هناك بعض الحقائق المعروفة والمُثبتة عن الأكل وفسيولوجيا التغذية، مثل احتياج البشر إلى بعض المغذيات بصورة دائمة، وأن أجسادنا تحول الغذاء إلى طاقة ثم إلى نسيج عضلي، ثم إلى طاقة مرة أخرى عند الحاجة. لكن ثمة أسئلة أكثر تعقيدًا تفتقر إلى إجابات واضحة، مثل: ما الحِمْية الغذائية المناسبة لجميع الناس؟ أو المناسبة لك مثلًا على وجه الخصوص؟
ما يزال علم التغذية في مهده، لكنه يُعد نقطة التقاء بين كثير من العلوم المعقدة، مثل الكيمياء، والكيمياء الحيوية، وعلم وظائف الأعضاء (الفسيولوجي)، وعلم الأحياء الدقيقة، وعلم النفس. ورغم أننا لا نزال بعيدين كل البعد عن فهمه بالكامل، سنظل دائمًا بحاجة إلى تناول الطعام من أجل البقاء.
لكن وفقًا لمقال خبيرة التغذية «ميشيل أليسون» المنشور على موقع «ذي أتلانتيك»، فإننا نبحث في الطعام عمَّا هو أكثر من البقاء، نبحث عن الخلود.
هل يرتبط الأكل بالموت؟
رهبة الموت والحاجة إلى قمعها هي ما يحرك أغلب السلوك البشري، ويسري الأمر نفسه على الأكل.
لو كانت وظائفنا الحيوية طقوسًا سحرية تساعدنا في النجاة بحياتنا، لكان الأكل أولها وأهمها. فأن تأكل يعني أن تنقل الطاقة الحيوية من جسم إلى آخر، وذلك وفقًا لما نقلته أليسون عن عالم الأنثروبولجيا الثقافية «إرنست بيكر»، في كتابه الذي نُشر بعد وفاته «الهروب من الشر».
يجب على جميع الحيوانات أن تتغذى على غيرها من الكائنات لتنجو بحياتها، سواء كانت هذه التغذية في هيئة رضاعة، أو أكل نباتات، أو حتى أكل حيوان آخر. ورغم كون عملية «الدمج» هذه (إدخال كائن حي آخر إلى جسدك) مهمة للغاية من أجل البقاء، ترى أليسون أنها مربكة في الوقت ذاته، لأنها تلفت النظر إلى رباط وثيق يجمع بين الموت وأحد أهم عوامل البقاء: الأكل.
وعي الإنسان بنفسه يعني أننا، ابتداءً من سن مبكرة نسبيًّا، ندرك معنى أن نموت. تشير أليسون إلى كتاب بيكر الحائز على جائزة بوليتزر، «إنكار الموت»، الذي افترض فيه أن رهبة الموت والحاجة إلى قمعها هي ما يحرك أغلب السلوك البشري، ويسري الأمر نفسه على الأكل في رأي الكاتبة.
يبدو أن الإنسان القديم قرر أن الحياة تحمل معنًى أعمق من مجرد النجاة بنفسه في انتظار موتٍ آتٍ لا محالة، فسارع بإنشاء ما يلهيه ويُشعره بالراحة ويرفِّه عنه ويُضفي على حياته معنًى. أنشأ الإنسان ثقافات لم يكن الموت فيها سوى إحدى مراحل العبور وليس نهاية كل شيء، وفي سياق هذه العملية شيَّد مباني ليعيش فيها، وألَّف أغاني ليشاركها مع ذويه، وأضاف التوابل إلى طعامه، فصار مميزًّا في كل ثقافة عن غيرها.
اقرأ أيضًا: الأكل كبطاقة هوية: كيف تحولنا إلى وصفات مطبوخة في قدور العالم
لماذا نأكل؟
لأن الحياة البشرية، حسب أليسون، محمَّلة بمجموعة من المعاني والرموز والطقوس والسلوكيات التي أعدها الإنسان لنفسه، فستجد وراء فعل بسيط مثل تناول الطعام معنًى ثقافيًّا كبيرًا، وحتى الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع، يظل المعنى الثقافي لأغذيتهم مهمًّا.
يجمع الأكل البشرَ كلهم، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، ولذا تقول أليسون إننا نأكل لو رغبنا في الاحتفال، ونأكل لو أُصبنا بالحزن، ونأكل عندما يحين موعد تناول الطعام، وكذلك نأكل برفقة من نحب رغبةً في التقرب منهم، أو نأكل لأجل المتعة والترفيه.
قد يهمك أيضًا: لماذا يتجه فقراء العالم لطعام الأغنياء، والعكس؟
ليس من قبيل المصادفة أن نحاول تجاهل السبب الرئيسي الذي يدفعنا دفعًا نحو الطعام، فمَن قد يستسيغ طعامه لو ذكَّر نفسه في كل مرة حاول تناول إفطاره أنه يفعل ذلك بغرض درء الموت؟
تقول الكاتبة إن ثقافة الأكل ظهرت كي تُنسينا أننا سنموت على كل حال، ويرى بيكر أنه حين يتعلق الأمر بالطعام يتعدى كونه مجرد تغذية بدنية، وأن رغبة الإنسان في إطالة حياته تضخمت لتصبح هوسًا بالوصول إلى الكمال، رغبةً في تحقيق شيء من الخلود.
