديكِ أي هدف أو فكرة تؤمنين بها وتعيشين لأجلها؟».

بعد برهة أجابت هبة: «هناك العديد من الأفكار التي أعيش بها وليس لأجلها، تلك الأفكار تنجيني، تجعلني أكمل الحياة».

صمتت ثم استطردت: «ليس لدي أي فكرة أو هدف إلى الآن أعيش لأجله». شعرتُ بملامح هبه تنتقل إلى الحزن بعد تلك الجملة، لكنها بعد صمت أخبرتني أنها في أحيان كثيرة تختار ألا تفكر في هذه التساؤلات الكبيرة حتى لا تدخل في دائرة الاكتئاب، وأن هدفها الآن أن تُسعد نفسها ليس إلا.

الحياة بالنسبة لهبة تجربة شخصية، كان من الممكن أن تكون أسوأ لو ولدت فى ظروف مغايرة لأب وأم مختلفين، أو كان من الممكن أن تكون أفضل، لا أحد يعلم. تلك التجربة الشخصية طبقًا لما تراه هبة يتدخل القدر فيها بشكل أو بآخر.

إسراء سعد، مواليد 1993

الصورة : Zaid Abu Taha

إسراء محامية رسمت مستقبلها بنفسها، ووضعت الخطوات التي ستسير عليها، لتجد الدنيا تعرقلها رغمًا عنها، تهزمها فتتساقط منها أحلامها، وتعبر عن ذلك بقولها: «الناس كلها بتجري، وأنا محلَّك سِر».

بعد كل مجهود نبذل، نحب أن نرى النتائج. تقول إسراء: «تخيل أنك تزرع الورود ولا تجني إلا الشوك، وبدلًا من أن تستمتع بجمال الورود، تعود إلى بيتك بيدٍ دامية».

لكن رغم كل ما مضى من هزائم في حياتها، فإنها تؤكد أن لديها العزيمة لتكمل الحياة وتنتصر. بالنسبة لها، الحياة دون مجهود عدم، فأن تُهزم في الحرب خير من أن تخسر في بيتك.

معاذ محمد، مواليد 1995

قابلتُ معاذ في إحدى الندوات، عرفني إليه أحد أصدقائي في استراحة الشاي. أخبرت معاذ عن الموضوع سريعًا ورحب بأن يتحدث إلي. سألته نفس السؤال الذي سألناه للجميع بصورة مباغتة: «هل لديك أي هدف أو فكرة تعيش من أجلها؟».

ضحك وقال: «تسألينني هذا السؤال بعد يوم من حادث قطار محطة مصر؟».

معاذ طالب في السنة الخامسة من كلية الطب البشري بجامعة الأزهر، يعمل مدربًا في برنامج الصحة الإنجابية والجنسية مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، ولديه ضحكة طفولية مميزة ووجه مريح. يعيش في القاهرة، بينما يعيش أهله في مدينة طنطا في الدلتا.

كلما كنتَ في دوائر اجتماعية مكونة من أناس تحبهم وترتبط بهم، يبدأ معنى الحياة بالنسبة إليك في التشكل.

كانت إجابة معاذ: «تسيطر علي هذه الفترة فكرة أن أصنع شيئًا من أجل الآخرين، حتى يذكرني الناس بالخير أو حتى أترك أثرًا جيدًا وإن لم يذكرني الناس، فأنا خائف من موت الفجأة، ترعبني هذه الفكرة التي أضحت تدور في مخيلتي منذ ما يقرب من عام. كثيرًا ما أركب القطار والمترو وشتى وسائل المواصلات التي يموت فيها الناس ميتات غريبة. تسألينني هذا السؤال بعد حادث القطار بيوم واحد، وهذا يجعلنى أكثر خوفًا وأكثر تمسكًا بالفكرة».

