مع تزايد نزعات العداء للمهاجرين و«الإسلاموفوبيا» في هذا الزمن المشحون بالكراهية، تحدث أحيانًا بعض المواقف البسيطة لتعيد لنا الأمل في إنسانيتنا المشتركة.
هذا ما حصل مع «جيفا أكبور» (Jiva Akbor)، وهي إنجليزية مسلمة كانت في طريقها إلى إسبانيا للسياحة، عندما أنشأت صداقة غير متوقعة مع امرأة حاولت في البداية طردها من الطائرة. تحكي «أكبور» القصة كما حدثت عبر حسابها الخاص على «فيس بوك».
فبينما كانت «أكبور» في انتظار إقلاع طائرتها، جلست بجانبها مسافرة أخرى مع ابنها الصغير. وكانت الأمور تسير بشكل طبيعي، حتى تلقت «أكبور» رسالة عبر «واتساب» عرفت منها أن السيارة الخاصة بمجموعة عمل في لندن هي أحد أعضائها قد تعرضت للسرقة. ردت «أكبور» على محدثها بالإنجليزية قائلة: «حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، كان الله معكم جميعًا»، وكانت هذه الرسالة الصغيرة بداية المشكلة بالنسبة لجارتها في الطائرة.
قامت المرأة من كرسيها واختفت قليلًا، ثم عادت مع مضيفتين من الطاقم. تحكي «جيفا أكبور» أن المرأة بدا على وجهها الفزع الشديد، وأنها ظنت لوهلة أنها «ربما تكون مريضة وعلى وشك الإصابة بنوبة هلع»، لكنها فهمت المشكلة أخيرًا عندما استجمعت المرأة قوتها وتحدثت قائلة: «لقد رأيتك تكتبين رسالة نصية، لقد كتبتِ كلمة (الله) على هاتفك».
أخبرت «أكبور» المرأة أنها تؤمن بالله، ولهذا تشير إليه في أحاديثها أحيانًا.
حافظت «أكبور» على هدوئها محاولةً استيعاب الموقف بعد أن فهمت سر الرعب الذي أصاب جارتها، وشكرت حظها لأن المضيفتين تعاملتا بهدوء وطالبتا المرأة بالعودة لكرسيها، وأخبرتاها أنها تستطيع مغادرة الطائرة إذا كان لديها أي مشكلة. وهكذا، عادت المرأة إلى كرسيها، ورغم شعور «أكبور» بالضيق من الموقف؛ حاولت أن تقيم علاقة ودودًا مع المرأة، ليتطور الموقف في النهاية إلى صداقة لم تكن متوقعة.
شرحت «أكبور» للمرأة أن «الله» هو الاسم العربي للإله ليس أكثر. تقول: «رمقتني بعينيها لبعض الوقت، بينما حاولتُ أن أفسر لها كيف أن الرسالة كانت مجرد تعزية بسيطة لزملائي الذين تعرضوا للسرقة اليوم. استطعتُ بسرعة أن أكسب ودها، فأخبرتها أني مجرد فتاة مسلمة عادية تسافر للسياحة في إسبانيا، وقد ولدت ونشأت في مانشستر بإنجلترا، وأخبرتها أنه لا يوجد سبب لخوفها من الجلوس بجانبي».
كيف نتجاوز أحكامنا المُسبقة؟
أخبرت «جيفا أكبور» المرأة أنها تؤمن بالله، ولهذا تشير إليه في أحاديثها أحيانًا. ثم لاحظت أن جارتها، التي عرفت عندئذ أن اسمها «بيفرلي»، هدأت بعد ربع ساعة تقريبًا من الحديث، وبدأت هي نفسها بالكلام عن قناعاتها الدينية؛ فقد كانت كاثوليكية رومانية، وكان هذا الاشتراك في الاعتقاد بوجود الله مقدمة لحديث استمر ساعتين بخصوص كل شيء تقريبًا.
تقول «أكبور»: «تحدثنا عن معتقداتنا، وعن عائلاتنا ونشأتنا، وعن آرائنا في الأحداث الجارية، وكيف أن الوضع الحالي المحزن للعالم سبب خوضنا مثل هذه المناقشة اليوم. تحدثنا عن عائلاتنا، وشاهدنا معًا صور أقربائنا وأحبائنا، وتحدثنا عن طهي أمي، وعن السفر، وعن التمتع بقلب منفتح ورؤية مرنة للعالم وللنفوس التي تحيا فيه».
وتستطرد: «تحدثنا كذلك عن اسكتلندا، وعن إنجلترا، وعن عملها وعملي، وتحدثنا عن قادتنا السياسيين، وعن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعن سعر الصرف، وعن (بوكيمون غو)، وعن قطار الملاهي، وعن الأماكن التي نود السفر إليها، كما تحدثنا عن المساجد والكنائس، وعن آبائنا وصحتنا وعلاقاتنا وخططنا للمستقبل».
كانت هذه واحدة من أكثر رحلات «أكبور» أهمية؛ فقد اكتسبت صديقة جديدة، ارتكبتْ خطأً واعترفتْ به.
وبطول الرحلة، ازدادت علاقة المرأتين قوة، فكما تقول «أكبور»: «لقد تحدثنا وضحكنا، وأحيانًا بكينا»، واعتذرتْ «بيفرلي» عن سوء التفاهم مرارًا لصاحبة القصة، التي تضيف: «لم يمضِ وقت طويل حتى لاحظتُ الندم في صوتها. يبدو أنها شعرت بالصدمة من رد فعلها، وبدأتْ للتو في فهم ما حدث معي».
