يحدث أحيانًا أن نأخذ قرارات ثم نَعجَب لها، فهي لا توافق هوانا العام ولا تشبه اختياراتنا المعتادة، مثل رجل شغوف بالقراءة اشترى شاشة تليفزيون عملاقة ابتلعت نصف غرفة معيشته الصغيرة، رغم أنه لا يُشغِّل التليفزيون سوى للاستئناس بصوته في أثناء قراءة الكتب.
ما الذي يجعل شخصًا يُقدم على هذا الفعل، رغم أنه يخالف مزاجه الشخصي وتفضيلاته عمومًا؟ هل ثَمَّة عوامل تؤثر في قراراتنا حتى إن ظننا أننا نتخذ قراراتنا من رأسنا، باستقلال عن أي مؤثرات خارجية؟ هذا ما يسعى مقال منشور على موقع «سايكولوجي توداي» إلى إجابته.
العوامل الخفية التي تؤثر في قراراتنا
تعتمد قراراتنا على صفاتنا الشخصية وحالتنا المزاجية وانحيازاتنا الشخصية وخبراتنا القديمة وإرادتنا.
انشغل كثير من العلماء لعقود طويلة بدراسة العوامل التي تتحكم في قراراتنا، وأحد هؤلاء هو عالم النفس الاجتماعي «ريتشارد نيسبت»، الذي يرى أن قراراتنا تحكمها مجموعة من العوامل الداخلية، ومجموعة أخرى من العوامل الخارجية التي لا ندرك تأثيرها في العادة.
في رأي نيسبت، هناك مجموعتان من العوامل التي تفسر سلوك الأشخاص، الأولى منها تتعلق بالموقف الذي يجد الشخص نفسه موضوعًا فيه، والثانية تتعلق بطبيعة شخصيته. وبذلك يمكن القول إن سلوك أي شخص يفسره ما يحدث حوله وكيفية استجابته للمؤثرات المحيطة به، إضافةً إلى ما تحمله شخصيته من صفات.
العوامل الداخلية هي تلك العناصر التي نعتقد أنها تؤثر في قراراتنا، مثل صفاتنا الشخصية، وحالتنا المزاجية، وانحيازاتنا الشخصية، وخبراتنا القديمة، وإرادتنا. أما العوامل الخارجية فهي المؤثرات البيئية التي تتحكم فينا دون أن ندري.
إذًا، ما العوامل التي قد تجعل شخصًا يشتري جهاز تليفزيون ضخم رغم أنه ليس من هواة مشاهدة التليفزيون في الأساس؟
أول العوامل الخارجية: شبكة الأصدقاء
تُظهر الأبحاث الحديثة أن السلوكيات العامة للآخرين الذين يشكلون جزءًا من شبكتنا الاجتماعية تؤثر بدرجة كبيرة في سلوكنا، بل إن العلماء وضعوا نماذج رياضية مفصلة تصف بدقة انتشار السلوكيات البشرية من خلال شبكات النظراء، وفق كاتب المقال.
ربما جاء قرار شراء شاشة التليفزيون الضخمة تلك إذًا تأثرًا برأي أحد الأصدقاء، فقد أظهر بحث أُجري عام 2007 أن اكتساب أحد أصدقائك وزنًا زائدًا في فترة معينة يرفع فرصك أنت في زيادة الوزن بنسبة 57%.
يضرب كاتب المقال مثالًا مثيرًا عن الطلاق، فقد خلص الباحثون أنفسهم في 2013 إلى أن وجود شخص مطلَّق في دائرة معارفك يجعلك أكثر عرضةً للطلاق بنسبة 75%، بل إن طلاق صديق صديقك من شأنه أن يرفع فرص طلاقك لتكون أعلى من غيرك بنسبة 33%.
هل كان أصدقاء ذلك الرجل الذي دفع مبلغًا كبيرًا لاقتناء شاشة ضخمة يسعون إلى تخريب حياته مثلًا؟
من حسن الحظ أن السلوكيات الجيدة أيضًا قابلة للانتشار، وفق الكاتب، فقد أظهر الباحثون أن إقلاع أحد الزوجين عن التدخين يقلل فرص الآخر في التدخين بنسبة 65%، وتوقُّف أحد أصدقائك عن التدخين يخفض فرصك في التدخين بنسبة 36%.
يبدو أن تلك القرارات التي ظننا أننا أخذناها بكامل إرادتنا دون الوقوع تحت أي ضغط جاءت نتيجة تأثرنا بسلوكيات أصدقائنا وأقاربنا، فلعل أحد أصدقاء ذلك الرجل يملك شاشة تليفزيون كبيرة وظل يباهي بها، حتى استقر في نفسه هو الآخر أن عليه اقتناء واحدة.
