حين كانت أغلب دول المنطقة تعاني مخلفات الاستعمار، ظهرت في تونس بعد الاستقلال حركة تحررية مناصرة للمرأة، اعتمدت على الموروث الفكري المحلي منذ بن عاشور إلى الحداد. نشأت تلك الحركة عن طريق إرادة سياسية متمثلة في الرئيس الحبيب بورقيبة، الذي حاول تكريس المساواة وجعلها من أهداف دولة الاستقلال.
أنتجت هذه السياسة مجلة الأحوال الشخصية عام 1956، وهي مجموعة القوانين التي تعتبر أرضية ملائمة ونقطة انطلاق مهمة للحركة النسوية في تونس، ستبني عليها الأجيال المتعاقبة وتحاول تطويرها والمطالبة بمزيد الحقوق.
هنا نحاول رصد أهم العوامل التي ساعدت في ظهور حركة نسوية فاعلة في تونس، والمحطات التي عرفتها هذه الحركة، وكذلك الآليات التي اعتمدتها لتكريس أهدافها.
من خير الدين إلى بورقيبة: جذور الحركة التونسية
لم تكن الحركة النسوية بشكلها الحالي في تونس نتيجة مصادفة، بل تعتبر إفرازا لعدة حقب متتالية تركت كل واحدة منها مكتسباتها، فتقدمت من خلال هذه التراكمات حركة احتجاجية نسوية بطريقة ثابتة وبنسق متصاعد.
تواصل هذا التمشي بعد قرن تقريبًا مع أصوات وأقلام نسوية مثل الطاهر الحداد، الأب الروحي للحركة النسوية التونسية، الذي نشر منذ 1928 مجموعة من المقالات في جريدة «الصواب»، طالب فيها بتمكين المرأة من حقوقها واستشارتها في حالة الزواج وتمكينها من الطلاق، وهو ما كان يعتبر من المحرمات في تلك الفترة، وكتب تلك الأطروحات في كتابه الذي يعتبر عصارة فكره، «امرأتنا في الشريعة والمجتمع».
أسهمت مجهودات خير الدين والحداد وغيرهم ممَّن آمنوا بحرية المرأة في تشكل أولى محاولات الخروج عن المألوف والتغريد خارج السرب.
فبالإضافة إلى التعليم الذي بدأ ينتشر في صفوف بعض الطبقات الاجتماعية خلال عهد الاستعمار، واشترك في تغير الرؤى وانفتاح الآفاق، أقدمت النساء على العمل الميداني عن طريق الخروج إلى المجال العام من دون حجاب أو سفساري (نوع من الملابس)، وكانت منوبية الورتاني من بادرت بتلك الحركة في 1924، ثم عادت حبيبة المنشاري وكررتها عام 1929.
لم تكن مثل هذه الحركات حوادث عابرة، بل إعلان تمرد تجاوز الاحتجاج القولي إلى الممارسة الفعلية. كان احتلال المجال العام، ولو رمزيًّا، عاكسًا لمدى تطور الوعي النسوي في تلك الفترة، ومدى تأثير أفكار المصلحين الذين ناضلوا من أجل تحرر المرأة.
وقتها، بدأت الجمعيات المساندة للقضية تتكون، مثل الاتحاد الإسلامي النسائي عام 1932، الذي كان مرتبطًا بصورة وثيقة بالأوساط الزيتونية.
استثمرت الحركة النسوية في تونس منذ الاستقلال موروثًا فكريًّا داعيًا إلى حرية المرأة، شمل استقلالها الاقتصادي وتمتعها بحقوقها كاملة.
قد يعجبك أيضًا: أسئلة شائعة عن النسوية
كان هذا التاريخ النضالي والموروث الثقافي حافزًا مهمًّا سيعوِّل عليه الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال، وهو المتأثر بالثقافة الأوروبية، لينشئ مجلة الأحوال الشخصية عام 1956، وهو ما يعتبر إنجازًا وتتويجًا لحركة فكرية استمرت منذ أكثر من قرن.
بصدور المجلة، انتقلت الحركة النسوية في تونس إلى مجالات أخرى من النضال ورفعت سقف مطالبها، فمع منحها حق الطلاق وإلغاء تعدد الزوجات، وإلغاء المحاكم الشرعية وتعويضها بالمحاكم العدلية، تفرغ الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، وهو منظمة نسوية تأسست بعد الاستقلال في 1956، إلى حملات توعوية تهدف للتعريف بالمنظومة القانونية الجديدة في المرحلة الأولى، ثم سعت إلى العمل على ترسيخ ثقافة تحديد النسل انطلاقًا من الستينيات.