قالت «بيفرلي» لها بعد ذلك إنه «أمر مخيف جدًّا عندما يحدد لنا الإعلام كيف نفكر. لقد شعرت فقط بالهلع». وبرغم اعتقاد «أكبور» أن مثل هذه المواقف هو ما يجعل الحياة اليومية صعبة بالنسبة للمسلم العادي، فقد قبلت اعتذار «بيفرلي» ونصحتها بالانفتاح على مسلمين آخرين والحديث معهم.
تؤكد «أكبور» أن رحلتها هذه كانت «واحدة من أكثر رحلات حياتي أهمية؛ فقد اكتسبتُ صديقة جديدة اسمها بيفرلي، ارتكبتْ خطأً واعترفتْ به».
تختم حديثها بالقول: «قابلتُ امرأة هي في أعماقها إنسان رائع، وتعلمت منها أن الخوف والكراهية اللذين يُشاعا عن عمد وتخطيط في هذا العالم من قبل أصحاب السلطة أشياء حقيقية تمامًا، ويمكن أن يدفعا الناس إلى أخذ مواقف صادمة، لكن إذا لطفت بنا مشيئة الله فربما تحولت هذه المواقف نفسها إلى أروع لحظات الحياة على الإطلاق».
وجاءت ردود الفعل على منشور «أكبور» إيجابية في مجملها. أحد التعليقات من «فروخ عثماني» قال: «أنا لا أعرفك بشكل شخصي (...) لقد جلستُ للتو مع بناتي في الحديقة الخلفية لمنزلنا، وقصصت عليهن قصتك كاملة، وأود أن أشكرك على الدرس الملهم الذي علمتِه لهنَّ اليوم». كما علقت «لورين كليفر» قائلة إنه «من المذهل ما يحدث إذا قررنا فقط أن ننفتح على الآخرين ونتكلم معًا».
صداقات غير متوقعة في الأدب والتاريخ
ويبدو أن قصص الصداقة، والعلاقات الودود أو الحميمة بشكل عام، بين طرفين يحمل كلٌّ منهما افتراضًا مسبقًا عن الآخر من الأشياء التي طالما أثارت الخيال البشري عمومًا.
ويمكن متابعة الاهتمام بهذه الصداقات غير المألوفة منذ العصور القديمة، وهي علاقات ربما تتحدى التاريخ والثقافة واللغة والدين، فقد سجلت واحدة من أولى الملاحم البشرية، وهي «ملحمة جلجامش»، قصة صداقة غير متوقعة بين «جلجامش» ملك مدينة «أوروك»، و«إنكيدو» الإنسان المتوحش الذي أرسلته الآلهة للانتقام منه.
وفي سياق أحدث، تتمحور قصة «روميو وجولييت»، إحدى أهم مسرحيات «شكسبير»، حول قصة حب بين شاب وفتاة من عائلتين متخاصمتين واقعتين في دائرة ثأر. بل حتى في الرسوم المتحركة، يدور فيلم «بوكاهونتاس» عن قصة حب أخرى تجمع جنديًّا إنجليزيًّا وفتاة من السكان الأصليين لأمريكا الذين تعرضوا للإبادة بأسلحة الإنجليز، وهي قصة مأخوذة عن أحداث حقيقية مختلفة بعض الشيء.
بل يبدو أن هذا الموضوع قد بلغ من السحر الحد الذي جعل أحد أفلام الخيال العلمي الكلاسيكية في الثمانينات، وهو فيلم «لغم العدو» (Enemy Mine)، يصور علاقة صداقة غير متوقعة بين بشري وفضائي وقعا معًا في أرض غريبة؛ فيما يبدو أنه تشديد من صناع الفيلم على إمكانية تجاوز الصداقة جميع الحواجز أيًّا كانت طبيعتها وبشكل مطلق.
ورغم أن القصة التي تحكيها «أكبور» حدثت بين شخصين لا يجب أن يكونا عدوين بالأساس، إذ إنهما مجرد شخصين مختلفين في الدين والثقافة جمعتهما المصادفة على طائرة واحدة، وهو ما يعني أن الصداقات غير المتوقعة بين الأعداء ربما تكون في الخيال فقط؛ فإن التاريخ الواقعي يفاجئنا بقصص صداقات قد تكون أغرب كثيرًا من أي أدب أو سينما أو أساطير.
هل يمكن لأي شخصين تجمعهما المصادفة على مقعدي طائرة متجاورين أن يصبحا أصدقاء، بصرف النظر عن كل الاعتبارات الأخرى؟
وأشهر هذه القصص ربما يكون ما حدث مع الملازم «تشارلي براون» (Charlie Brown)، الذي كان طيارًا أمريكيًّا في الحرب العالمية الثانية، أصيبت طائرته بعد مهمة قصف ناجحة نفذها.
وكان الطيار الألماني الملازم «فرانتس شتنيغلر» (Franz Stingler) مكلفًا في ذلك الوقت بضرب القوات المهاجمة، لكنه عندما رأى أن طائرة «براون» مصابة، وأنه لم يعد يشكل خطرًا، رافقه إلى مكان آمن وسمح له بالإقلاع مع طاقمه للعودة إلى قواعد الحلفاء في إنجلترا. وسيلتقي الاثنان مجددًا بعد انتهاء الحرب ويصبحان أصدقاءً بقية حياتهما.
فإلى أي حد يمكن لطبيعة إنسانية مشتركة أن تتجاوز أي نوع من أنواع الاختلاف؛ كالخلاف في الدين وفي الثقافة وفي اللغة وفي الأيديولوجيا، وحتى الخلاف الذي قد يكون تحول فعلًا إلى حرب؟ وهل يمكن لأي شخصين تجمعهما المصادفة على مقعدي طائرة متجاورين أن يصبحا أصدقاء، بصرف النظر عن كل الاعتبارات الأخرى؟