اقرأ أيضًا: شهود أكثر.. فرص نجاة أقل: كيف تنجو بحياتك من الجهل الجمعي؟
ثاني العوامل الخارجية: سياق الموقف
يلعب سياق الموقف الحالي الذي تجد نفسك فيه دورًا مؤثرًا في قرارك، بحسب المقال، فقد تجد رغبةً في التعرف إلى شخص قابلته في حفل خلال يوم مشمس لطيف، لكن فرصة التودد إلى شخص غريب تتقلص لو التقيته في مكان بارد خلال وقت متأخر من الليل، إذ سيكون سياق الموقف حائلًا دون إظهارك لشخصيتك الودودة.
يقول الكاتب إن أُسُس علم النفس الاجتماعي تشير إلى أن سياق الموقف يؤثر بدرجة كبيرة في سلوك الأشخاص. وتُظهر دراسة شهيرة أجريت عام 1973، عُرفت باسم «تجربة السامري الصالح»، أن استعداد الناس للتوقف ومساعدة شخص غريب تتأثر كثيرًا بمدى استعجالهم، وليس بدرجة تدينهم، وتُظهر التجربة كذلك كيف أن تغييرًا بسيطًا في سياق الموقف يغلِّب سمة من سمات الشخصية.
هكذا، ربما كان صديقنا في عجلة من أمره حينما قرر شراء التليفزيون، فلم يحسن التفكير.
يتساءل الكاتب عن كيفية اتخاذ قرارات أكثر حكمةً في حياتنا، خصوصًا في ظل الاعتقاد بأن الحكمة صفة غير نسبية، فإما أن يمتلكها الشخص أو لا، ومن غير المتصوَّر أن تتأثر صفة جليلة ومهمة مثل الحكمة بعوامل تافهة أو عابرة في بيئتنا الحالية.
يتخذ الإنسان قرارات أكثر حكمةً حين يكون مع آخرين، وحين يفكر في المشاكل باعتبارها تخص أشخاصًا آخرين.
يشير المقال إلى دراسة صدرت عام 2017، أكدت أنه حين يتعلق الأمر بالتفكير الحكيم في يوم بعينه، يكون التباين المُلاحَظ بين أنماط تفكير الشخص الواحد في أوقات مختلفة من اليوم الواحد أكبر من التباين بين أنماط تفكير أشخاص مختلفين.
بقول آخر، لا يصح أن نقول إن بعض الأشخاص يتسمون بالحكمة طَوَال الوقت، بينما تنعدم الحكمة تمامًا لدى غيرهم، فكلنا نكون حكماء أحيانًا وغير حكماء في أحيان أخرى، وكأن الحكمة حالة وليست صفة، تتغير بدرجة كبيرة وَفق معطيات الموقف الحالي.
اقرأ أيضًا: 10 من أفكار «سيغموند فرويد» المؤثرة في علم النفس إلى اليوم
الحكمة هي أن نفكر معًا
ربما تغرينا كل هذه الأبحاث بالميل نحو التفكير وحدنا بعيدًا عن الناس، وأخذ قراراتنا منفردين، لكن تأثير دوائر معارفنا في سلوكنا لا يعني أبدًا أن التفكير المُفرد يؤدي إلى قرارات أفضل.
هذا الأمر يصبح صعبًا حين نكون وحدنا، وفق البحث، الذي ينصح بممارسة التفكير الجماعي، لأن وجود الأصدقاء يساعد المرء في التفكير باعتباره طرفًا ثالثًا خارج المشكلة.
يبدو إذًا أن الأصدقاء ليسوا أعداء الحكمة حصرًا، بل هم، من ناحية أخرى، رعاتها ومحفزوها كذلك، وربما لو كان ذلك الرجل بصحبة أصدقائه ساعة أن قرر شراء التليفزيون العملاق الذي لا يناسب اهتماماته ولا مساحة شقته الصغيرة، لكانوا أثنوه عن قراره غير الحكيم.
للموازنة بين التأثير السلبي لدوائر أصدقائنا والتأثير الإيجابي لتفكيرهم معنا، علينا أن نحسن اختيار معارفنا وننتقي أصدقاءنا بعناية، لأنهم سيشاركون في صناعة حياتنا بصور غير مباشرة، وعلينا بالتالي أن نحيط أنفسنا بأشخاص يسعدنا التأثر بهم، وإضافةً إلى ذلك، علينا أن نتخذ قراراتنا المهمة في حضور الأصدقاء، من أجل الوصول إلى أحسن قرار.