ما دمت مواطنًا عربيًّا، فلا بد أنك تعرضت لموقف يقول لك فيه أحدهم: «قل كذا ولا تقل كذا»، والقصة بالتأكيد تتعدى ما جرت عليه عادة أساتذة اللغة العربية التقليديين، فالمنطقة العربية منطقة ساخنة، والسياسة تتدخل في كل شيء من حولنا، لا سيما اللغة.
ربما قال أحدهم لك من قبل: «ما اسمهاش إسرائيل»، ربما طلب منك أن تسمي الاحتلال بالكيان الصهيوني، وهذا حتى قبل أن تُدلي برأيك، فما الصحيح؟
لماذا يقاطع المتحاورون بعضهم على الشاشات؟
قد يكون عدم منح المتحدث فرصة ليتم كلامه أمرًا شائعًا في الفضائيات العربية، ومن السخرية أن البرامج الحوارية من أكثر الأماكن التي تشيع فيها ثقافة مقاطعة المحاورين بعضهم بعضًا. لكن هذا، وإن بدا سلوكًا غوغائيًّا، فهو ككل شيء في الدنيا له أسبابه.
المحللون والسياسيون والصحفيون الذين يتحاورون في هذه البرامج يستطيعون تمييز مَيْل المتحدث بكلمات مفتاحية، لذلك قد ينطلقون في الرد قبل أن ينهي كلامه. تخيل أحدهم مثلًا يخرج على الشاشة إبان عدوانٍ على غزة ليقول إن «جيش الدفاع الإسرائيلي يتلقى ضربات موجعة من الإرهاب الفلسطيني». طبعًا هذه جملة متخيَّلة، لكنها سيثير حفيظة شريحة واسعة من الجمهور العربي والفلسطيني قبل أن ينهي كلامه، رغم أن المعنى الكلي للجملة يُعد خبرًا سارًّا لهم.
هذا حاضر في كل حوار عن كل أزمة، فنحن نسمع في الإعلام تسميات مثل «ميليشيات الأسد» و«الجيش العربي السوري» و«القوات النظامية» وغيرها، وكلٌّ منها يدل على توجه القناة الإعلامية السياسي. كذلك الأمر في تسميات «الدولة الإسلامية في العراق والشام» و«الدولة الإسلامية» و«تنظيم الدولة» و«داعش».
قد يهمك أيضًا: إسعاد يونس: إعلام على هوى الدولة
ما القوى الناعمة؟
كانت الحروب تبدأ قديمًا بالجيوش، لكنها الآن تبدأ بالذين ينشرون ثقافة المستعمِر، بل وربما تكتفي بهم.
سكَّ «جوزيف ناي»، الذي شغل سابقًا منصب مساعد وزير الدفاع الأمريكي، مصطلح «القوة الناعمة» في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وأصدر بعد ذلك بسنوات كتابه «القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية»، يعرِّف فيه القوة الناعمة بأنها «القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية، بدلًا من الإرغام أو دفع الأموال»، ويتحدث عن أن منشأ هذه الجاذبية هو انتشار ثقافة بلد ما.
لا حاجة بنا لإثبات منزلة اللغة من الثقافة، لا سيما للجمهور الناطق بالعربية، الذي يعرف تاريخيًّا دور انتشار اللغة العربية وأثرها في المنطقة. بَيْدَ أنه يجدر بنا أن نشير إلى أن اللغة قد تحمل طيَّ تسمياتها واصطلاحاتها الخاصة مواقف سياسية واجتماعية من المسميات.
قد يعجبك أيضًا: كيف تموت اللغة؟
كانت الجيوش قديمًا تبدأ عملها بكتيبة استخبارية أو استطلاعية، وتنتهي بجنود ثقافيين يعملون على نشر ثقافة المستعمِر في البلاد الواقعة تحت سيطرته، وربما كانت آخر ناقلة جند للمستعمِر تحمل كُتُبًا ومعلمين وشعراء، لكنها الآن كما يوضح مفهوم القوة الناعمة قد تبدأ بالذين ينشرون ثقافة المستعمِر الحديث، بل وربما تكتفي بهم.
ما أهمية التسمية؟
في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها أُطلق على الحرب الأهلية قرابة عشر تسميات، منها العدوان الشمالي، والعدوان الجنوبي، وحرب الولايات، وحرب التمرد، وغيرها. كل طرف دعاها في أجهزته الإعلامية بالاسم الذي يدعم مصلحته.
اختلاف التسميات بين «إسرائيل» و«الكيان الصهيوني» يقول إننا لسنا على توافق تام بشأن المسمَّى.
حرب التحرير في الجزائر اسمها هناك «الثورة الجزائرية»، لكن اسمها في فرنسا «حرب الجزائر»، ولو سمَّاها سياسي فرنسي «حرب التحرير» فإنه يورط نفسه في مطالب بتقديم اعتذار عن احتلال الجزائر.
