التفكير عملية مركبة تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية، أو هكذا يعتقد كثير من الناس، وتشمل هذه العملية مجموعة من الآليات الذهنية والوظائف العقلية، تمكِّن الجنس البشري من احتلال قمة الهرم الغذائي وسيادة كوكب الأرض.
لطالما اعتُبرت القدرة على جمع المعلومات وحل المشكلات واتخاذ القرارات والتوصل إلى الاستنتاجات صيغةً واحدةً مشتركةً بين الآدميين جميعهم دون استثناء، لا اختلاف فيها بين شرق وغرب وشمال وجنوب. وفي ضوء هذا، صار للتفكير تعريف موحد لا يفرق بين ثقافة وأخرى أو مجتمع وغيره، لكن يبدو أن المسألة لا تحتمل هذه التعميمات.
تشير أبحاث متزايدة في علم النفس إلى وجود اختلافات جوهرية، وفي بعض الأحيان يصعب ملاحظتها، في طريقة تفكير الأفراد، نظرًا لتداخل عوامل عديدة مثل البيئة الاجتماعية والجغرافيا والثقافة، تُسهم كلها في قولبة عقولنا وصياغتها في أشكال معينة، وفقًا لما جاء في مقال على موقع «بي بي سي».
تضخُّم الذات الغربية.. تواضع الذات الشرقية
يذكر المقال أنه في عام 2010 أكدت ورقة بحثية نشرتها مجلة «Brain and Behavioural Sciences» أن قرابة 70% من المشاركين في الدراسات النفسية أمريكيون، ومعظمهم طلاب جامعيون يبحثون عن درجات إضافية أو نقود.
الافتراض الذي كان سائدًا قبل ذلك أن هذه العينة من الأفراد المتعلمين المنتمين إلى دول غربية صناعية غنية وديمقراطية، يُطلق عليهم «weird» اختصارًا، تمثل الطبيعة البشرية في كل مكان وزمان، لكن العدد القليل من الدراسات النفسية التي شملت أشخاصًا من ثقافات أخرى تقول العكس، وتشير إلى تباين طُرُق التفكير بين الأفراد حسب المجتمعات التي يعيشون فيها.
يقلل مواطنو شرق آسيا من قدراتهم حتى لو كانت عالية، بينما يبالغ الأمريكيون في تقدير أنفسهم.
تبرز الاختلافات بين الشرق والغرب خصوصًا عند التطرق إلى مفهومي الفردية والجماعية بحسب المقال، إذ يميل الغربيون بصفة عامة إلى نمط الحياة الفردي المستقل، بينما يتجه الآسيويين إلى الحياة الجماعية المشتركة.
في المجتمعات الغربية، يقدِّر الناس النجاح الشخصي أكثر من الإنجاز الجماعي، وهو ما يرتبط بدوره بالحاجة إلى مزيد من احترام الذات، والسعي إلى تحقيق السعادة الشخصية، والتشديد على أهمية الاختيار الشخصي والحرية.
لكن هذا التعطش لتحقيق الذات يؤدي إلى الإفراط في الثقة، إذ تبين دراسات أن المشاركين الذين يندرجون تحت خانة «weird» يبالغون في تقدير قدراتهم. فعلى سبيل المثال، عندما طُلب من أساتذة أمريكيين أن يقيِّموا كفاءتهم، قال 94% منهم إنهم يعتبرون أنفسهم أفضل من المتوسط.
تضخيم الذات والتمركز حولها ينعدم تقريبًا في أنحاء شرق آسيا، حسب ما أفاد المقال، وتشير دراسات نفسية متفرقة إلى أن المشاركين من هذه المنطقة يميلون في بعض الحالات إلى التقليل من قدراتهم، حتى وإن كانت كفاءتهم عالية.
التفكير كـ«أنا».. التفكير كـ«نحن»
يمتد أثر التوجه الاجتماعي إلى جوانب أكثر جذرية في طريقة تفكيرنا، إذ يميل الناس في المجتمعات الجماعية إلى أن يكونوا أكثر شموليةً في الطريقة التي يحلون بها مشاكلهم، مع التركيز أكثر على العلاقات التي تجمع بين الأشياء وسياقها، بينما يركز الأشخاص في المجتمعات الفردية على عناصر منفصلة من المشكلة المطروحة، وينظرون إلى الأوضاع على أنها ثابتة لا تتغير.
