أنت رائع، مميز، متفرد، ليس لك مثيل، لديك من القدرات الكامنة ما يكفي لتحريك الجبال. ليكن إيمانك في نفسك، في قدراتك اللا محدودة التي لم تكتشفها بعد. أنت تستحق كل ما هو عظيم في هذا العالم، وأكثر. انتظر قليلًا، هل صدقت أنك كذلك؟ أنا أمزح فقط، أنت لست أيًّا من هذه الأشياء.
ربما ما جعلك تصدق هذا الكلام، أو على الأقل لا تستنكره، أنك تسمعه يوميًّا بشكل مستمر من مصادر شتى، تخبرك بشكل ضِمني أحيانًا وصريح غالبًا أن حبك لنفسك وتقديرك لأهمية واستحقاق ذاتك هو الخطوة الأهم في سبيل تحقيق كل ما تسعى إليه في العالم.
لم يكن الأمر هكذا دومًا، هذا النوع من الخطاب التحفيزي لم يصر جزءًا من الرسائل الموجهة إلينا والصادرة منا إلى الآخرين بهذا الكم الهائل إلا في النصف الأخير من القرن العشرين، خلال ثورة تقدير الذات.
الدعوة إلى تقدير الذات (Self-esteem)
«لا يمكنني التفكير في أي مشكلة سايكولوجية، من القلق والاكتئاب إلى الخوف من الحميمية ومن النجاح وحتى العنف المنزلي والتحرش بالأطفال، لا يعود مصدرها إلى مشكلة قلة تقدير الذات». الكاتب والمعالج النفسي الأمريكي الكندي «ناتانيال براندون».
في كتابه «سايكولوجية تقدير الذات»، يناقش براندون فكرة أن تقدير الذات أهم جزء في شخصية الفرد، وأن على المرء أن يفعل كل ما يمكن فعله لتعزيز شعوره بالتقدير والثقة تجاه نفسه، وأن جُلَّ المشاكل النفسية التي تحيل حياة الناس إلى جحيم تعود في الأساس إلى الشعور السلبي تجاه الذات.
الأبحاث أظهرت أن كثيرًا من الفاشلين دراسيًّا أو عمليًّا أو اجتماعيًّا، والمكتئبين، ومدمني المخدرات والكحول، يعانون انخفاضًا حادًّا في الثقة وتقدير ذواتهم، والعكس صحيح بالطبع، فالناجحون والسعداء ترتفع لديهم نسبة تقدير الذات إلى حد كبير.
لتعزيز ثقة النفس، يغمر الآباء أطفالهم بالحب والثناء والقبول، وتُلغَى الأنشطة التنافسية التي تؤدي لخسارة أحد المشاركين.
إذًا فالأمر واضح: إن استطعنا، بشكل ما، تنشئة الصغار بشكل يضمن ارتفاع نسبة ثقتهم في أنفسهم وحبهم لذواتهم، فلن يكون منهم فاشلًا ولا مكتئبًا ولا مجرمًا، ربما سنصل أخيرًا إلى المجتمع المثالي.
نالت الفكرة قبولًا مجتمعيًّا واسعًا، سريعًا، وتبنيًا تشريعيًّا-حكوميًّا بدايةً من منتصف الثمانينيات، فصدرت قوانين وتشريعات تعيد بناء العملية التعليمية والفلسفة التربوية بالكامل في المجتمع الأمريكي، كي يدور في فلك مركزه تعزيز ثقة صغار السن في أنفسهم بشكل مطلق قبل أي شيء.
لتعزيز ثقة النفس المطلقة لدى الأطفال، صار من الواجب على الوالدين أن يغمرا الأبناء بالحب والثناء والقبول الدائم غير المشروط، وصارت الأنشطة المدرسية تهدف إلى نفس الشيء: أُلغي وهُمِّش كل نشاط تنافسي يؤدي إلى فوز مشارك وخسارة آخر، البطولات الرياضية صارت تمنح الجوائز على المشاركة وليس الفوز، الجميع يحصل على نجوم ذهبية في فصول الحضانة لأن الجميع يستحقونها.
صار كل طفل متميزًا جميلًا رائعًا مختلفًا بطريقته الخاصة، ويستحق شتى أنواع الجوائز لمجرد وجوده، بغض النظر عن أدائه دراسيًّا وأخلاقيًّا. الأطفال مسببو المشاكل كان متخصصون يتعاملون معهم، فيعملون على تعزيز ثقتهم في أنفسهم بشكل خاص، لأن سبب مشاكلهم يعود إلى قلة تقدير الذات بالتأكيد.