هكذا، كل حرب من الحروب حملت تضادًّا في المصطلحات والأسماء التي ترمز إلى الأشياء نفسها، وهذا طبيعي، لأن الصراع فيه طرفين على الأقل، وكلٌّ منهم يسمي الأشياء من منظوره، وبما أن المنطقة العربية ساخنة سياسيًّا وعسكريًّا، فإنه من الطبيعي أن تتعدد المصطلحات التي ترمز لشيء واحد.
«الاحتلال» و«الاحتلال الإسرائيلي» و«الكيان الصهيوني» و«دولة الاحتلال» و«سُلطات الاحتلال» و«إسرائيل» و«دولة إسرائيل»، كلها أسماء لشيء واحد نعرفه جميعًا، لكن اختلاف التسميات يقول في ما يقول إننا لسنا على توافق تام بشأنه. هذا مع أننا، بطريقة أو بأخرى، في خندق واحد، بالنسبة له على الأقل.
قد يهمك أيضًا: كيف شكَّلت اللغة العربية والإسلام الهوية المصرية؟
إسرائيل أم الكيان الصهيوني؟
وردت كلمة إسرائيل في القرآن 43 مرة، وهي ترمز إلى شخصية دينية تلقى احترامًا في الديانات الإبراهيمية كافة، أي أن كلمة إسرائيل مستخدمة في العربية من قبل العام 1948، بل ومن قبل وعد بلفور أو حتى ميلاده، وهي كلمة لها معناها.
يرفض كثيرون تسمية «إسرائيل» لأنها تتجاوز الدلالة اللغوية إلى دلالات دينية وسياسية.
بغض النظر عن الخلافات حول «بني إسرائيل»، إن كانوا قبيلة من قبائل الجزيرة العربية القديمة أو عِرقًا من أعراق المنطقة، فإن كثيرًا من قادة الرأي العربي يحاولون، خلال الصراع العربي-الصهيوني، تكريس الفصل بين الديانة اليهودية التي كانت أكثر حضورًا في المنطقة العربية، والجهة الغازية التي يعادون، وقد حاولوا أيضًا تكريس اسم «الكيان الصهيوني» للمحتل.
كلمة صهيون لها استخدام عربي قديم كذلك، وهي من الجذر «صَهَا»، وصهوة الشيء أعلاه، وربما اشتركت الكلمة مع المعنى العبري القديم «الحصن الكائن فوق الجبل»، لكنها غير مستخدمة منذ زمن بعيد، وغير حاضرة في وجدان العرب بمعنى محدد على نطاق واسع، بل تذكرهم بالأطماع الصهيونية بإنشاء مملكة متخيَّلة موعودة، وتُرجع الكيان إلى حالته التنظيمية الأولى قبل احتلال فلسطين، أي «المنظمة الصهيونية العالمية».
كلٌّ منا يتحدث من موقعه، وله صوابه السياسي الذي يحدده برنامجه السياسي. تسمية «إسرائيل» حين تطلَق على الاحتلال، فإنها قد تُفهم على أنها اعتراف بدولة الاحتلال، أو إقرار بالعلاقة بين الديانة اليهودية والعصابات الصهيونية التي كانت مقدمة الاحتلال، ولذلك نجد كثيرين يرفضون هذه التسمية، لأنها تتجاوز الدلالة اللغوية إلى دلالات دينية وسياسية.
في كتابه «المعركة على جبهة المصطلحات في الصراع العربي الصهيوني»، يذكر الدكتور إبراهيم علوش ورقة قدمتها البعثة الفلسطينية للجامعة العربية عام 1997، تضم المصطلحات الإشكالية مع توصيات باستخدام خيارات محددة، بما يخدم القضية الفلسطينية في الجانب الثقافي، أي جانب القوة الناعمة. كذلك، يطرح الكتاب اسم «الكيان الصهيوني» ويرفض تسميته «إسرائيل»، ويقدم أدلته السياسية على ذلك.
حتى القرى الفلسطينية باتت أسماؤها تُهمَل في الإعلام العربي، الذي يستخدم عِوضًا عنها أسماء عبرية مستحدثة أو مستقاة من التوراة، ممَّا حدا ببعض الشباب الفلسطيني، لا سيما في المناطق المحتلة عام 1948، إلى إطلاق حملة «ما اسمهاش هيك» (أي هذا ليس اسمها).
هؤلاء الشباب الواقعون تحت الضخ الإعلامي الصهيوني ليل نهار، المُجبرون على استخدام كلمة «إسرائيل»، انتبهوا إلى الخطر الكامن في استبدال الأسماء العبرية مكان الأسماء العربية للقرى الفلسطينية.
لكن، هل اللغة مهمة دائمًا؟
لا يجب أن ننسى أن اللغة لها مستويات متعددة، ثمة مستوًى شعري، ومستوًى صحفي، ومستوًى شعبي، ولكل مستوى لغوي اعتباراته التي قد تتحرى البلاغة أكثر ممَّا تتحرى الدقة، وهناك أسباب موضوعية لشيوع مصطلح أكثر من آخر.
