يجد الباحث متعة كبيرة في البحث عن أبعاد غير مطروقة من التاريخ المحلي أو الخليجي، ومنها البحث في ما يعتقد أنه من الجانب الهامشي والمُهَمَّش في تاريخنا الخليجي بشكل عام وتاريخ الكويت بشكل خاص.
هذا البحث قادني لأزمة مصطلحات لا زلت أبحث فيها وأحاول أن أكتب عنها بحثًا علميًا محكمًا في المستقبل القريب. هذه المصطلحات هي التاريخ الهامشي، والمُهَمَّش، والمسكوت عنه، والمُهمَل، والمحظور، والتاريخ من الأسفل، وغيرها. وقد وجدت بعض العون في كتابات الباحثين في الشرق والغرب، لكن التأطير المصطلحي لكثير منها لا ينطبق مع السياق التاريخي الموجود عندنا في الخليج، ولذا أصبح لزامًا على المهتمين أن يعرفوا هذه المصطلحات وفق السياق التاريخي الخليجي، معتمدين على أبحاث من سبقهم من الباحثين إن وجدت، أو البدء في التنظير في ذلك لأهميته.
هذا المقال يعنى بإهمال واقع على شخصية ثقافية كان لها وزنها مثل ناصر المبارك الصباح، مع التركيز على أن هذا المقال لا يعنى بالترجمة وذكر سيرة ناصر المبارك الصباح، وإنما الهدف الرئيس له تبيان أن هذه الشخصية جزء من التاريخ المُهمَل والهامشي، بالرغم من وجود وثائق ومصادر ومعلومات بإمكانها وضع هذه الشخصية الثقافية المؤثرة تحت الأضواء وإعطائها حقها التاريخي من البحث.
ومن المهم إيضاح أننا لا ندعي أن التاريخ الثقافي الكويتي بشكل عام لم يُكتب عنه وأنه تاريخ مهمل، لأننا سنذكر العديد من المقالات والكتب والأبحاث التي تناولت هذا التاريخ في الفقرات القادمة.
هذا المقال يحاول إثبات أن أجزاء وجوانب عديدة من التاريخ الثقافي تدخل تحت المظلة الكبيرة للتاريخ الهامشي، وبشكل أدق في التاريخ المُهمَل وبعض جوانب التاريخ المُهَمَّش، فالثقافة في الكويت على سبيل المثال احتكرها الجانب السني من المجتمع، مع وجود إشارات متفرقة قليلة للتاريخ الثقافي الشيعي كمُكَوّن من المكونات الأساسية في المجتمع الكويتي. ولعل أبرز من كُتب عنه هو زين العابدين حسن باقر، المعروف بذي الرئاستين.
وكنت قد اطلعت على مقال ليحيى الكندري، وفي المقال تفصيل عن دواوين شعره المطبوعة والمخطوطة. وكذلك مقال لمحمد الحبيب كما ذكره الأستاذ المرحوم خالد سعود الزيد في كتابه «أدباء الكويت في قرنين»، وله ذكر في مقالات وكتب أخرى.
فهل التاريخ الثقافي الشيعي أو الصوفي تاريخ مُهَمَّش بفعل فاعل أو مُهمَل؟ أو ربما القصور الذي عند كاتب هذا المقال صوَّر له أن هذه التواريخ مُهمَلة أو مُهَمَّشة؟ تساؤلات أتمنى من الباحثين المهتمين أن يجيبوا عليها ويناقشوها.
بيوغرافيا وتراجم أم تاريخ هامشي ومُهمَل؟
حصلتُ في الأشهر الماضية على مجموعة من الوثائق، وكان من بينها رسائل للشيخ ناصر المبارك الصباح تحتوي على الكثير من المعلومات الثقافية، من طلب للكتب والقصص واشتراكات في المجلات وغيرها من المعلومات، التي تساعدنا كثيرًا على فهم الواقع الثقافي في الكويت في بدايات القرن العشرين. حينها فكرت في الكتابة عن سيرة ناصر المبارك الصباح من الناحية الثقافية، لكنني لم أجد سوى كتاب واحد صدر عنه، وسأناقش هذا الكتاب وبقية المصادر والكتب التي تحدثتْ عن سيرته ضمن أبحاث ثقافية في الفقرات القادمة.