استثمرت الحركة النسوية منذ الاستقلال موروثًا فكريًّا تقدميًّا داعيًا إلى حرية المرأة منذ حقبة خير الدين باشا، وأدت ترسانة القوانين، التي تضمنت حق المرأة في الاستقلال اقتصاديًّا عن زوجها (إنشاء حساب بنكي، إنشاء مؤسسة...)، إلى اعتبار المرأة عنصرًا فاعلًا في المجتمع، تتمتع بحقوقها كاملةً وتُسهِم في تطور البلاد، وكانت هذه استراتيجية بورقيبة، الذي سعى إلى قطع التقاليد التي تحقر المرأة.
بورقيبة وبن علي: الحركة النسوية بين زمنين
المتمعن في تطور الحركة النسوية في فترة ما بعد الاستقلال يلاحظ أن النسق التصاعدي للحركة المطالبة بالحقوق والضامنة لحرية المرأة عرقت محطات بين حقبتي بورقيبة وبن علي. فمع دولة الاستقلال، كانت الاستراتيجية واضحة وترتكز إلى إعلاء قيمة المرأة وتحسين أوضاعها.
هنا يمكن أن نتحدث عن نوع من الاندماج بين الحركة النسوية والسلطة، فالهدف كان واحدًا: نشر الوعي بالمنظومة القانونية الفتية. هكذا هيمن الحزب الدستوري الجديد (الحزب الحاكم) على النشاط النسائي واحتكره.
لم تكتفِ المناضلات النسويات بهذا الدور، فسعت مجموعة منهن، على رأسها إلهام مرزوقي التي توفيت في 2008، إلى تأسيس تيار مستقل في نهاية السبعينيات. هذا الانشقاق والتمرد على عملية الدمج بين الحزب والحركة النسوية رافقه ظهور «نادي دراسة قضايا النساء» سنة 1978، وصدرت كذلك مجلة «نساء» سنة 1985.
تحول النضال النسوي في حقبة بن علي إلى وسيلة للتعبير عن الموقف السياسي.
لعل هذه الحركة النسوية التي كانت مستقلة عن السلطة جاءت نتيجة الحاجة إلى رؤية مغايرة للسلطة، وهي من جانب آخر رد فعل عن حقبة السبعينيات، التي عرفت بداية صعود قُوى رجعية ومحافِظة تدعو إلى مراجعات على مستوى مجلة الأحوال الشخصية.
كانت الحركة النسوية المستقلة، التي ينتمي أغلب أعضائها إلى اليسار، في حالة تأهب للنضال أمام صعود الإسلام السياسي وتراجع مواقف بورقيبة، الذي أعلن في المؤتمر السادس للاتحاد الوطني للمرأة التونسية أن «المرأة التونسية ليست مضطرة إلى الخروج للعمل خارج منزلها».
هذا التراجع على مستوى أهم مقومات دولة الاستقلال هو ما سيعزز الحركة النسوية، التي ستصبح حاملةً لمشروع فكري متكامل وتصور مجتمعي تناضل من أجل تحقيقه، خصوصًا مع انقلاب 7 نوفمبر 1987، الذي سيؤدي إلى تغيرات كبيرة على الساحة السياسية.
اقرأ أيضًا: تجديد الدين في تونس: 200 عام من التفكير
عندما تسلم بن علي السلطة، سعى إلى انتقاد سياسة بورقيبة المغالية الذي قطع الموروث الإسلامي التونسي، وهي استراتيجية تصدت لها الحركة النسوية ممثلةً في جمعية النساء الديموقراطيات، التي تأسست سنة 1989، فتحول النضال النسوي مع بن علي إلى وسيلة للتعبير عن الموقف السياسي.
فمع استغلال النظام شعارات تلمع صورته في الخارج، ورغم أن وضعية المرأة وحقوقها تعززت بمجموعة من القرارات (حق التونسية المتزوجة من أجنبي في إعطاء الجنسية لأبنائها مثلًا)، فإن الواقع السياسي وفساد مؤسسات الدولة جعل الحركة النسوية تنتفض وتصارع النظام، وهو ما أدى إلى معاناة ومضايقات أمنية على جمعية النساء الديموقراطيات.