في أثناء المد العروبي، انشغلت مجامع اللغة العربية بتعريب المصطلحات التقنية للحد من تأثير القوة الناعمة الغربية، وبغض النظر عن نجاحها بالمشروع ككل، فإن كثيرًا من المصطلحات لاقت قبولًا شعبيًّا، فيما لم تلقَ أخرى القبول نفسه. مثلًا: كلمة راديو كانت أسلس من مذياع، لكن كلمة إذاعة كانت أسلس من راديو ستيشن، ولذلك شاعت الكلمتان السلستان رغم اختلاف أصليهما.
يعيش المجتمع الفلسطيني اليوم انقسامات أفقية وعمودية تحت تأثير الاحتلال، لذلك قد تجد كلمة «يهود» هي التسمية الشعبية للصهاينة، بينما يسمي الفلسطينيون يهود فلسطين «السَّمَرة». في المقابل، يسمي كثير من غير المسيسين، أو من التابعين لنهج التسوية، الكيان الصهيوني ككيان سياسي بـ«إسرائيل».
بالنسبة للمناضلين الفلسطينيين ولأطفال الحجارة، فهم على تماس دائم مع المحتل، ولذلك فقد يستخدمون كلمة «إسرائيل» في حديثهم العابر للتفاهم مع غير المسيسين من الشعب الفلسطيني، الواقعين تحت تأثير ماكينة المحتل الإعلامية، لكن في أدبيات المقاومة الفلسطينية نجد اسم «الكيان الصهيوني» الأكثر رواجًا، للأسباب التي بيناها سابقًا.
هل فقدنا صوابنا السياسي؟
الاسم لا يقلل من بشاعة الاحتلال، لكنه يقول الكثير عن الخط السياسي لمن يتلفظ به.
مفهوم الصواب السياسي، القاضي بأن على الناس مراعاة عدم استخدام لغة مسيئة لمجموعة بشرية ما، توسَّع مؤخرًا ليراه بعض الكُتَّاب قيدًا على حرية التعبير، فلو رجعنا إلى القطع الأدبية التي أسهمت في تغيير المجتمعات، لوجدنا أن كُتَّابها كثيرًا ما فارقوا الصواب السياسي لمجتمعهم، وإلا لما غيروا في معتقداته الشائعة.
بما أن عالمنا مكوَّن من مجموعات بشرية كثيرة: قوميات، وطنيات، أديان، أصحاب ميول جنسي مشترك، فإننا لا نتحدث عن صواب سياسي واحد، بل عن صوابات سياسية بعدد الثقافات، وربما أكثر.
يشكو الكوميدي الأمريكي الراحل «جورج كارلين» من قيود الصواب السياسي الأمريكي في عرضه المشهور «اللغة الناعمة». وهو إذ يسخر من هذا المفهوم سخرية لاذعة، يعزو التشوهات في كثير من المفاهيم إليه. بالطبع كارلين ليس مرجعا في العلوم السياسية أو الاجتماعية، لكنه قد يعبر عن ثقافة شائعة في محيطه بصورة أو بأخرى.
ويقول عالِم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي: «اللغة سلاح السياسيين، ولكنها أيضًا سلاحٌ في كثير من الشؤون البشرية»، لدرجة أن اللغة التي يستخدمها الإعلام، الذي لا يخلو من أجندة سياسية، قد تخلق عالَمًا وهميًّا موازيًا لعالمنا.
اقرأ أيضًا: لغة العصر في مأزق: هل تنتهي سيطرة الإنجليزية على العلوم؟
تشومسكي كذلك الذي قال في ندوة بنادي الكومنولث في كاليفورنيا: «إذا حيَّدت معرفتك بأن ما يقوله الإعلام مغلوط، وسمعت المتحدثين في البرامج الحوارية، ستجد أنهم يقدمون لك العالم بصورة متسقة، لا ينقصها شيء لتكون واقعية، غير أن عيبها الوحيد أنها لا تمُت للواقع بصلة. هكذا تقدم لنا وسائل إعلام كثيرة سردية مختلفة، ممَّا قد يضر بقراءة الأجيال اللاحقة للتاريخ، ودور اللغة والأسماء هنا مفصلي».
نعم، الاسم، أيًّا كان، لا يقلل من بشاعة الاحتلال، لكنه يقول الكثير عن الخط السياسي لمن يتلفظ به، فهل نعتمد الاسم الذي يريده المحتل لنفسه «إسرائيل» رغم شيوعه في الثقافة العربية بمعنى آخر، علمًا بأن هذا يحمل ربطًا للديانة اليهودية بالاحتلال؟ أم نسميه بالاسم الذي يذكِّر بأصوله ودلالاته التوسعية وبعدم اعترافنا بشرعية وجوده، أي «الكيان الصهيوني»؟ وهل غياب الصواب السياسي العربي مرتبط بغياب البرنامج السياسي العربي التوافقي الجامع؟