تساءلتُ كثيرًا: هل تاريخ ناصر المبارك الصباح هو تاريخ مُهَمَّش؟ أي: هل وقع فعل التهميش عمدًا على هذه الشخصية؟ وبعد البحث والتقصي لم أجد أن تاريخ هذه الشخصية كان مُهَمَّشًا. هل كان مسكوتًا عن تاريخيه وإسهاماته إذًا؟ الكتب والمقالات التي اطلعت عليها كانت كفيلة بإنكار هذه الاحتمالية، لم يكن تاريخ ناصر المبارك مسكوتًا عنه. فما هو هذا التاريخ، وما علاقته بالتاريخ الهامشي؟
تاريخ هذه الشخصية قد يصنف من التاريخ المهمل (Neglected History) في إطاره الضيق، ومن التاريخ الهامشي (Marginal History) في الإطار العام.
إنه تاريخ مهمل، ربما لأن أكبر إسهامات الرجل كانت منصبة في الإطار الثقافي والتعليمي، ولم يكن له دور سياسي لظروف عديدة، منها ما هو صحي لأنه كان أعمى، ومنها الاجتماعي فهو لم يكن أكبر إخوته، وكذلك شخصيته التي اهتمت بالعلم أكثر من أي شيء آخر. إذًا إسهام الشخصية الثقافي هو المهمل وليس شخصية ناصر المبارك ذاتها، وهذا فارق يجب إيضاحه قبل التفصيل في المقال، ومثله كثير في تاريخنا الإسلامي والتاريخ العالمي كذلك، ولو بحث الإنسان في الشبكة العنكبوتية تحت مسمى التاريخ المُهْمَل لَوَجَدَ العديد من المواضيع التي تندرج تحت هذا التصنيف.
من جانب لغوي، فلفظ «الهامشي» من قولنا «التاريخ الهامشي» مأخوذ من الجذر اللغوي «هَمَشَ»، إذ فيه دلالة على الترك، أما «الهامش» فهو الزائد، ولذلك نضع المعلومات الزائدة في هامش الكتاب لا في متنه، أو نقول همَّش الكتاب أي أضاف معلومات على حاشية الكتاب وهامشه، كما يَصِحّ إطلاق هذه الكلمة على الموضوع، فنقول: همَّش الموضوع، أي جعله ثانويًا فهو ليس من صُلب اهتمامه.
أما لفظ «المُهمَل» من قولنا «التاريخ المُهْمَل» فهو من الجذر «هَمَلَ»، فالهَمَلُ: السُّدى المتروك، ويقال: نَعَمٌ هَمَلٌ أي مهملة لا راعيَ لها، والكلام المُهملُ ضِدّه الكلام المستعمل. فالتاريخ المُهمَل تاريخ في الهامش؛ لأنه وقع عليه فعل الإهمال فصار لا قيمة له في ما كُتِب من التاريخ، فصار هامشيًا لا مُهَمَّشًا؛ لأن التاريخَ المُهَمَّش تاريخ يقع عليه فعل التهميش عمدًا، أما التاريخ الهامشي فهو التاريخ المتروك، ومنه التاريخ المُهمل الذي نتناوله اليوم.
أما البيوغرافيا (Biography) فهي كتابة السِّيَر الشخصية مثل كتب التراجم في التاريخ، كمثل ما كتبه الذهبي في «سير أعلام النبلاء»، أو الزركلي في «الأعلام». وفي تاريخنا الكويتي كتاب محمد ناصر العجمي عن عبد الله الخلف الدحيان مثلًا.
ولا أقصد هنا (Autobiography) أي السيرة التي يكتبها الإنسان عن نفسه كما فعل أسامة بن منقذ في كتابه «الاعتبار»، أو عبد الوهاب المسيري في سيرته، وكذلك علي الطنطاوي في ذكرياته، وغيرها الكثير. فالبيوغرافيا في موضوعنا تدخل في إطار إهمال ناصر المبارك الصباح، فلم يَكْتب عن سيرته الثقافية والاجتماعية أحدٌ سوى ما نقله الشيباني عن بعض المصادر كما سنرى، أو سطور قليلة ذكرها الزركلي في كتابه «الأعلام» ينقل فيها عن عبد العزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت».
إسهامات ناصر المبارك الثقافية، من وجهة نظري، تندرج تحت التاريخ المُهمَل، وهذا التاريخ يُصنف تحت التاريخ الهامشي لا المُهَمَّش. ولعل هذا المقال يوقد الحماسة في نفوس بعض الباحثين فيكتبون كتابا يُنْصِف تاريخ هذه الشخصية الثقافي، خصوصًا مع ظهور العديد من الوثائق ووجود بقايا مكتبته لدى أرشيف الديوان الأميري، للكتابة البيوغرافية عنه، أو نقل تراثه من التاريخ المُهمَل إلى التاريخ المستعمَل إن جاز التعبير.