الثورة والحركة النسوية: رهان على المستقبل
كانت الثورة التونسية سببًا في انفتاح المجال العام وزوال الرقابة مع التطور التكنولوجي وظهور وسائل الاتصال الحديثة، فاختلفت أشكال النضال وتعددت، فمن التنظُّم في إطار جمعيات وكتابة المقالات، انتقلت الحركة النسوية التونسية إلى أشكال راديكالية. فالتحقت أمينة السبوعي (أمينة تايلر) في عام 2013 بمجموعة «فيمن» التي تناضل من أحل حقوق المرأة معتمدةً على التعري وكتابة شعارات على الأجساد.
ما أقدمت عليه أمينة كان خطوة جريئة، تعيد فتح مجال النقاش حول جدوى ونجاعة الآليات المعتمَدة من مناضلات ومناضلي الحركة النسوية منذ عقود.
تمكنت أمينة تايلر من التعريف بقضايا المرأة التونسية على المستوى العالمي، وزعزعة المعتقدات التي تعتبر جسد المرأة عورة.
بين مؤيد ورافض للفكرة، طرحت تايلر (التي انسحبت لاحقًا من «فيمن») قضية حرية التعبير في السياق الثوري الذي شهدته البلاد، وأكدت في عدة برامج تليفزيونية وحوارات صحفية، اقتناعها بضرورة التخلي عن الآليات السابقة واللجوء إلى وسائل راديكالية وعملية للتعبير عن معاناة المرأة، وبسبب هذا تلقت عديدًا من التهديدات جعلتها تغادر إلى فرنسا.
قد يهمك أيضًا: كيف أصبحت نسوية نكدية؟
المتمعن في الوضعية التي خلقتها أمينة تايلر يتساءل عن نقاط التشابه بينها وبين مناضلات نسويات مثل حبيبة المنشاري أو منوبية الورتاني.
ألم تكن الدعوة إلى نزع الحجاب من المحرمات؟ ألم تكن الحركة التي أقدمن عليها في القرن الماضي سابقةً لعصرهن، تمامًا كما فعلت أمينة في 2013؟
ثَمَّة من يساند هذا التحليل، ويرى أن ما فعلته أمينة كان شكلًا من أشكال النضال الذي حققت عن طريقه هدفين: الأول هو التعريف بقضايا المرأة التونسية على المستوى العالمي، والثاني ضرب القواعد المجتمعية وزعزعة المعتقدات البالية التي تعتبر جسد المرأة عورة.
بين مؤيد ورافض لطريقة أمينة، يُجمِع الكل على رفض ما تعرضت له الفتاة من مضايقات وتهديدات. لم تقتصر الحركة النسوية بعد الثورة على ذلك فقط، بل واصلت تقدمها عبر مؤسسات الدولة، خصوصًا المجلس التأسيسي وبضغط من المجتمع المدني، عن طريق مقترحات قوانين ترتقي بوضعية المرأة.
في 13 أغسطس 2017، صودق بالإجماع على القانون الأساسي المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة. ويبدو أن الرئيس الباجي قائد السبسي يواصل السير على نهج بورقيبة، إذ اقترح التخلي عن منشور 1973 المتعلق بمنع زواج التونسية المسلمة من غير المسلم، ودعا إلى إقرار المساواة في الإرث.
مثل هذه المطالب هي المعركة الحقيقية لجمعية النساء الديموقراطيات وكل الحركة النسوية في تونس، التي سعت منذ 14 يناير إلى إلغاء التحفظات التي سجلتها تونس على اتفاقية «سيداو»، ونجحت في ذلك.
الحركة النسوية في تونس، بمختلف منظماتها، عنصر فاعل في المجتمع التونسي، ولها دور كبير في ضمان حقوق المرأة ومكتسباتها منذ الاستقلال، وهي انعكاس لمجهودات كبيرة بُذلت منذ أكثر من قرن ونصف في سبيل قراءة معاصرة للموروث ومقاطعة التقاليد التي تحقر المرأة وتضعها في منزلة أقل من الرجل. وعبر النقاش والمُحاجَّة، ستتركز أهداف الحركة النسوية على المساواة في الميراث، لتكتمل الصورة وتتمتع المرأة بحقوقها في مجتمع متغير منفتح وقابل للاختلاف.