يخبرني معاذ أنه، بغض النظر عن الأحلام التي تراوده عن موت الفجأة، فإنه على الجانب الآخر يعد نفسه شخصًا متفائلًا. وعندما سألته عن معنى الحياة بالنسبة له، تحدث عن أن معنى الحياة يحدده شكل علاقتك بمن حولك، أي مدى ارتباط الناس ببعضهم بعضًا، فكلما كنتَ في دوائر اجتماعية مكونة من أناس تحبهم وترتبط بهم، يبدأ معنى الحياة بالنسبة إليك في التشكل.

مدحت العاصي، مواليد 1998

الصورة: Kaique Rocha

«أنا عايز أدخل التاريخ، مش عايز أعدي حياتي كأني ماجتش».

يخبرنى مدحت بعدما طرحت عليه السؤال المعتاد أنه يريد السفر خارج البلاد، ربما إلى فرنسا أو ألمانيا، يريد العمل لمدة تمكنه من جعل عائلته تعيش معه في البلد الذي سيسافر إليه، ثم يعود يومًا إلى مصر مرة أخرى.

يقول: «أريد جني مزيد من المال. ربما لا يجلب المال السعادة، لكنه يحميك من المهانة. ورغم أنني أدرس هندسة الاتصالات في جامعة بنها، فأنا لا أعرف ماذا أريد أن أكون حتى الآن. أؤمن بنفسي وبما يمكنني فعله، وهذا ربما يجعلني في حيرة من أمري: هل هذا المجال يناسبني لإبراز كل مواهبي، أم أن هناك مجالًا آخر يمكنني عمل المزيد فيه؟».

يستطرد قائلًا: «أفكر كثيرًا في شأن الدنيا التي أتمني أن يُخلد اسمي في تاريخها، رغم أن هذا الإنجاز لن يكون لي، لن أشعر ربما بقيمته، هو لمن خلفي من الأبناء والأحفاد إذا لعب الشيطان في عقلي وتزوجت. أشعر في كثير من الأحيان أن الحياة ليست مهمة، وهذا يكسبني في بعض الأوقات برودة أعصاب».

يفكر مدحت أننا نحيا فنموت، وبين الفعلين بعض الأفعال ثم ينتهي كل شيء. وفي اللحظات التي يرى فيها الحياة بهذا المنظور، يشعر بهوانها، لكن لا مفر من العيش فيها، خوض معاركها مرغمًا، والاستمرار حتى النهاية. يقول: «ما دمت سأجرب حياة، فلا بد أن تكون عظيمة».

منة الله كمال الدين، مواليد 1995

الصورة: Eutah Mizushima

أجلس بجانب منة، ننتظر أستاذ الدستور الفرنسي كي يقدم لنا محاضرة باللغة الفرنسية عن العدالة الانتقالية، في المعهد الفرنسي بالقاهرة. تنظر إلي منة بعينيها البنيتين وهي تضع شعرها البني الفاتح خلف أذنها بينما أسألها السؤال المعتاد.

منة طالبة في كلية الحقوق الفرنسية، عملتْ لفترة مع المؤسسة المصرية لحقوق اللاجئين، تجيد الإنجليزية والفرنسية، تحب الكتابة. تجيب: «ليس لي هدف قوي، لكن لدي مشروع للتعرف إلى ثقافة الآخر، وقد بدأت فيه بالفعل بمشاركة متطوعين من دول العالم، وهو الآن طور التنفيذ، سأحزن إن لم أكمل ذلك على ما أظن».

سألتها: «منة، ما الحياة بالنسبة إليك؟ كيف تصفينها؟». فكرتْ قليلًا ثم قالت كلمة واحدة: «محايدة».

لم أفهم، سألتها مستوضحة: «كيف يكون الإنسان محايدًا نحو الحياة التي يحياها؟».

ردت: «أقصد أننا نحن من نعطي الحياة القيمة والمعنى. أنا أضيف معنى إلى حياتي، ليس الحياة العامة بل الشخصية، فلم تعد الحياة العامة تعنيني. لا يمكنني أن أعدِّل شيئًا في الحياة الكبيرة، سيظل هناك شر وخير ومشكلات وحروب وحزن وسعادة، ستظل هناك حياة وموت».