البحث في الهامش: مَن كتب عن ناصر المبارك الصباح؟
ناصر المبارك الصباح هو أحد أبناء حاكم الكويت مبارك الصباح أو مبارك باشا الكبير، والذي حكم من عام 1896 حتى وفاته في عام 1915. عُرف عن ناصر إصابته بالعمى واهتمامه بالثقافة، حتى قال عنه عبد العزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت»: «كان رحمه الله شابًا ذكيًا ... اشتغل بطلب العلم على أيدي أساتذة في الكويت، فتحصّل على شيء من العلوم الدينية كالفقه والعقائد وغيرها، وعلى شيء من اللغة العربية … كان رحمه الله أعمى البصر ولكنه نَيّرُ البصيرة … تُوفّي في صفر سنة 1336».
ناصر المبارك، من وجهة نظري، لا يزال تاريخه في الهامش، وناله من الإهمال ما ناله على الرغم من وجود جهود مشكورة رصدت جهود ناصر المبارك الثقافية، وعلى رأس هذه الجهود مركز البحوث والدراسات الكويتية من خلال بعض الكتب والمقالات التي نشرها، مثل ما ذكره عبد الله الغنيم في كتابه «بحوث مختارة من تاريخ الكويت» القسم الثاني 2007، حين ناقش نشأة المدرسة المباركية ونشر رسالة لناصر المبارك الصباح لم تُنْشَر من قبل، ثم أكمل هذا الجهد الثقافي من خلال كتاب كاملٍ صَدَرَ عن المدرسة ذاتها هو «أرشيف المدرسة الخيرية المباركية في وثائق الخالد»، الذي نشر وثائق أكثر ممهورة بتوقيع ناصر المبارك، ومعلومات أعمق عن دوره الرئيس في نشأة وإدارة المدرسة المباركية.
من جانب آخر، لم يتوقف جهد مركز البحوث للتأريخ لهذه الشخصية على إصدار الكتب وحَسْب، ولكن هنا مقالين أحدهما لمحمد ناصر العجمي من أدب الرسائل: «صفحة مشرقة من الكويت الشيخ ناصر المبارك الصباح»، منشور في مجلة رسالة الكويت 2015، عن دور ناصر المبارك في المدرسة المباركية والجمعية الخيرية، وقد حوى المقال على العديد من أغلفة الكتب التي كانت في مكتبة ناصر المبارك الشخصية، ونصوص الرسائل المرسلة منه.
خالد العبد المُغْني أشار كذلك لدور المبارك من خلال تحليل وثائق السيد راوي بخصوص الجمعية الخيرية في مقاله المنشور في مجلة الكويت 2020 تحت عنوان «أخبار الجمعية الخيرية» سنة 1913 من أوراق محمد السيد راوي. وكذلك ممن نشر رسائل ناصر المبارك الصباح كان باسم اللوغاني في مقاله سنة 2016 في جريدة الجريدة تحت عنوان «وثيقة لها تاريخ: الشيخ ناصر بن مبارك طلب شراء روايات بونسون الفرنسي وكتاب نظرات للمنفلوطي عام 1913»، وكذلك أشار يحيى الكندري لمكتبة ناصر المبارك الصباح في مقاله عن الخيل تحت عنوان «نبذة عن كتاب غاية المراد في الخيل الجياد».
نال بعض الشخصيات الثقافية في الكويت نصيب من البحث وتسليط الضوء عليها، وقد يكون بعضها أقل إسهامًا وأثرًا من ناصر المبارك، فلماذا يا ترى؟
الكتاب الوحيد الصادر عن شخصيتنا كتاب صغير الحجم بعنوان «كعب الأحبار الكويتي الشيخ ناصر بن مبارك الصباح» لمحمد الشيباني. وهو كتيب وليس كتابًا، لأنه يقع في 44 ورقة، وكان في الأصل مقالًا كتبه المؤلف في مجلة «تراثنا» عام 1999، وزاد عليه كما ذكر في مقدمة الكتاب. كذلك كانت هناك إشارات متفرقة عن ناصر المبارك الصباح في كتاب خليفة الوقيان «الثقافة في الكويت: بواكير- اتجاهات - ريادات»، وكتاب «من هنا بدأت الكويت» لعبد الله الحاتم، وغيرها من الكتب.
