«إذا لم يكن لدينا سلام، فالسبب أننا نسينا الانتماء إلى بعضنا»، كلمات تفوهت بها الأم تريزا لتلخص حقيقة تعيش في داخلنا جميعًا. ننساها أحيانًا، وندركها بفعل الظروف أحيانًا أخرى. نظن أن الحرب قدر، ونغفل عن أن السلام قرارنا، حين نتذكر أن كلًّا منا إنسان يحمل المعاناة نفسها، حين ترتفع أفواه المَدافع، وتتناثر الأشلاء والدماء، قرار تجاهله ملايين، وتذكَّره قليلون، نروي قصص بعضهم، رجال ونساء تمثَّلوا إنسانيتهم، وصنعوا لحظات سلام فريدة، في زمن حرب راح ضحيتها الملايين، وكُتبت في التاريخ كأبشع حرب في البشرية، الحرب العالمية الثانية.
العام 1944، والحرب العالمية الثانية على أشدها، أخيرًا وطئت أقدام الحلفاء قلعة مونت كاسينو، في مدينة كاسينو الإيطالية، بعد عدة محاولات تصدَّى لها الألمان. لكن التكلفة كانت باهظة في الأرواح، ولا يزال الألمان يسعون إلى هجمات مرتدة، جميعهم مرهق، ويحلم بيوم ينتهي فيه كل هذا.
تتوقف أصوات القنابل والرصاصات، وتهدأ الأرواح وتأمن، يوم لا تنتظرهم بندقية قناص إذا علت رأس أحدهم سنتيمترًا واحدًا أمام النوافذ، كانت كلها أحلام بالسلام، سلام لا يزال بعيدًا عن التحقق بين بلادهم، ويبقى بعيدًا عن متناول هؤلاء البريطانيين داخل القلعة والألمان خارجها. لكن ربما يملكون هم تحقيقه، ولو للحظات، هنا على أرض الجنوب، لحظات تعلو فيها إنسانيتهم على واجبهم القومي، لحظات قرروا أن ينحوا الكراهية والعداوة جانبًا ليجلسوا معًا كأخوة في الإنسانية.
كان النقيب «دينيس بيكيت»، الضابط الوحيد المتبقي داخل القلعة، من كتيبة «إسيكس» البريطانية، في الأشهر الأولى من عام 1944، كما روى في وثائقي «Monte Cassino: The Soldier's Story». وفيما انتظر وصول تعزيزات، كان الألمان بالخارج يهجمون بين الحين والآخر، هجمات كانت في مجملها أشبه بالانتحارية. وبين هذا وذاك، رقد عدد من الجنود المصابين من الجيشين، ولم يدرك هؤلاء أن إصاباتهم ستصنع لحظات تاريخية بين الأعداء.
«أحد جنودنا أصيب خارج القلعة، وخرجتُ حاملًا عَلَم الصليب الأحمر. لم يحاول أحد أن يطلق عليَّ الرصاص، سحبتُ الشاب المصاب إلى القلعة، وبعدها وقفت، وبشكل مسرحي، ألقيت التحية العسكرية على الألمان، أعلى التل، كنوع من الشكر»، يروي «بيكيت».
لم يمر كثير من الوقت قبل أن يرى «بيكيت» وزملاؤه جنديين ألمانيين يقتربان من القلعة حامليْن علم الصليب الأحمر، لقد حان موعد لقاء الأعداء وجهًا لوجه.
جزء من تجربة المعركة، أنك يمكنك الدخول في علاقة حميمة مع أعدائك، وفي وقت آخر، تطلق عليهم النار بسعادة.
«كان أحدهما عملاقًا، ظهر يدخن سيجارًا، ويلوح بالعلم، ودخلا يركضان إلى ساحة القلعة. قالا إنهما يرغبان في هدنة لدفن جثث زملائهما»، يصف العريف بكتيبة «أسيكس» المشهد الذي كان سيتحول بعد قليل إلى مشهد إنساني نادر في تاريخ الحروب.