تضيف بحسرة: «قبل ثماني سنوات كنت أريد أن أضيف شيئًا وأغير العالم، لكن حينما عملت مع الأمم المتحدة على ملف اللاجئين وسمعت قصصهم والأهوال التي تعرضت لها اللاجئات من اغتصاب وخلافه، أيقنت أنني لا يمكنني أن أغير أي شيء في هذا العالم، أنا لن أغير أي شيء».

سارة يوسف، مواليد 1997

الصورة: Riccardo Bresciani

فكرتْ سارة، التي لا تزال طالبة جامعية، طويلًا حين طرحتُ عليها السؤال، ثم قالت: «أهدافي كل يوم بتتغير، بس أعتقد الهدف الثابت هو إني أترك أثر طيب في الدنيا قبل ما أمشي».

الحياة دار ابتلاء، تلك هي الحقيقة الثابتة التي نصل إليها جميعًا في النهاية.

في الفترة الأخيرة، رحل من حول سارة كثير من الأصدقاء بالموت، وكانوا جميعًا لهم أثر طيب في حياتها. وقد زاد هذا من شعورها بأهمية أن تمر في الدنيا خفيفةً على قلوب من حولها، لم تؤذِ أحدًا، ولا يحمل أحد عنها ذكرى سيئة. ربما يكون الأثر الطيب كلمة أو نصيحة أو موقف بسيط لا يُنسى.

تتمنى سارة لو أمكنها تكوين أسرة مترابطة فى المستقبل، فهي تخاف الوحدة ومفارقة الأحباب كثيرًا، تخاف أن تُترك وحدها دون رفاق، فإن تفرقت الصحبة هلكتْ من مجرد اللمس.

«الحياة دار ابتلاء، تلك هي الحقيقة الثابتة التي نصل إليها جميعًا في النهاية. كلٌّ مبتلًى في شيء، من يدرك ذلك يعيش راضيًا وربما سعيدًا، لكن هناك من تتراكم عليهم الأحزان حتى تهزمهم وترهقهم دون جدوى، ودون شك فالله يشاهدنا في السماء ويعرف ما تعرض له كل واحد منا، ولا ينسى ذلك أبدًا»، هكذا تختتم سارة كلامها.

سيد محمد (اسم مستعار)، مواليد 1990

الصورة: Quintin Gellar

«أنا ماعملتش أي حاجة من اللي نفسي فيها تقريبًا لحد دلوقتي، أنا داخل على سن التلاتين ومالمستش واحدة ست».

يبث صديقي يأسه في الجملة السابقة، ثم يخبرني أن أحلامه حاليًا تكمن فقط في أن يمر الوقت، أن يمضي قدمًا في الحياة دون كارثة. الأمل أصبح مؤذيًا، هكذا يصفه، فقد تحولت أساسيات الحياة بالنسبة له إلى أمنيات صعبة المنال.

يعمل سيد محاسبًا في واحد من المصانع الحكومية، يشعر أن الزمن يمسك مطرقة ويضرب بها على ظهره، وأن سرعته وقوة الضرب تزداد مع الأيام، بينما تنعدم مقاومته.

يقول: «يُضحكني سؤالك لأنه متأخر. يمكنك أن تسأله لشاب مثلك في بداية العشرينات، أما أنا فلا أفكر في أهداف وأحلام، أعيش فحسب. كنت أعتقد أني سأكون إنسانًا آخر، ناجح ومتزوج ولديه ابن وابنة وسيارة وبيت في منطقة راقية، ولم أحقق أي شيء من هذا، وربما لن أحققه أبدًا. في البداية كنت غاضبًا، ثم تحول غضبي إلى رضا، ثم إلى سكون. هل تعلم معنى أن يسكن المرء بعد كثير من الجري، راغبًا في النهاية؟ هذا ما أنا عليه الآن، بالله عليك ماتقلَّبش علينا المواجع وغيَّر السيرة».

رنا علام، مواليد  1996

الصورة: Kat Smith

عندما طرحتُ عليها السؤال ردت ضاحكة: «اخترت الشخص الغلط خالص للسؤال ده، لو لقيت الشخص اللي لقى هدف دلني عليه».