غالب الكتب التي أُشير إليها لا تناقش ناصر المبارك الصباح كشخصية ثقافية، ولكن تناقشه ضمن مواضيع ثقافية مختلفة، مثل دوره المهم في تأسيس المدرسة المباركية على وجه الخصوص، وهذا ما ناقشه الغنيم في «أرشيف المدرسة الخيرية المباركية في وثائق الخالد» مثلًا، وكذلك ناقش الأمر الوقيان خلال حديثه عن المكتبات في الكويت في كتابه الثقافة، وفعل ذلك كل من محمد ناصر العجمي وخالد العبد المُغْني في مقاليهما.
هذه المواضيع قيّمة دون شك، لكنها لم تناقش ناصر المبارك الصباح كشخصية ثقافية كويتية وإنما ذكرت دوره في إطار نشأة المؤسسات الثقافية في الكويت كالمدرسة المباركية والجمعية الخيرية والمكتبات وغير ذلك. وفي المقال نال بعض الشخصيات الثقافية في الكويت نصيب من البحث وتسليط الضوء عليها، وقد يكون بعضها أقل إسهامًا وأثرًا من ناصر المبارك، فلماذا يا ترى؟ لعل السبب هو الإهمال لا أكثر، فلو كان ناصر المبارك مُهَمَّشًا لَما وجدنا له ذكر مؤثر في ثنايا كتب التاريخ الثقافي، لأن التهميش يكون متعمدًا، أما الإهمال فيَحْتَمل التعمد وعدمه.
الشيباني حينما كتب عن ناصر المبارك لم يُضِف الكثير، وإنما جمع من الكتب الأخبارَ عن ناصر المبارك، بل يكاد يكون ما كتب عبارة عن اقتباسات مباشرة من كتب الحاتم والأنطاكي والرشيد، ولم يحلل أو حتى يذكر بإسهاب أكبر دورَ ناصر المبارك، كما فعل الغنيم مثلًا في كتبه التي حوت تحليلًا وعمقًا في ما يتعلق بدور ناصر المبارك في المدرسة المباركية.
كذلك لم يسعَ الشيباني للاستفادة من الأرشيف البريطاني، بالرغم من استخدامه لكتاب أحمد أبو حاكمة «تاريخ الكويت الحديث» بطبعته الإنجليزية، فالأرشيف البريطاني فيه أخبار كثيرة عن أبناء مبارك الصباح وعن ناصر المبارك تحديدًا، ولو فعل لزاد من قيمة الكتاب، إذ إنه الكتاب الوحيد، حسب اطلاعي، الذي اختص بكتابة سيرة ناصر المبارك الصباح.
كذلك لم يتطرق الشيباني على سبيل المثال لِما ذكره حافظ وهبة في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين» حينما ذكر: «وقد اشتغل أحد أولاده بالتجارة، وهو الشيخ ناصر المبارك، وكانت تجارته معفاة من الضرائب ... ومن المُسَلَّم به عند عموم العرب أن فرض الضرائب حرام ...»، فهذا النص يحتاج لتحليل شخصية ناصر المبارك المتدينة، وكذلك سبب الإعفاء من الضرائب، وهل كان هو الوحيد المُعفى أم أن هناك آخرون كذلك؟ وغيرها من هذه النقاط التي تثري تاريخ هذه الشخصية.
العمى بحد ذاته موضوع يُثري سيرة ناصر المبارك الثقافية والشخصية على حد سواء، ودراسة العمى وتأثيره على الشعراء تحديدًا في الكويت ليس جديدًا. فهناك العديد من الكتب التي ناقشت الشعراء والأدباء العميان مثل صقر الشبيب وفهد العسكر وعبد الرزاق البصير. ولعل من أحدث هذه الدراسات دراسة أحمد يوسف الفرج في مجلة «تبيّن» تحت عنوان «أفول الصحراء ومطلع النفط في شعر مكفوفي الخليج العربي: صقر الشبيب أنموذجًا»، التي تحدث فيها عن أزمة العمى والأثر النفسي لهذه الإعاقة إزاء الشاعر صقر الشبيب، وانتهى إلى أن «معاناة الشبيب أخذت مستويات عديدة، إلا أن الصدارة كانت لأزمتيْ الفقر والعمى».