وافق البريطانيون على الهدنة، والتقى جنود الجيشين وجهًا لوجه، خرجوا معًا من مواقعهم، ومن خلف أسلحتهم، يحملون الجثث والمصابين، دون تفرقة بين هذا وذاك، «بعض حاملي النقالات البريطانيين كانوا متعبين، وأحيانًا كانوا يضعون النقالات أرضًا ويجلسون معنا ونتبادل السجائر»، يحكي الملازم بالفرقة الثالثة مظلات بالقوات الألمانية «جوزيف كلاين»، «أعتقد أن الحرب في الجنوب، ضد القوات الأمريكية والبريطانية، لم تكن حقًّا قائمة على الكراهية. كانوا الأعداء، وجميعنا كان عليه أن يؤدي واجبه، هم على جانب من الجبهة، ونحن على الجانب الآخر، وأعتقد أن المعاناة كانت هي نفسها».
هل يمكن أن تحب عدوك؟ ربما هي مشاعر متناقضة انتابت هؤلاء الضباط والجنود في تلك اللحظات. حاول «كلاين» أن يصفها: «بسبب هذا الوضع الغريب، في هذا الجزء من أرض المعركة، انتابنا بشكل ما، شعور غريب كأنهم رفاقنا، لأنهم مروا بنفس ما مررنا به».
الشعور الإنساني نفسه حاول أن يصفه «بيكيت»، فقال: «جزء من التجربة الفضولية للوجود في المعركة، كانت في أنك يمكنك الدخول في علاقة حميمة مع أعدائك، تحت ظروف معينة. وفي وقت آخر، يمكنك أن تطلق عليهم النار بسعادة، لقد كان لغزًا لأن الجانب الإنساني يظل يراودك».
لم يكن هناك حاجة لأن نكون أعداء بعدها
قد تكون تلك اللحظات صادمة، حين يكتشف الشخص أن عدوه ليس إلا إنسان مثله، يمر بما مر به في أرض المعركة، يحمل داخله الألم ذاته، والأمل نفسه، في أن ينتهي كل هذا الكابوس سريعًا. وكما كان لقاء الألمان والإنجليز إنسانيًّا من الدرجة الأولى، أمام قلعة مونت كاسينو، كان لقاء آخر أكثر قربًا وحميمية بين العدوين، قد سبقه بنحو أربع سنوات، هذه المرة وسط حقول بيضاء بفعل الثلوج في طقس بارد يصل إلى حد التجمد في أقصى شمال القارة العجوز، النرويج.
كما لو أنه مشهد من فيلم سينمائي، ربما حتى لا يصدقه الجمهور، ويراه خياليًّا زيادة عن الحد، كان اللقاء غير التقليدي بين الأعداء، وسط ثلوج النرويج، كانوا يعيشون أيام إبريل عام 1940، ويعيش العالم أجواء الحرب العالمية الثانية، حين جلس الطيار البريطاني «ريتشارد بارتريدج»، واثنان من طاقمه، داخل كوخ لجأوا إليه للاحتماء من الطقس السيئ، بعد سقوط طائرتهم في اشتباك مع قاذفة قنابل تابعة للعدو الألماني. لكن ما لم يتخيلوه قط أن يشاركهم الكوخ طاقم قاذفة القنابل نفسها الذي أسقطهم.
حين سقطت قاذفة القنابل الألمانية التي يقودها الطيار الملازم «هورست شوبيس»، بعد اشتباكها مع طيران العدو، وجد الضابط نفسه، واثنين من طاقمه، وسط الثلوج الممتدة بالقرب من مدينة غروتلي، حين عثروا على كوخ، وقررا الاحتماء به من الصقيع، وربما من العدو. لكنهم لم يتخيلوا أن يقابلوا العدو نفسه بداخله، فقد كان الكوخ ذاته الذى احتمى به طاقم الطائرة الإنجليزية. ومع وقوفهم وجهًا لوجه، كان اللقاء صادمًا ومتوترًا في البداية، توترًا كسرته مصافحة بين الطيارين، كانت المصلحة تقتضي أن يقاتلوا معًا، ولو لمرة واحدة، البريطانيون والألمان ضد الصقيع والجليد، قتالٌ خسارته تعني حياتهم جميعًا دون تفرقة.
