العدو نحو الحرية: عن الرياضي المناضل «إميل زاتوبيك»

علاء بامطرف
نشر في 2019/09/30

ربما لم تسمع به من قبل، لكنه أحد أسرع الرجال الذين مروا على تاريخ البشرية، بل أسرع رياضي في وقته ومحطم أرقام عصره. 

في ملاعب بلدته الصغيرة، ركض «إميل زاتوبيك» ما يعادل ثلاث دورات حول الأرض، فلُقّب بالقاطرة التشيكية وكان أعجوبة بحق، لدرجة أن الأطباء شكوا في قدرته على الاستمرار بسبب الطريقة المجهدة التي كان يجري بها، وراهنوا على أنه سيقتل نفسه مبكرًا، لكنه حقق ما لم يحققه أحد، حطم 18 رقمًا قياسيًا عالميًا، وتمثل أعظم إنجازاته حين حقق 3 ميداليات ذهبية في أولمبياد هلسنكي 1952، واحدة في سباق 5 آلاف متر، والثانية في سباق 10 آلاف متر، والثالثة في سباق الماراثون، وهو الإنجاز الذي لم يعادله أحد بعده.

لا تقتصر حكاية عدائنا على الإنجازات الرياضية، فهو الرياضي الثائر الذي دفع ثمن الوقوف مع أحلام شعبه والانضمام إلى الحركة الإصلاحية في تشيكوسلوفاكيا، التي عُرفت باسم ربيع براغ، فعاقبته السلطات السوفييتية بالقتل البطيء، وأرسلته منفيًا إلى الجبال والوديان النائية.

تعكس قصة زاتوبيك صراع الفنان أو الرياضي في الدولة الشمولية، وخصوصًا حين يكون البطل وجها جماهيريًا محبوبًا، فالخروج عن سياق الخطاب الرسمي يدمر أحلامك الشخصية، لكنك تحتاج أيضًا ألا تخسر ذاتك. 

إنها إذًا علاقة شائكة بين حرية الفرد البطل وسؤال الواجب الأخلاقي المستمر، وقد تماهى إميل زاتوبيك مع السلطة في أغلب الأحيان ليتمكن من العدو وتحقيق الألقاب، لكنه في لحظات أخرى كان يقاوم، يرفض، بل يتحدى.

إميل زاتوبيك: بدايات العدو

الصورة: زاتوبيك صغيرًا

تبدأ القصة في عام 1922، إذ ولد إميل بمنطقة مورافيا في تشيكوسلوفاكيا، ليكون الطفل السابع في أسرة من الطبقة العاملة. 

ووسط الفرص القليلة التي كانت متاحة لأبناء تلك المنطقة الذين يتوزعون عادة على المصانع، وجد نفسه وهو في عمر السادسة عشرة يعمل في مصنع «باتا» لأحذية التنس، وقد كان طموحه واضحًا، إذ سعى لتعلم الكيمياء من أجل الحصول على ترقية ووظيفة أفضل في المصنع.

لكن الأشياء تتغير على نحو لم نخطط له أحيانًا، ففي إحدى مسابقات الجري التي كانت الشركة تُلزم موظفيها بالمشاركة فيها، اضطر زاتوبيك للدخول في السباق بعد فشله في إيجاد عذر مناسب لعدم المشاركة، ليحتل المركز الثاني بين أكثر من 100 شخص. ومنذ تلك اللحظة، بدأ اهتمامه بهذه الرياضة، وانضم للنادي المحلي، ولاحظ مدربه فورًا تلك الطريقة السريعة والمميزة في جريه.

بعد الأيام المظلمة في الحرب بين القصف والقتل والجوع، جاء إحياء الألعاب الأولمبية وكأنه إشراقة جديدة للشمس.

استمر نجم زاتوبيك في الصعود خلال السنوات الأربعة التالية، محققًا أرقامًا قياسية داخل تشيكوسلوفاكيا، لكن الغزو النازي أوقف الحركة في البلاد لمدة عام كامل، وظل إميل يتمرن منتظرًا العودة للمضمار، حتى انتهت الحرب العالمية الثانية ودخلت القوات السوفييتية لتحرير تشيكوسلوفاكيا، لتنضم بلاده إلى الجبهة الشرقية رافعة شعارات مثل الشيوعية ومواجهة الغرب.

بنهاية الحرب، عاد زاتوبيك إلى المضمار ليمثل بلده في المحافل الدولية بدءًا من أولمبياد 1948، الذي شهد عودة السلام في أوروبا، ووصف إميل ذلك بشاعرية قائلًا: «بالنسبة لي، كان أولمبياد 1948 بمثابة تحرير للروح، فبعد الأيام المظلمة في الحرب بين القصف والقتل والجوع، جاء إحياء الألعاب الأولمبية وكأنه إشراقة جديدة للشمس. لقد ذهبت إلى القرية الأولمبية واختفت تلك الحدود، لم تعد هناك حواجز، اجتماع الناس كان دافئًا ورائعًا، عاد الرجال والنساء الذين فقدوا خمس سنوات من العمر للحياة من جديد».