فماذا لو درس باحث شخصية ناصر المبارك الصباح وأثر الغنى والعمى عليه؟ هل هناك علاقة بين تعلقه بالعلم والثقافة وإصابته بالعمى؟ لم تكن هذه الدراسة الوحيدة عن العمى وصقر الشبيب، فهناك باحث آخر هو حامد محمد المطيري، الذي ناقش في رسالته للماجستير «الصورة الفنية في شعر صقر الشبيب»، خصوصًا الفصل الرابع حينما ناقش صورة العمى في شعر صقر.
هذه الموضوعات وغيرها تدل على أن تاريخَ هذه الشخصية تاريخٌ مهمل على الرغم من المادة الخصبة والمواضيع التي من الممكن تحليلها. والعتب الأكبر، من وجهة نظري، يكون على المؤرخين تحديدًا والمهتمين بالتاريخ الثقافي.
كعب الأحبار والباشا وجهان، هل بينهما تشابه؟
لَقَبُ كعب الأحبار وُضِعَ للدلالة على سعة العلم، فقد ذكر الإمام النووي في كتاب «تهذيب الأسماء واللغات»، عندما ترجم لكعب بن ماتع المشهور بكعب الأحبار، أنه «يقال له كعب الأحبار، وكعب الحِبْرِ بكسر الحاء وفتحها، لكثرة علمه ومناقبه وأحواله وحكمة كثيرة مشهورة».
أما الباشا والألقاب والأوسمة العثمانية فلعلي أختار ما نشره صاحب جريدة العمران عبد المسيح الأنطاكي، هكذا كتب اسمه على صدر صحيفته، لأنه بين يدي وإن كانت هناك كتُب أجود وأفضل كُتبت عن الأوسمة والألقاب. وسبب اختياري جريدة العمران أن الأنطاكي كان معاصرًا لزمن البشوات، وكذلك له صلات بهم، والجريدة مليئة بأخبارهم خصوصًا باشا الكويت مبارك الصباح.
يقول الأنطاكي في عدد إبريل 1915 ما نصُّه: «أما الرتب فجُعلت أربع طبقات ممتازة، وهي من حق الوزراء وباشاوية وبيكوية من الطبقة الأولى وبيكوية الثانية، والظاهر أن واضعي القانون لاحظوا تنافس الناس بلقب باشا وبيك، فراعَوْا ميولهم ووضعوا مع هذه الألقاب عناوين للمخاطبة».
ويمكن أن تمنح الدولة العثمانية الألقاب مجردة، بمعنى أن يكون هناك لقب يحمله هذا الشخص تكريمًا وهو حائز للاسم فقط، أو دورية أي أنه ينتظر دوره لتولي منصب ما، كما يذكر محمد هادي بيرم في مقاله المنشور في المقتطف في عام 1311 هجري من جزأين تحت عنوان «الرتب العلمية في الدولة العلية».
في الجزء الثاني من المقال ذاته يتحدث عن الخليفة سليمان القانوني، وكيف أن أهل العلم والعلماء كان لهم شأن في دولته ومدة خلافته، ثم يضع جدولًا يحصي فيه الرتب في الدولة العثمانية على أربعة مجموعات، وهي الرتب العلمية، والرتب العسكرية، والرتب السياسية، والرتب الملكية والإدارية. وفي الرتب الثلاث الأخيرة نجد لقب الباشا، بينما لا نجده في الأول، وهو ما يتميز فيه ناصر المبارك الصباح لأنه كان عالمًا وصاحب ثقافة. ومن المهم هنا توضيح أني لا أجزم بأن ما سبق هو التعريف الأوحد للباشا، فما زلت أبحث فيه، ولعل المختصين ممن يقرؤون المقال يوضحون أكثر كيفية منح هذا اللقب.
أما في ما يتعلق بلقب ناصر باشا الصباح وهو وسام رسمي، فلم أجد أحدًا ممن ذكره يقرنه بدليل، وقد سألت بعض المختصين والمطلعين ومن لهم دراية بالوثائق العثمانية، مثل سهيل صابان الذي كتب عن «الأوسمة العثمانية والحاصلون عليها من الجزيرة العربية في وثائق الأرشيف العثماني»، وكذلك حمد العنقري عضو هيئة تحرير مجلة دارة الملك عبد العزيز، وله اطلاع واسع على التاريخ العثماني المتعلق بالجزيرة العربية، وأفادا مشكورين أنهما لم يطلعا على أي وثيقة عثمانية منحت ناصر المبارك لقب الباشا. كما أفاد سهيل صابان أنه بحث عبر موقع الأرشيف العثماني على الشبكة العنكبوتية ولم يجد أي وثيقة تشير لمنح ناصر المبارك هذا اللقب.