في الغالب لا ينطبق هذا الكلام عليك، عزيزي قارئ الموضوع، ولا عليَّ أنا، كاتبه. حقيقة أني أكتب الموضوع بهذه اللغة وأنت تقرأه بها تقول كثيرًا عن نشأتنا في بقعة من الأرض تربي مدارسها النشء على أنهم قطع خراء لا قيمة لها.
قد يهمك أيضًا: كيف تؤثر المجتمعات في طريقة عمل عقولنا؟
كل ما سبق ذِكره حدث في تلك الأراضي البعيدة عبر المحيطات، لكن أصابنا منه ما أصابنا عبر رسائل التبشير بدين «تقدير الذات»، التي تحتويها كل الأدبيات المستوردة من هناك تقريبًا.
الآن، يُفترض أن هناك عدة أجيال، على الأقل في الولايات المتحدة الأمريكية، تربت بالكامل ولديها تقدير عالٍ للغاية لذواتهم. إن كانت نظريات علماء النفس صحيحة، فيُفترض أن هذه الأجيال تخلصت من كل المشاكل اللعينة التي تسببت فيها قلة تقدير الذات للأجيال السابقة، ويُفترض أنهم أنشؤوا أخيرًا المجتمع المثالي.
مجتمع تقدير الذات المثالي
مع نهايات الألفية الثانية، كلفت «جمعية العلوم النفسية» مجموعة من الباحثين بالتوصل إلى فوائد تقدير الذات الحقيقية، ومعرفة ما إذا كان ذوو التقدير العالي لذواتهم ينتفعون منه ويعيشون فعلًا حيوات أفضل بسببه أم لا.
لنتحدث مثلًا عن الأداء الدراسي: الأبحاث المبدئية القديمة أظهرت أن المتفوقين دراسيًّا يتميزون بتقدير عالٍ لذواتهم، عكس أولئك ذوي الأداء الضعيف، وبرفع تقدير الذات عندهم يُفترض أن أداءهم صار أفضل. لاقت الفكرة قبولًا واسعًا، لأن الكل يبحث عن طريقة ليصبح أفضل في الحساب بدون حل الواجب المنزلي، ورفع تقدير الذات يبدو حلًّا مثاليًّا.
بالطبع لم يحدث هذا، علماء النفس ارتكبوا أكثر الأخطاء كلاسيكيةً، خلطوا المسببات بالنتائج. تقدير الذات العالي كان نتيجةً للتفوق الدراسي عند المتفوقين وليس العكس، أما أولئك الذين رُبُّوا على رفع تقديرهم لأنفسهم فلم يتحسن أداؤهم بأي شكل. في بعض الفصول، الطلبة الذين يحصلون على تقدير «مقبول» مثلًا في امتحانات منتصف العام، كانوا يتلقون فصولًا خاصة لرفع مستوى تقدير الذات عند أنفسهم، والنتيجة كانت أن أغلبهم يرسب بنهاية العام.
أبحاث أخرى تساءلت: هل يعيش ذوو التقدير المرتفع لأنفسهم علاقات صحية سليمة مع الآخرين؟ هؤلاء يتحدثون عن أنفسهم عادةً بطريقة «أنا رائع في التعامل مع الآخرين، الجميع يحبني»، و«أنا ذو شعبية كبيرة، وأصدقائي كثيرون».
المراهقون ذوو الشعبية العالية يزيد تقديرهم لأنفسهم عن الآخرين، ويحضرون حفلات أكثر فيجربون الكحول والجنس مبكرًا.
التجارب التي أُجريت بهذا الخصوص كانت بسيطة، فالأشخاص ذوو الاعتبار العالي لأنفسهم أُجلِسوا مع آخرين وتُركوا ليتفاعلوا لفترة، ثم سُئل كلُّ واحد من الطرفين على حدة: ماذا تظن الانطباع الذي تركته لدى الآخر؟ وما رأيك في هذا الآخر؟
من لديهم تقدير عالٍ لأنفسهم كانوا يظنون أنهم كانوا رائعين، لا بد أن الآخر أحبَّهم بشدة، أما آراء الآخرين فيهم فكانت عادية للغاية وغير محمَّلة بكل الانبهار الذي ظنوه في أنفسهم، بل وأحيانًا رآهم الآخرون مغرورين حمقى.
عند البحث عن أثر تقدير الذات في خفض المشاكل الناتجة عن سوء سلوك المراهقين، مثل الجنس وإدمان المخدرات والكحول والحمل والتدخين مبكرًا، اتضح أن التدخين ليس له علاقة بتقدير الذات، فمعدلات التدخين لا تختلف بين ذوي التقدير العالي والآخرين. اختلف الأمر مع الكحول، فأصحاب التقدير العالي لأنفسهم يجربون الشراب في وقت أبكَر من الآخرين، والشيء نفسه بالنسبة لجنس المراهقين، الذي يؤدي، كنتيجة مباشرة، إلى الحمل المبكر.