داخل الكوخ، نسي الإنجليز والألمان عداوتهم، وتذكروا فقط إنسانيتهم. قضوا الوقت معًا، تحدثوا وتشاركوا طعامهم وشرابهم. لكن مع مرور الوقت، كان مخزونهم ينفد، وعليهم اتخاذ القرار: سنخرج معًا إلى أقرب نقطة محلية للحصول على مزيد من المؤن. لكن القدر سيفرقهم حين عثرت عليهم دورية نرويجية، قتلت واحدًا من الطاقم الألماني، وتحفظت على الاثنين الآخرين، فيما أعادت الطاقم البريطاني إلى بلاده.
مرت السنوات، وانتهت الحرب، ولم تنته الحكاية. وبعد 43 عامًا، تقابل الطيار البريطاني «بارتريدج» مع الألماني «شوبيس»، داخل أحد المتاحف البريطانية، حين أطلق «بارتريدج» كتابًا عن عمليته في أثناء الحرب، ليتصافح الأعداء السابقون مجددًا. «تحدثنا معًا، ولا نحمل أي ضغينة تجاه بعضنا، ولم نحملها قط»، هكذا أوضح الطيار البريطاني السابق لصحيفة «ذا تيليغراف»، عام 1983. أما «شوبيس»، فأكد: «فقط قمنا بما كان علينا فعله، ولم يكن هناك حاجة لأن نكون أعداء بعدها، لم يبدأ أيٌّ منا الحرب، أحمد الله أننا لم نقتل بعضنا».
اقرأ أيضًا: فولادو: مأساة جندي عادي جدًّا في الحرب العالمية الثانية
عودوا إلى منازلكم حيث تنتمون
لم تكن قصة الطيارَيْن المرة الوحيدة التي يبيت فيها الأعداء تحت سقف واحد، ويشتركون في الطعام والشراب، وربما الضحكات والنكات. فلقاء آخر جمع الأعداء عشية عيد الميلاد عام 1944، في إحدى الغابات، بالقرب من الحدود الألمانية البلجيكية.
كانت معركة «الثغرة»، التي بدأت 16 ديسمبر 1944، وانتهت 25 يناير 1945، إحدى المعارك الأخيرة في الحرب العالمية الثانية. وعلى بُعد مسافة قليلة منها، كان يجلس الصبي الألماني ذو الـ12 عامًا «فريتز فينكين»، داخل كوخه الصغير مع والدته، حين سمعا طَرقًا قويًّا على الباب، «أطفأت أمي الشموع سريعًا، وبينما ذهبت لفتح الباب، سبقتني هي. في الخارج، وقف رجلان يرتديان الخوذات المعدنية، تحدثا إلى أمي بلغة لم نفهمها، وأشارا إلى رجل ثالث يرقد على الثلوج. أدركت أمي قبلي أن هؤلاء جنود أمريكان، إنهم الأعداء»، هكذا انطلق الابن «فريتز فينكين» في رواية قصته، بعد سنوات من حدوثها.
قالت الأم للجنود الألمان: «لدينا ثلاثة ضيوف آخرين، ربما لا تروا أنهم أصدقاؤكم»، واستطردت: «هذه ليلة عيد الميلاد، ولن يحدث إطلاق نار هنا».
«رغم أن استضافة العدو كانت عقوبتها الإعدام، فإن السيدة أدخلتهم إلى منزلها، وأعدت لهم العشاء بما تبقى لديها من طعام في المنزل»، يستكمل الرئيس الأمريكي «رونالد ريغان» الحكاية التي أصبحت، في ما بعد، رمزًا للإنسانية والسلام.
كان التواصل بين السيدة الألمانية والجنود الأمريكان صعبًا، فلا هي تتحدث الإنجليزية، ولا هم يتحدثون الألمانية. لكن واحدًا منهم استطاع أن يفهمها قليلًا حين تحدثا معًا بالفرنسية، وفهمت السيدة أن الثلاثة تاهوا عن كتيبتهم، ووضعت الجندي المصاب في سرير ابنها لتحاول تضميد جراحه، فيما أمرت ابنها بالاعتناء بالجنديين الآخرَيْن.