بداية المواجهة

آمن إميل زاتوبيك بالتوجهات الشيوعية وانضم إلى الجيش الوطني، وكانت السلطة تواكب إنجازاته بالترقيات المستمرة كمكافأة باعتباره نجمًا وبطلًا شعبيًا أنتجته التوجهات السوفييتية، فزاتوبيك القادم من العائلة الكادحة كان دعاية مثالية للنظام.

لكن رغم هذا، كانت لحظات الصدام مع الدولة تحدث بين فترة وأخرى بسبب معاملته كمجرد أداة في يد الحزب الحاكم، بدءًا من ارتباط مشاركاته الخارجية بالقرار السياسي، كعدم السماح له بالمشاركة في المسابقات التي تنظم في الولايات المتحدة الأمريكية ودول المعسكر الغربي، كشكل من ممارسات الحرب الباردة التي كانت تتخذها دول المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. 

وصل الأمر، بحسب كتاب «Running»، إلى تزوير آرائه، فحين أجرت معه صحيفة محلية لقاءً عن زيارته لباريس، جاء جوابه إيجابيًا، إذ امتدح العاصمة الفرنسية، لكن المحرر غير رأيه ليتوافق مع الرأي السياسي، وكتب على لسانه استياءً شديدًا من باريس ومظاهر الرأسمالية فيها، وهو ما أثار غضب إميل والحكومة الفرنسية.

مثلت الفترة التي تلت أولمبياد 1948 عصرًا ذهبيًا لزاتوبيك، إذ أصبح أول من يعدو مسافة 20 كيلومترًا في أقل من ساعة، وحقق ثمانية أرقام قياسية جديدة. ثم كانت الثلاثية الذهبية في أولمبياد 1952 أمرًا أسطوريًا وخلابًا، فكيف لشخص يجري كل هذه المسافات الطويلة في أيام متقاربة أن ينتصر فيها جميعًا؟ 

رفض إميل الصعود إلى الطائرة ما لم يُسمح لصديقه «ستانيسلاف يوغجفيرث» بالسفر مع الفريق.

خلال الماراثون، كان هادئًا يبتسم للجمهور ويتحدث مع سائقي الأجرة، وقد قال منافسه الفرنسي «آلن ميمون» إن «تحقيقي للمركز الثاني إنجاز، لأن زاتوبيك لا يُمس، إنه من عالم آخر».

لكن تلك الفترة شهدت أيضًا زيادة عمليات التطهير والقمع في تشيكوسلوفاكيا، ولم يُستثنَ الرياضيين، بل وصل الأمر إلى صديق إميل، «ستانيسلاف يوغجفيرث»، الذي استُبعد من المنتخب الوطني للعدو ومُنع من السفر بسبب القبض على والده. 

كان رد فعل إميل متهورًا، إذ هدد وزير الرياضة بعدم المشاركة في أولمبياد هلسنكي، ورفض الصعود إلى الطائرة ما لم يُسمح لصديقه بالسفر مع الفريق. كانت هذه مجازفة بتعريض نفسه لخطر السجن أو الاعتقال أو الحرمان من الألعاب الأولمبية، لكن السلطات أذعنت لتهديده نظرًا لقرب موعد المنافسات، وربما يكون الإنجاز التاريخي الذي حققه قد أعفاه من جريمة تحدي السلطة وابتزازها.

في أولمبياد هلسنكي حدث موقف آخر يعكس خروج زاتوبيك عن خط السلطة، إذ كانت إقامة الرياضيين في خيمتين منفصلتين: واحدة لدول المعسكر الشرقي والأخرى لدول المعسكر الغربي، لكن إميل ساعد رياضيين من دول الغرب على دخول مخيم الشرق، رغبةً منه في تحقيق معنى الألعاب الأولمبية، المتمثل في التعايش بين شعوب العالم.

لم تتوقف محاولاته عن كسر الحواجز، فحدث أن وقعت قصة حب بين رامية القرص التشيكوسلوفايكية «أولغا فيكتوفا» ورامي المطرقة الأمريكي «هارولد كونولي» في أثناء أولمبياد ملبورن 1956، لكن الحرب الباردة كانت مشتعلة ولم تسمح السلطات التشيكوسلوفاكية بزواج بطلتها الأولمبية من بطل أمريكي، إلا إن إميل، باعتباره البطل الوطني صاحب الكلمة المسموعة، تدخل لدى رئيس بلاده ليسمح بهذا الزواج ويترك أولغا تغادر مع زوجها، وفعلًا سمحت السلطات بذلك، واكتملت واحدة من القصص الرومانسية التي كسرت بؤس الحرب الباردة.

ربيع براغ وأحزان البطل

وسط الإصابات وإخفاقات النهاية، حل إميل زاتوبيك سادسًا في ماراثون 1956، فاتخذ قراره بالتوقف والتوجه نحو التدريب في عام 1957، وشهدت السنوات التالية تغييرًا على صعيد تشيكوسلوفاكيا، بظهور «ألكسندر دوبتشيك» وتوليه قيادة البلاد بعد مرحلة صعبة من الأوضاع الاقتصادية.