يحدث هذا غالبًا لأن المراهقين ذوي الشعبية العالية المحبوبين في المدرسة يزيد تقديرهم لأنفسهم عن الآخرين، وفي نفس الوقت هم أكثر الناس حضورًا للحفلات، حيث الكحول والتجارب الجنسية المبكرة.
قد يعجبك أيضًا: العلم والتعليم كأداتي سيطرة على الإنسان
وُجد أيضًا أن ذوي تقدير الذات العالي من المراهقين والشباب أكثر مَيْلًا لحمل أفكار عنصرية من الآخرين، ويميلون كذلك إلى رفض الضغوط الاجتماعية من الآخرين، وينخرطون بسهولة في نشاطات خطيرة، مثل القيادة بسرعة شديدة وشرب الكحول والقيادة، ذلك إيمانًا منهم بقدرتهم على التحكم في الظروف مهما كانت خطيرة.
إذًا، تقدير الذات المرتفع أمر سلبي؟
ليس تمامًا. «روي بويمايستر»، عالم النفس الاجتماعي الأمريكي، يتحدث عن فائدتين حقيقيتين من تعزيز تقدير الذات لدى المرء تساعدان على جعل الحياة أفضل:
1. تقدير الذات يعزز الثقة والمبادرة
الأشخاص ذوو التقدير العالي لأنفسهم يحملون بالضرورة ثقة عالية في أنفسهم وإيمانًا شديدًا بقدراتهم، ويعتقدون أنهم على حق في أغلب الوقت حتى إن كانوا مخطئين، وهذا يجعلهم أكثر الناس قدرةً على المبادرة، وأكثر الناس اتخاذًا للقرارات وأخذًا للمخاطرات مهما بدت صعبة ومستحيلة، وأكثرهم استعدادًا لتخطي الفشل والمحاولة من جديد مرة تلو الأخرى.
يؤدي هذا إلى وصولهم لمراحل من النجاح في مساعي الحياة المختلفة أبعد كثيرًا مما قد يصلها ذوو الثقة المحدودة في النفس، الذين يقضون جُلَّ وقتهم مترددين، منصتين إلى آراء الجميع، مهملين آراءهم الشخصية، لأنهم يظنون أنفسهم غالبًا على خطأ، فحتى لو كان أحد هؤلاء أكثر تأهيلًا وأفضل صفاتٍ من آخر ذي ثقة عالية في نفسه، سيظل دومًا في المؤخرة.
روح المبادرة هذه قد تصل بصاحبها إلى نجاحات مهولة، وقد ينتهي به الأمر إلى التورط في «مشروعات عملاقة غير مدروسة» أيضًا، لكنها بوجه عام صفة إيجابية وشبه أساسية للنجاح في الحياة.
كذلك، هذا النوع من الثقة والاعتداد بالنفس، حتى وإن كان مبنيًّا على أسس خاطئة، يشكل نوعًا محدودًا من الحماية لحامله ضد ظواهر مثل «الجهل الجمعي» و«نزع الفردية»، وربما أيضًا «طاعة السلطات»، ذلك أن ذي التقدير العالي لذاته يميل إلى أخذ مرجعيته في اتخاذ القرار من نفسه أكثر من الآخرين.
اقرأ أيضًا: كيف تنجو بحياتك من الجهل الجمعي؟
2. تقدير الذات يحمي من الاكتئاب
السعادة التي يسببها التقدير المرتفع للذات شعور مؤقت، وقد ينقلب إلى اكتئاب حاد في النهاية.
تقدير الذات شعور رائع، وذوو التقدير العالي للذات يشعرون أنهم أفضل حالًا في أوقات كثيرة، خصوصًا عندما تتأزم الأمور، إذ يحسُّون دومًا أنهم قادرون على اجتياز جُلِّ أنواع العوائق بسهولة ويسر، على العكس بالطبع من ذوي التقدير المنخفض للذات.
الحقيقة أن التقدير المنخفض للذات يرتبط ارتباطًا كبيرًا بالاكتئاب، وكل الأبحاث والدراسات أكدت تلك المعلومة، الخلاف فقط على أيهما يسبب الآخر، معضلة البيضة أم الدجاجة الشهيرة، فقد ينبئ تقدير الذات المنخفض بأن الاكتئاب قادم، أو قد يسبب الاكتئاب تقديرًا منخفضًا للذات، لكن المهم أن وجود أحدهما مؤشر على وجود الآخر بشكل أو سواه.