في المقابل، هناك بعض الكتب التي ذكرت أن ناصر المبارك الصباح قد حصل على لقب باشا، ومنها ما ذكره آلان راش (Alan Rush) في كتابه «آل الصباح»، حينما ذكر ما نصُّه: «Although he was made a Pasha by the Ottomans».
وذكرت الأستاذة الجامعية إيمان طعمة الشمري في حسابها على تويتر أن لديها وثائق تتعلق بحصول ناصر المبارك على لقب الباشا، لكنها اعتذرت خلال محادثة بيننا عن إرسالها لي لأنها كثيرة ووقتها ضيق. كما أنني وجدت على تويتر في حساب ناصر بن شغبان ذكره أن ناصر المبارك حصل على الباشوية بمرسوم عثماني، هكذا سماه، وحاولت الاستفسار منه لكنه لم يرد على سؤالي. وأطلق عبد المسيح الأنطاكي في جريدة العمران لقب الباشا على جميع أبناء مبارك الصباح، ومن ضمنهم ناصر، وفي عدد آخر ذكر أسماءهم دون لقب، وناصر بينهم.
قد يكون ناصر المبارك الصباح حصل على لقب الباشوية، لكن ما هو أكيد أنه كان كعب الأحبار الكويتي، فالوثائق والمعلومات التي عندنا تفيد ذلك، بينما لا يعضد لقب الباشا أي دليل قطعي. وقد تنشر أسرته أو أحد الباحثين هذا الأمر، ولا يزال مثل هذا الإهمال عن شخصية علمية فذة كان لها دورها الكبير في خدمة الثقافة والعلم في الكويت.
لقب كعب الأحبار ذكره نصًا عبد العزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت»: «كان رحمه الله شابًا ذكيًا، ذا فطنة وقادة، وحافظة قوية نادرة، وقد لقب لذلك بكعب الأحبار». وشواهد هذا اللقب الدالّ على علمه وفطنته وسعة اطلاعه كثيرة جدًا، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما ذكره عبد الله الحاتم في كتابه «من هنا بدأت الكويت» عن مكتبة ناصر المبارك الصباح، بأنها مكتبة ضخمة حوت ثلاثة آلاف كتاب كوّنها ناصر نفسه، وتحتوي على أكثر من ثمانين ديوان شعر وعدد كبير من التفاسير وكتب الحديث واللغة والأدب والاجتماع، وفيها قليل من المخطوطات.
عبد المسيح الأنطاكي كذلك وصفَ اللقاء مع ناصر المبارك في كتاب «الرياض المزهرة بين الكويت والمحمرة»: «وعلمت من حديثه (أي ناصر) أنه مُنْصَبّ على العلم، فقد حفظ القرآن الشريف ودرس الشريعة السمحاء وانصَبّ على الشعر فصار له طبيعة، وأنشدني شيئًا من منظومته».
ونقل عبد العزيز الرشيد عن محمد رشيد رضا مدحَه وثناءَه على ناصر المبارك في صحيفة المنار، وللأسف بسبب ظروف جائحة كورونا لم أتمكن من الذهاب للمكتبات العامة للاطلاع على المنار. يقول الرشيد: «وتولى مؤانستي ومجالستي في عامة الأوقات نجله ناصر رئيس مدرسة الكويت، لأنه هو الذي يشغل عامة وقته في مدارسة العلم ومراجعة الكتب، حتى صار له مشاركة جيدة في جميع العلوم الإسلامية ... وأما الشيخ ناصر فكان يسأل عن دقائق العلوم في العقائد والأصول والفقه وغير ذلك، على أنه لم يتلق عن الأساتذة، فهو من مظاهر الذكاء العربي النادر».
وقد يتساءل القارئ عن أهمية هذين اللقبين في تاريخ ناصر المبارك. الفارق بين اللقبين شاسع، فالأول دليل علم وسعة إطلاع وفهم، أما الثاني فله اعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية. هذان اللقبان دلالتهما مختلفة وعليهما تبعات كذلك، فإن كان ناصر المبارك الصباح قد لُقب بكعب الأحبار، فهذا يدل على علمه، وعلمُه مُثْبَت وآثاره لا تزال موجودة من خلال البقية الباقية من كتبه المحفوظة. كما أن علمه وسعة اطلاعه أشارت له الوثائق المحلية والبريطانية التي اطلعت عليها، كما مدح معاصروه هذه الصفة فيه، مثل محمد رشيد رضا وعبد العزيز الرشيد وغيرهم.