لا تملك رنا، خريجة كلية الألسن قسم لغة ألمانية، هدفًا واضحًا رغم عملها مع كثير من مؤسسات المجتمع المدني. تكمل رنا الحياة راغبة في اكتشاف المزيد، في معرفة الأشياء التي لم تعرفها بعد. تخبرني بأنه أشبه بشعور الوقوف أمام كل الحلوى في المحل، وعدم العثور على ما يرضيك أبدًا، ربما لأنه ليس متاحا في المحل بعد، مع أنه قد يكون بسيطًا، بسيطًا جدًا لكن يكفي لإسعادنا. تقول رنا إن هذا هو ما تبحث عنه لكنها لم تجده حتى الآن.

تفاجئني قائلة: «هذا ما يبعد فكرة الانتحار عن رأسي، رغم أنه قرار شجاع جدًا، لأن ما أردته من تلك الرحلة لم ينتهِ بعد. أظن أن الإنسان يعيش حياته بالكامل ميتًا، إلا في لحظات قليلة يشعر فيها أنه حي وما زالت أنفاسه تتحرك بداخله. تلك هي اللحظات التي نتعرى فيها من الخوف، أو تدق قلوبنا بالحب، أو تلمع أعيننا أمام أي جمال، كأنه يضيء شيئًا في روحنا، ما نسميه بالنشوة، أو ما تعطيه لنا الحياة لنواصل السير. الحياة ككل ليست مهلكة ولا سعيدة ومنصفة، إنها محايدة، ما نفعله نجني ثماره».

أحمد جنيدي، مواليد 1995

الصورة: Kat Jayne

كان أحمد يبتلع قضمة من «Club Sandwiches» حينما سألته السؤال المعهود. ضحك حتى كاد الطعام يقف في حلق ويمنع الهواء من الدخول. سألته عن سبب ضحكه فقال: «لم أتوقع أن يسألني أحد مثل هذا السؤال وأنا آكل».
جنيدى خريج هندسة مكانيكية ويعمل مصمم ألعاب، ذلك بالإضافة إلى عمله بالتنمية مع مشروعات ذات صلة ببناء السلام. يخبرني أنه يتعلم الرقص المعاصر، ويؤكد ضرورة أن أضيف هذا إلى الجزء الخاص به.

يقف أمامي في قميصه الأخضر المزركش ويجيب بثقة دون تردد: «أنا مؤمن مسلم، وكل تصوراتي الكونية نابعة من هذا الإيمان. أنا موجود كي أتَّصف بصفات الإله على الأرض». أسأله: «أفهم من ذلك أن هدفك هو أن تكون مثل الإله على الأرض؟». ويرد: «أقصد الاتصاف بالصفات البشرية الموجودة التي مصدرها الإله، أعني بذلك نصرة المستضعفين والعدل والرحمة والحكمة، تلك أهدافي».

يستطرد جنيدي موضحًا أنه فكر في الحياة والهدف منها قبل ذلك، وأنه استنتج أن الحياة لها معنى، وذلك المعنى موجود، وطالما أنه موجود فهناك من أوجده. الألم بالنسبة له هو الأساس الذي بُني عليه هذا التصور، فالألم النفسي له علاقة بفكرة أن هناك شيئًا أفضل، أن هناك تصورًا أمثل لك كإنسان، وأنت ابتعدت عن ذلك التصور ولهذا تتألم.

يوسف جورج، مواليد 1993

الصورة: pxhere

نظر يوسف إلى المنضدة وبدأ يفتح عينه ويغلقها في حركة انفعالية تعودتها منه. فكر يوسف مليًا ثم فاجأني بأن لديه ثلاثة أهداف.

أنا ويوسف أصدقاء منذ سنتين، ولم يخبرني يومًا أن لديه أهدافًا في الحياة بعد التخرج.

أعلم أن لديه أهداف قبل التخرج، لكن الكثير منها لم يتحقق، ودائمًا يخبرني أن الحياة كئيبة بشكل لا يوصف، وأن عمله مهندسًا للبرمجيات برغم أنه يدر عليه دخلًا جيدًا فإنه يكبله ويمنعه من أن يعيش الحياة كما يريد.