لكن، لاحِظ أن السعادة التي يسببها التقدير المرتفع للذات شعور مؤقت، وقد تنقلب إلى اكتئاب حاد في النهاية، فالشخص المؤمن بقدراته ومهاراته وأهميته الشديدة ينتظر دومًا أن ينال ما يستحقه من تقدير، فلو انتهى به الأمر في مكانة متواضعة مقارنةً بما يظن قيمة نفسه، ستتحول تلك السعادة إلى اكتئاب حقيقي.
قد يهمك أيضًا: ما هو سر السعادة الذي لا يعترف به أحد؟
إنه ليس إلا عدادًا
تعزيز المرء لتقديره لذاته يشبه العبث بمؤشر الوقود في السيارة، وتثبيته على وضع «ممتلئ» بدون أي تغيير فعلي في مستوى الوقود ذاته.
تقترح نظرية «السوسيوميتر» أن الشعور بتقدير الذات ليس إلا عدادًا أو حساسًا وُضع داخلنا ليعطينا قراءات عن مدى تقدير الآخرين لنا، أو هو طريقة لقياس أهميتنا وتأثيرنا في الآخرين، لا يعمل بكفاءة شديدة لكنه يعمل بشكل كافٍ.
فكِّر في الأمر على أنه مثل مؤشر الوقود في السيارة، يعطيك قراءة عن كمِّ الوقود الموجود في سيارتك الآن: هل هو ممتلئ وكافٍ للانطلاق على الطريق أم فارغ ويحتاج إلى إعادة ملء؟ هل تصرفاتي وأفعالي وقراراتي سليمة أم خاطئة وتحتاج إلى تغيير؟
طبقًا لهذه النظرية، فمحاولة المرء تعزيز تقديره لذاته تشبه العبث بمؤشر الوقود في السيارة مباشرةً، وضبطه على وضع «ممتلئ» بدون أي تغيير فعلي في مستوى الوقود ذاته، حتى لو كان على وشك النفاد.
الحل: التحكم في الذات
يتابع روي بويمايستر حديثه بشأن تقدير الذات ليصل إلى النتيجة الأهم: انسَ تمامًا «تقدير الذات». إن كنتَ تبحث عن أسلحة ذاتية تؤدي إلى حياة أفضل، فالحل هو التحكم في الذات.
بعد كل تلك السنوات من الرسائل الرائعة التي تخبرك مدى جمالك وتفرُّدك وأهميتك، نعود بنتائج نهائية لا تزيد عن نصائح الأب المملة «يا بني قُم ذاكر».
بناء عادات السيطرة على النفس (في العادات والأفكار واتخاذ القرارات) هو الطريقة المُثلى للوصول إلى الحياة المناسبة بدون أي أوهام، وَدَعْ «تقدير الذات» يرتفع ويهبط نتيجةً لما تحققه في نفسك وفي حياتك، نتيجةً للعمل الشاق والتدريب المستمر.
لا حلول سحرية للأسف، لا توجد حبة دواء تعطيك قدرات خارقة، إيمانك أنك الأفضل لن يجعلك كذلك، يمكنك أن تردد أمام المرآة أنك رائع ألف مرة في اليوم، ولن يجعلك هذا رائعًا.
أعترف أن النتيجة النهائية تبدو محبطة جدًّا، فبعد كل تلك السنوات من الرسائل الرائعة التي تخبرك مدى جمالك وتفرُّدك وأهميتك اللا محدودة، نعود بنتائج نهائية لا تزيد عن نصائح الأب المملة «يا بني قُم ذاكر». الفكرة مملة وتقليدية وغير مغرية بالحديث عنها في كل مكان، مثلما حدث في العقود السابقة مع هوس العالم بأهمية تقدير الذات.
قد يعجبك أيضًا: هكذا تنجح كتب التنمية البشرية في إقناعنا
النتائج الحديثة بشأن وجوب تجاهل تقدير الذات والاتجاه إلى «التحكم في الذات» لن تجدها سوى في مقالات أكاديمية متخصصة في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، وأصوات قليلة جدًّا تحاول النداء بتعميم الفكرة وإصلاح النظم التعليمية مما أفسدته سنوات من تعزيز زائف لتقدير للنفس، دون تفاعل كبير للأسف.
الكل يبحث عن طريقة سهلة ليصبح أفضل، لكن تقدير الذات ليس تلك الطريقة. أن تظن أنك ماهر في الرياضيات ليس كافيًا كي تصير ماهرًا في الرياضيات، حَلُّ الواجب المنزلي سيجعلك كذلك.