أما الباشا فلقب/وسام رسمي يُمنح من السلاطين العثمانيين نظير خدمات يقدمها الشخص للدولة أو تزكيات من قِبَل بعض الولاة، وهو نوع من أنواع التكريم والتقدير، وتقام مناسبة تكريمية لهذا الشخص.
ولكل لقب معنى وعليه تبعات سياسية واجتماعية وحتى اقتصادية. فلماذا مُنح ناصر المبارك لقب الباشا؟ وما دوره الذي مُنح من أجله هذا اللقب، ولم يمنح أخواه جابر وسالم وهما حكما الكويت ولهما دور سياسي واضح خلال فترة حكم مبارك الصباح؟ هل اللقب الممنوح لناصر نظير خدمة قدمها للدولة العثمانية؟ هذه تساؤلات تحتاج لإجابة حتى نتمكن من التحليل وتعميق فهمنا لشخصيته.
ناصر المبارك مُهملًا في كتب العلماء وكتب الثقافة
لن أعيد ما ذكرته في القسم المتعلق بمَن كتب عن ناصر المبارك، لكن لا شك أن سيرة ناصر المبارك الصباح مُهمَلة في كتب تراجم العلماء الكويتية والنجدية التي اطلعتُ عليها. فقد ترجموا لكثير من العلماء والمدرسين، وبعضهم ترجمته لا تتجاوز الورقة والورقتين، وفي المقابل لم يترجموا لناصر المبارك رغم وجود المادة العلمية، بل هناك مادة تحليلية جيدة تتعلق بتبدل حال ناصر المبارك بين العداء لابن تيمية وقبوله بعد ذلك، كما ذكر عبد العزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت»: «ومن غرائب هذا الشاب النابه أنه كان في ابتداء أمره يرى في شيخ الإسلام ابن تيمية رأيه في الزنادقة والملحدين، وجرى نزاع طويل في هذا الصدد بينه وبين بعض الأساتذة الفضلاء في الكويت، أوشك أن يُفضيَ إلى ما لا تحمد عقباه. لكن هذا الشاب عَلِم خيرًا بفطرته السليمة خطأَه الذي ارتكبه أولًا. بل وعَلِم بغش مَن كان يلقنه تلك التعاليم الزائفة، فكان بعد أن استنارت بصيرته يرى ابن تيمية في الحقيقة شيخ الإسلام».
هذا النص بحد ذاته جدير بالتحليل في ما يخص شخصية ناصر المبارك والحراك الديني والثقافي الكويتي، فلماذا انقلب ناصر المبارك من الكُرْه إلى المَحَبة؟ ومَن الذي كان يلقنه كُرهَ ابن تيمية؟ ومن هم الأساتذة الفضلاء الذين ناقشوه وغيروا رأيه؟ وهل لهذا النص علاقة بعداء عبد العزيز الرشيد مع خصومه الذين ذكرهم في الكتاب؟ ماذا عن مكتبته الباقية التي تتجاوز اليوم ثلاثمئة كتاب ومحفوظة في أرشيف الديوان الأميري الكويتي؟ هل هناك من حلّل عناوين الكتب فيها أو من وقع على حاشية ناصر المبارك نفسه على شرح السيوطي لألفية بن مالك التي لم يكملها؟
من الجوانب المهملة في تاريخ هذه الشخصية أنها الشخصية الوحيدة، حسب اطلاعي، التي كانت من تنصف من العلماء وطلبة العلم في أسرة الصباح زمن ناصر المبارك، وهذا الأمر بحد ذاته محفز للبحث والتنقيب، فلماذا اتجه ضرير ابن حاكم البلد في تلك الفترة للعلم والتعلم حتى صار له شأن فيه، رغم الإمكانيات الثقافية المتواضعة للكويت في حياته؟ هل للعمى دور في ذلك؟ هل كان العمى العقدة التي حفزته فوجد في العلم سدًا لمثل هذا النقص؟ هل الإمكانيات المادية التي كانت متوفرة لديه أسهمت في اتجاهه للعلم والبحث والثقافة؟ تساؤلات مهمة، من وجهة نظري، تجعل هذه الشخصية الثقافية في دائرة التاريخ المهمل.
لم يكن أثر الثقافة مقتصرًا على ناصر المبارك فقط، بل تعداه ليشمل المجتمع. وأذكر هنا حادثتين نقلهما يوسف بن عيسى القناعي، الأولى تبين كيف أن بعض أفراد أسرة الصباح كانوا معترضين على إنشاء المدرسة المباركية، التي كان ناصر المبارك أحد مؤسسيها وداعمًا رئيسيًا لها.