يقول يوسف: «أول هدف أن أحصل على جائزة نوبل في الفيزياء، ولو أن هذا الهدف لم يعد قويًا مثل السابق، لأني أرى كثيرًا ممن يستحقون الجائزة لا يحصلون عليها لسبب أجهله. أما الهدف الثاني فأن أصل إلى تطوير نوع من الذكاء الاصطناعي، يتعلم ويطور نفسه ذاتيًا، ويكون له وعي يشبه الذكاء البشري، وسأفعل ذلك فقط من أجل التسلية. أما ثالث الأهداف فأن أعرف كيف بدأ كل شيء. حين أفكر أنه من الممكن ألا يكون هناك إله، أفزع، إنها فكرة مرعبة، فكرة تعني أننا لا شيء، وأن كل تجاربنا في الحياة لا معنى لها، فكل شيء سيختفي إلى الأبد دون رجعة».

أسأله: «يوسف، ما الحياة بالنسبة لك؟ هل هي صعبة، سهلة؟ لها معنى أم لا؟».

يرد: «الحياة بعد التخرج مملة نوعًا ما. لست من هواة النوم مبكرًا رغمًا عني، كي أستيقظ كل يوم مبكرًا رغمًا عني أيضًا، وأذهب إلى العمل ثم أعود إلى البيت ولا أجد وقتا كي أفعل أي شيء لنفسي. أحب الحياة والحرية، لكني لا أعرف كيف أعيشها مع وجود العمل وأشخاص يُملون علي ما يجب أن أفعل وما لا يجب أن أفعل».

يستطرد يوسف: «هذا الجيل يعاني، يريد أن يصرخ. نحن مفروض علينا أن نتعامل كأشخاص ناضجين، أن نستسلم للحياة ونستيقظ مبكرًا ونذهب للعمل كل يوم، أن نبرر حين نترك العمل بأننا تركناه لأننا نبحث عن تحدٍّ جديد وليس لأننا نكرهه».

هبه الصغير، مواليد 1991، إحدى كُتاب الموضوع

الصورة: pxhere

هل يستوي طعم الفاكهة التي تُزرع في غير موسمها بالفاكهة التي تُزرع في موسمها؟ أخاف كثيرًا أن تأتي فرصة تحقيق الأهداف بعد رحيل حماستي تجاهها، بعد الموسم الصحيح لزراعتها وجنيها.

فى الماضي كانت لدي أهداف، خصوصًا بعد ثورة يناير. لم يكن أحد يتوقع أن ينهض الناس فى 25 يناير، ظننت أنا وزملائي في الجامعة أنهم نيام، كنا نتناقش ونقول إن الثورة أوهام حتى لو اندلعت في تونس. لكن عندما قامت فعلًا، تحمس الجميع، وظنوا كطفل صغير أن كل تلك الأشياء التي نكرهها في بلدنا ستلقى حتفها قريبًا وتفنى إلى الأبد.

تخرجت في عام 2013 أي بعد الثورة بعامين، كانت ملامح فشلها قد بدأت تظهر بالفعل لكني تمسكت بالأمل رغم كل شيء. كان من أصدقائى من له رؤية تسبقني وقد عرفوا أنه لا سبيل لهم هنا، لذا بدأوا الارتحال إلى الخارج، سافر كثير منهم للدراسة أو العمل، وبقيت أنا هنا متشبثة بالأمل ومعي القليل من الأصدقاء.

كنت أريد أن أفيد الناس بأبحاثي في مجال الإعلام، كنت أريد أن أطور نظريات وأكتب قصصًا تنتشر على نطاق واسع.

لن أقول إني تخليت عن كل تلك الأهداف أو لم أحقق منها شيئًا، فقد كتبت رواية ونشرتها، غير أنها لم تنتشر على نطاق واسع، وحاولت في مجال البحث العلمي ولا زلت أحاول، لكن الطريق صعب ومضنٍ ومليء بالعراقيل، وحماستي تقل رويدًا رويدًا.