كيف وجدنا في الطعام سبيلًا للخلود؟
يسعى الإنسان طَوَال الوقت إلى التنوع والتجديد، لكننا نحمل خوفًا فطريًّا من الطعام في الوقت نفسه، بحسب أليسون، فنُصاب بنوع من القلق يقابل رغبتنا في تجربة أطعمة جديدة، ويقترن هذا القلق بخوفنا المتوارَث من الأكلات المجهولة خشية أن تكون سامة.
تشعر جميع الحيوانات بهذا، لكن ليس بنفس حدة شعور الإنسان، ولو لم يكن الموت يلُوح من كل طعام غير مألوف لكان اختيار الأكل من محلات السوبر ماركت أسهل كثيرًا، ولم يكن الطعام ليصيبنا بكل هذا القدر من القلق.
يدَّعي أخصائيو التغذية أنهم تخلصوا من الدهون والأمراض بشرب العصائر الطازجة فقط.
تشير أليسون إلى أن البشر لا يملكون كتابًا محددًا وواضحًا يحوي قواعد ترشدهم إلى ما يجدر بهم أكله، رغم كل الجهد الذي يبذله علماء وأخصائيو التغذية.
يمر كل الأطفال تقريبًا بفترة ينتقون فيها أطعمة معينة، يحبون بعضها ويمقتون بعضها، وهكذا تبدأ تفضيلاتهم الغذائية في التحدد. ويبدو أن هذه الانتقائية التي يُظهرها الأطفال تجاه الطعام، رغم عدم قدرتهم على حساب السُّعرات الحرارية أو فهم نظريات التغذية، دليل واضح على حبنا الفطري للغذاء وخوفنا منه في الآن نفسه.
ربما يتجسَّد الصراع بين هذين الشعورين في إحساس الإنسان أحيانًا بوخز ضمير لمجرد امتلاكه جسدًا يشغل مساحة، واشتهائه أكل الكائنات الأخرى، ممَّا يجعله يعاني شعورًا دائمًا بذنب ما يجب التكفير عنه. وتوضح أليسون أن الثقافة لا توفر الموارد الكافية لإشباع شهية الإنسان وراحته فحسب، بل تمنحه كذلك سُبُلًا للتضحية بقدر من الراحة نظير الخلاص من هذا الإحساس.
هنا يأتي دور المعلمين الروحيين، أو المعروفين في الغرب باسم «Wellness Gurus»، الذين يدَّعون أنهم تخلصوا من الدهون والأمراض، وحتى انعدام المعنى، بشرب العصائر الطازجة النقية «المعصورة على البارد».
ماذا يجمع الأنظمة الغذائية والأبطال الأسطوريين؟
كسب كثير من الأبطال التقليديين وضعهم ومحبتهم لدى الناس بمواجهة الموت وهزيمته، مثل هرقل، الذي مُنح الخلود بعد عمر طويل من أَسْر وقتل الوحوش الضارية. أما المعلم الروحي فيوثق انتصاره الدائم على الطبيعة الحيوانية البائسة بالتقاط صور لشرابه الصحي المخفوق وجسمه المصقول الجميل.
لكن ليس من العدل في رأي أليسون أن يجمع شخص بين الصحة والجمال وهذا الوضع الاجتماعي دون ثمن، لذا يُضحِّي الراغبون في تحقيق كل هذا ببضعة الأشياء في المقابل، فهم يحرمون أنفسهم من بعض ملذات الحياة، مثل السكَّر والملح واللحوم.
الأطعمة التي نجدها نظيفة قد يراها غيرنا قذرة، وليس هناك طريق محدد تجاه انتقاء الاختيارات الأنقى.
ترى أليسون أن الناس مثقلون بمسؤولية الاختيار ويعانون من شعور دائم بالخطر خوفًا من ارتكاب خيارات خاطئة، ولهذا يبحثون باستمرار عن قواعد أعدها غيرهم، وأبطال ناجحين ليقتفوا أثرهم، ويرشدونهم إلى بر الأمان.
يسلِّم الناس، بكامل إرادتهم وبسعادة تامة، حرية اختيارهم مقابل حِمْية غذائية تمنع عنهم أطعمتهم المفضلة، وتجبرهم على أطعمة غير مألوفة وغير مستساغة وصعبة المنال، وكل ذلك في سبيل التخفف من مسؤولية الاختيار. فأن تختار طعامك بحرية يعني أنك ستلوم نفسك على أي ضرر تتعرض له، بما في ذلك زيادة الوزن والمرض والتقدم في العُمر.
لكن الثقافة الغذائية في تحول مستمر، فالطعام الذي يُعد صحيًّا اليوم قد يصبح مضرًّا غدًا، وهناك اختلافات أيديولوجية كثيرة داخل كل ثقافة غذائية، فالأطعمة التي يجدها أحدنا نظيفة قد يراها غيرنا قذرة، وليس هناك طريق محدد تجاه انتقاء الاختيارات الأكثر نقاءً.
هناك في رأي أليسون خيط وحيد مشترك بين كل هذه الأيديولوجيات، هو أن الانتماء إلى إحداها يتيح للإنسان أن يشعر بالسُّمُو فوق طبيعته الإنسانية البائسة، فيصير نسخة أنقى وأقل حيوانية، لعله ينال الخلود.