يقول القناعي في كتابه «صفحات من تاريخ الكويت»: «أما مبارك فلا عذر له في المال ولا في التصور ... وقد سمعت من أخيه جابر بن صباح هذه الكلمة مرارًا بعد تأسيس المباركية، وهي أن ما صالحنا بقائكم على الجهل».
القناعي ينتقد مبارك حاكم الكويت وأخاه في مسألة دعم العلم والمدرسة المباركية، بينما نجد أرشيف الخالد والكتاب الذي صدر عن المدرسة المباركية فيه وثائق كثيرة توثق دور ناصر المبارك الصباح في المدرسة، فهذا أمر يحتاج لمزيد من التحليل والدراسة. الكتب التي صدرت في غالبها كتب سردية وثائقية تتحاشى المقارنة والتحليل والتعمق، ولذلك فإن عدم الاهتمام بالتحليل يجعل شخصية ثقافية كناصر المبارك شخصية مهملة.
الأمر الثاني الذي ذكره القناعي كان في كتابه «الملتقطات»، إذ ذكر أن ناصر المبارك الصباح طلب رأيه في كتاب الأنطاكي «الآيات الصباح في مدح مبارك الصباح»، فكان جواب القناعي: «انصح والدك في إخفاء هذا الكتاب لأنه مهازل وأكاذيب … وإن انتشر الكتاب فيسكون أضحوكة الزمان عليكم بين أهله في الكويت وغيرها، فتكلم ناصر مع والده وأمر بحبس الكتاب في الجمرك». هنا يتبين دور ناصر الثقافي كذلك وثقة والده فيه، وأن ناصر يستشير أهل العلم في الكويت ويسمع منهم، خصوصًا أن القناعي قد انتقد ما سماه كذب الأنطاكي عن دراسة مبارك الصباح العلم الشرعي في صغره.
هذه الجوانب وغيرها الكثير تعطي دلالة على أن ناصر المبارك الصباح قابع في التاريخ الكويتي المهمل حتى بعد ظهور وثائق عديدة في الجانب الثقافي، منها وثائق أسرة السيدراوي المنتشرة بين الباحثين اليوم، والتي سيكون لها إسهام كبير لو حُللت ونشر ما فيها، خصوصًا في الجانب الثقافي المتعلق بناصر المبارك، إذ إنني أحصيت فيها من وثائق ثقافية متعلقة بناصر المبارك ما يزيد على العشرين، ويبدو أن هذه الوثائق متوفرة عند بعض الباحثين، فقد نشر أحد هذه الوثائق باسم اللوغاني في عام 2016 في جريدة الجريدة، وكذلك فعل خالد العبد المُغْني في مقاله المنشور في «مجلة الكويت» 2020 تحت عنوان «أخبار الجمعية الخيرية سنة 1913 من أوراق محمد السيد راوي». لكن لا تزال الجهود قليلة في حق مثل هذه الشخصية على الرغم من توفر المادة اليوم.
قد يُعذر الكثير من الباحثين حينما يهملون تاريخ ناصر المبارك أو غيره بسبب احتكار مصادر المعلومات والوثائق من بعض الجهات والأفراد لأسباب كثيرة ومختلفة، بعضها مقدر ومحترم وبعضها شخصي مزاجي. الاحتكار موجود لا ينكره أعمى، لكن لذة البحث والجَلَد في طلبه والصبر على مصاعبه من الأمور التي تصقل الباحث وتقويه وتوسع عليه مدارك العقل.
عودًا على ذي بدء، هذا المقال لا يُعنى أبدًا بالترجمة لشخصية ناصر المبارك بقدر ما يهتم بإبراز أن شخصية معروفةً وأحد أبناء حاكم الكويت مبارك الصباح وصاحبُ علم وثقافة، ناله الإهمال ووُضع على الهامش لأسباب عديدة ذكرتُها وأخرى لم أتطرق إليها.
هذا المقال وغيره من المقالات التي نُشرت هي دعوة للباحثين للتركيز أكثر على التاريخ الهامشي في إطاره العام، والتاريخ المُهَمَّش والمُهمَل والمسكوت عنه في الإطار الخاص. هذه المواضيع قد يكون فيها إثراء معرفي ومنهجي وفكري يطور من حقل دراسات الخليج وتاريخه على وجه الخصوص.