في 1968، أعلن دوبتشيك عن توجهات ديمقراطية جديدة عُرفت باسم «الاشتراكية الإنسانية»، تهدف لإتاحة حرية التعبير والصحافة وحق السفر إلى الخارج، وأكد أن الحزب ليس وصيًا على المجتمع، ووعد بالحد من سلطة الأجهزة الأمنية.

حازت الإصلاحات تأييدًا شعبيًا واسعًا كان إميل أحد داعميه، ووقع بيان التأييد، كيف لا وهو واحد من أكثر الذين اكتووا بفكرة رقابة الحزب. لكن طريق الحرية لم يكن ممهدًا، ولم تُعجَب موسكو بهذه التغييرات، فاقتحمت الدبابات السوفيتية الحدود، وعمَّت الاحتجاجات السلمية أرجاء تشيكوسلوفاكيا.

خرج زاتوبيك إلى الشارع مع شعبه، ورُفع فوق الأعناق، فهو بطلهم الأسطوري ورمز رياضتهم، وعندما وقفت الدبابات السوفييتية في شوارع براغ، كان إميل يقترب من الجنود ويسألهم كيف يبررون تورطهم في عملية عسكرية ضد شعب آخر. وفي إحدى التظاهرات، تسلق شجرة في ساحة فينسيلاس وصرح للصحافة: «غزو تشيكوسلوفاكيا حوَّل الحب الذي يكنه بلدي للاتحاد السوفييتي إلى حقد عنيف، حقد سيستمر لآلاف السنين»، وفي تصريحات أخرى شبَّه السوفييت بهتلر. 

ورغم المقاومة الشعبية الواسعة، فإن آلة الحرب السوفييتية انتصرت، واستسلم الرئيس دوبتشيك، ووقَّع على معاهدة تقضي بتحويل تشيكوسلوفاكيا إلى دولة اتحادية، وإلغاء الإصلاحات التي وعد بتقديمها.

دفع زاتوبيك الثمن مع رجوع الحرس القديم للحزب الشيوعي الموالي لموسكو وعودة القبضة الأمنية المستبدة، ففُصل من الحزب الشيوعي ووزارة الدفاع، وطُرد من منصبه كمساعد مدرب في فريق الجيش، وعُزل عن الحياة العامة، وحُذف اسمه من المناهج الدراسية، وتوقف استخدامه كأيقونة وطنية.

بالإضافة إلى ذلك، نُفي عن بيته وزوجته لمدة أربع سنوات ونصف، عاش فيها منفيًا داخل بلده، أُسندت إلهي خلالها أعمال شاقة مثل جمع النفايات والتنقيب عن المياه المعدنية في مناطق نائية. صار البطل الأولمبي، وهو في عمر الأربعين، يقف في مؤخرة سيارة النفايات، فيتعرف عليه الناس أحيانًا ويذهبون لتحيته تقديرًا لإنجازاته ومواساةً له على الثورة المَوْؤودة.

في إحدى المرات زاره صديقه الإسباني «باتشي ألكورتا» في موقع عمله الذي يبعد عن براغ مئتي كيلومتر، ورأى صديقه العداء العظيم وهو في ملابس العمل الرثة فاحتضنه بشدة. وفي رحلة العودة، كان ألكورتا يبكي بشدة ويقول: «هل هكذا يعاملون بطلهم؟».

بعد أربع سنوات من تحمل العقاب، قدَّم إميل اعترافه بخطأ المشاركة في الاحتجاجات والمطالبة بالإصلاح، كي يتمكن من العودة لبراغ والعيش مع زوجته، فسُمح له بالعودة إلى العاصمة مع الاستمرار والحرص على تهميشه.

بقي يقاوم بروحه الرياضية ويستقبل الضيوف في بيته، لا يبخل بتقديم أسراره وطرق تدريبه. لا يمكن تجاوز تلك القصة التي تعكس نبله، إذ أهدى العداء الأسترالي «رون كلارك» إحدى ميدالياته الأولمبية، في تعبير عن تضامنه معه بعد عدم تمكنه من الحصول على الذهبية الأولمبية، رغم محاولاته وإنجازاته في المسابقات الدولية المختلفة.

بعد سنوات، أُعيد الاعتبار لإميل مع الثورة المخملية التي أسقطت النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا عام 1989، وقد كان عزاءً له، ربما أنه شاهد دولة الحزب الواحد تسقط قبل أن يتوفى بعد ذلك في عام 2000، لتنتهي المسيرة التراجيدية لقاطرة الجري التشيكية.

للأسف، اختفى اسم إميل زاتوبيك تقريبًا ولم يعد معروفًا، رغم أنه كان نموذجًا مثاليًا وخارقًا ومحبوبًا، كان الموهبة الرياضية التي أعادت تعريف قدرة التحمل البشري، والرياضي المفعم بالروح النبيلة والأخلاق المثالية، وهو من قال: «النصر عظيم، لكن الصداقة أعظم». 

مواضيع مشابهة