وبينما وقفت الأم تطبخ الديك الأخير المتبقي لديها في منزلها، سمعت طرقًا على الباب مجددًا، «توقعت أن يكون هناك مزيد من الأمريكيين، ودون تردد فتحت الباب. في الخارج، وقف أربعة جنود ارتدوا ملابس أذكرها جيدًا بعد خمسة سنوات من الحرب. لقد كانوا من قوات الفيرماخت الألمانية، تسمَّرتُ مكاني من الرعب. ورغم أنني كنت صغيرًا، فقد كنت أعلم القانون القاسي: استضافة العدو تساوي الخيانة العظمى»، يقول «فينكين»، ويتابع: «أمي أيضًا كانت خائفة، وجهها كان شاحبًا تمامًا، لكنها خرجت إليهم قائلة: عيد ميلاد مجيد، ليردوا عليها بالمثل، قبل أن يشرح العريف أنهم تاهوا عن كتيبتهم، ويأملون في أن ينتظروا لدينا حتى سطوع الشمس».
ردت الأم بالقبول في هدوء، قبل أن تقول لهم: «يمكنكم أيضًا أن تحصلوا على وجبة ساخنة». ابتسم الجنود مع استنشاقهم رائحة الديك التي ملأت المكان، لكن الأم تابعت عبر الباب المغلق نصفه: «لكن نحن لدينا ثلاثة ضيوف آخرين، ربما لا تروا أنهم أصدقاؤكم»، وحمل صوتها صرامة واضحة حين استطردت: «هذه ليلة عيد الميلاد، ولن يحدث إطلاق نار هنا».
تساءل العريف الألماني: «من بالداخل؟ أمريكان؟»، لترد الأم: «اسمعوا، من الممكن أن تكونوا أبنائي، وكذلك هم. في الداخل فتى مصاب بطلق ناري، يصارع الموت، وصديقاه، تائهون مثلكم، وجائعون، ومتعبون. في ليلة عيد الميلاد هذه دعونا ننسَ القتل».
انتابهم حميعًا الصمت الذي كسرته الأم بصيغة أمر: «كفى كلامًا. أرجوكم ضعوا أسلحتكم هنا على الحطب، وأسرعوا قبل أن يأكل الآخرون العشاء».
بشكل غريب، انصاع الألمان لأمر السيدة، وتركوا أسلحتهم، فيما سبقتهم هي إلى زوارها الآخرين، لتتحدث مع ذلك الجندي الذي يفهم الفرنسية، وبشكل أغرب سلَّم هو وزملاؤه أسلحتهم لها بهدوء، وفي خلال ثوانٍ، كان الجنود يجلسون جنبًا إلى جنب، متوترين في البداية، لكن صاحبة المنزل لم تفقد ابتسامتها قط.
بينما وقفت لتعد مزيدًا من الطعام، وذهب الابن ليبحث في غرفة التخزين، فوجئا بأحد الجنود الألمان يضع نظارته ليتفقد جراح المصاب الأمريكي، لتكتشف الأم أن الجندي الألماني كان يدرس الطب قبل التحاقه بالجيش، فيما طمأن الجندي الأمريكي بإنجليزية جيدة: «بفضل البرودة، لم يتلوث الجرح. لكنك خسرت كمية كبيرة من الدماء، كل ما تحتاجه هو الراحة والتغذية».
بدأ الهدوء يسود المنزل، وقل التوتر شيئًا فشيئًا. كان جميع الجنود شبابًا يافعين، واجتمعوا على طاولة الطعام، وبدأت الأم في الصلاة، لتنهمر الدموع من عينيها وأعين الجنود من الجانبين. مرت ليلة كما لو أنها اقتُطِعَت من سياق الحرب، كما لو أن تلك المعارك الدموية بين هؤلاء الجنود لم تحدث من الأساس. جلسا معًا، وتشاركا الوقت والحديث والحكايات. وفي صباح اليوم التالي، أعطى العريف الألماني إرشادات لأصدقائه الأمريكيين للعودة إلى خط جبهتهم، وها قد حانت لحظة الرحيل.
أحضرت الأم الأسلحة، ووزعت على كل منهم سلاحه، قائلة: «كونوا حذرين يا أولاد، أريدكم أن تعودوا إلى منازلكم يومًا، حيث تنتمون، فليبارككم الرب». كلمات انتهت بمصافحة بين الجنود الأمريكان والألمان قبل أن يذهب كلٌّ في طريقه، لتنتهي قصة ستبقى مدى الدهر شاهدة على أن الرهان على الفطرة الإنسانية المُحِبَّة للسلام قد يربح، حتى ولو كان في خضم أبشع حرب عرفها البشر.