أحيانًا أستيقظ من نومي ولا أعرف لماذا أشعر بالقلق، ليس لدي أي هدف فى الحياة أستيقظ لأجله، ويعزيني في أحيان غيتاري، الذي تعلمت العزف عليه منذ ثلاث سنوات أو يزيد، وهو من الأهداف الصغيرة التي حققتها فعلًا.

لكن يبقى الخوف من شحوب الأمل واختفائه تدريجيًا مع اقتراب الثلاثين دائمًا، وقاتلًا لفرحتي بأي شيء أحققه.

صابر حسام الدين، مواليد 1999، أحد كُتاب الموضوع

الصورة: pxhere

أنا صابر حسام الدين، أبلغ من العمر 20 عامًا. أنعت نفسي بالكاتب لأني لا أجد شيئًا آخر يمكنني أن أقوله بعد اسمي غير ذلك. أحب الموسيقى والمقاهي القديمة ولوحات العصور الوسطى.

لدي أحلام تندثر بمرور الأيام، كأني أتضاءل أمام العالم مع أوراق النتيجة (الروزنامة). في بداية الأمر، نبدأ الرحلة بخيال سينمائي: سنصبح أغنياء ومشهورين، نعيش قصص حب عظيمة، نغير تاريخ البشرية بما سنصنعه في عملنا الذي لم نعرفه بعد. بعدها نصطدم بالواقع: نسقط من سابع سماء على الأرض مرة واحدة، ونعلم أن أمام كل وردتين في المدينة أبراجًا من القمامة. تتبدل الأحلام وربما تفنى من الأساس. إنها اللحظات التي يكفر فيها المرء بما سمعه منذ طفولته، وتتساقط من حوله جدران الأمان بمجرد أن يميل عليها. يكفر بالأمل، بالشعارات السياسية، بهراء الأساتذة الجامعيين عن المستقبل، يكفر بما هو أعظم، بذاته حتى يصير قبوله لها يشقيه ويهلكه.

هدف؟ ربما كنت أملك واحدًا أو اثنين أو عدة مئات، لكني الآن لا أملك هدفًا مباشرًا وواضحًا. ربما تكون الجنة تحت قدمي وأنا أهلك نفسي بالبحث عنها على بعد مئات الأميال. أريد فقط أن أعيش سعيدًا مطمئنًا، وأن تحملني قدماي حتى الموت. يمكن أن يكون الساقي أسعد شخص في الحانة، لكن المحاسب في المستشفى الخاص لن يأخذ سعادتك ويعطيك غرفة، أو يقايض الجزار ابتسامتك بكيلو من اللحم.

أن تستحوذ على حقوقك فقط في بلادنا، إنها نعمة يجب أن تسجد شكرًا لها، لهذا أريد فقط أن أملك من المال ما يحفظ لي كرامتي، وعملًا صغيرًا، إن لم يمنحني السعادة فلن يصيبني بالحزن. أريد أن أملك جسدًا ليس رياضيًا تمامًا، لكن يمكنه التسكع من وسط البلد إلى شبرا دون أن يتعب، وفتاة جميلة تسمع حكاياتي دون ملل، وتصحح نصوصي لغويًا، وثلاثة من الأصدقاء الذين يمكنك أن تميل عليهم دون أن تسقط، وبيتًا صغيرًا يمكنني أن أستمع فيه إلى فيروز دون أن يقطع صعودي للسماء مع صوتها نفير السيارات وسباب الأطفال لبعضهم بعضًا وهم يلعبون الكرة.

أريد من كل شيء الحد الأدنى الذي يُشعرني أني أمتلكه. أريد أن أحيا سعيدًا. أحتاج الكثير من السعادة لأعالج كل الندوب في روحي.

من الممكن أن تفنى تلك الأحلام بمجرد أن أترك قلمي، وتحل محلها أخرى عادية تمامًا بعد لحظات. ربما تبدو أحلامي وكأنها تنتمي إلى اليوتوبيا، لكن من حق المرء أن ينام ليلة واحدة دون خوف.

مواضيع مشابهة