ينعكس هذا، كما يورد المقال، على الطريقة التي نصنف بها الجمادات. لنفترض مثلًا أنه طُلب منكَ تحديد العناصر المرتبطة في قائمة الكلمات التالية: قطار، حافلة، مسار، فماذا سيكون اختيارك؟
يُعرف هذا باسم «الاختبار الثلاثي»، وفي حين قد يختار الغربيون الحافلة والقطار لأنهما من المركبات، يميل أصحاب التفكير الشمولي إلى اختيار القطار والمسار، لأن تركيزهم ينحصر في العلاقة الوظيفية بين العنصرين، كون أحدهما (المسار) ضروري لعمل الآخر (القطار).
هذا النمط من التفكير يمكن له كذلك أن يغير طريقة رؤيتنا للأشياء وتركيزنا على تفاصيل دون أخرى، فقد وجدت دراسة أجراها أستاذ علم النفس في جامعة ميشيغان الأمريكية، «ريتشارد نيسبيت»، أن مواطني شرق آسيا يميلون أكثر إلى النظر لخلفية الصور التي يرونها، في محاولة لتحديد السياق العام المرتبط بها، في حين يقضي الأمريكيون وقتًا أطول في التركيز على العناصر المحورية في الصور.
اقرأ أيضًا: صورة «A Sister's Care»: كيف تكسر القواعد وتبني الجمالية؟
اجتماعية الفلسفة الشرفية.. استقلال الفلسفة الغربية
لماذا تظهر أساليب تفكير مختلفة بين البشر أصلًا؟
رغم اعتقاد بعض الباحثين أن ميولنا الاجتماعية وراثية في الأساس، إلا أن الأدلة تشير إلى أنها وليدة البيئة والمجتمع الذي نعيش فيه، حسب المقال.
أجرى الأستاذ المشارك في نظرية التطور الثقافي بجامعة إكسيتر الإنجليزية، «ألكس ميسودي»، دراسة عن أنماط التفكير السائدة في الأسر البنغلاديشية البريطانية التي تقيم في شرق لندن، ووجد أنه في غضون جيل واحد، بدأ أطفال المهاجرين في تبني السلوكيات الفردية والأنماط المعرفية التي تميل إلى الفردية، على النقيض من السمات السائدة في مجتمعاتهم الأصلية.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحًا هو: لماذا تظهر أساليب التفكير المختلفة أصلًا؟
التفسير البسيط هو أنها انعكاس للفلسفات التي استوطنت كل منطقة على مر الزمان، فبينما شدد الفلاسفة الغربيون على قيم الحرية والاستقلال، نزعت الفلسفات الشرقية مثل الطاوية والكونفوشية إلى التركيز على مفاهيم الوحدة والعلاقات الاجتماعية.
قد يعجبك أيضًا: رواه بوذا: كيف تجتمع المبالاة مع اللامبالاة عند «زن»؟
الجراثيم تغير التفكير.. الزراعة تغير التفكير
بالإضافة إلى النظرية السابقة، هناك فرضيَّات أخرى كثيرة سعت لتفسير اختلاف طرائق التفكير بين المجتمعات المختلفة.
تُرجع إحدى النظريات سبب اختلاف طُرُق التفكير إلى استجابتنا التطورية للجراثيم، فقد بيَّن تحليل البيانات الوبائية العالمية أن سيادة نمط التفكير الجماعي أو الفردي ترتبط بانتشار الأمراض، فكلما زاد احتمال انتشار العدوى، توجه البشر أكثر إلى النمط الجماعي.
هذا التوجه الجماعي يجعل الناس أكثر وعيًا بالسلوكيات التي ينبغي تجنبها لتفادي انتشار الأمراض، وهو الرأي الذي دعمته التجارب العلمية، فعندما يخوِّف علماء النفس الناس من الأمراض، يلاحظون أنهم يتبنون طُرُق تفكير وسلوكيات أكثر جماعية.
قد يهمك أيضًا: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟
النظرية الأكثر غرابة تأتي من الحقول، فبعد أن درس الأستاذ المساعد في علم السلوك بجامعة شيكاغو، «توماس تالهيلم»، سكان 28 مقاطعة صينية، توصل إلى أن نمط التفكير غالبًا ما يعكس نوع الزراعة المحلية السائدة في المنطقة.
زارعو القمح تفكيرهم فردي، بينما يفكر زارعو الأرز بطريقة جماعية شمولية.
لاحظ تالهيلم أن معظم المناطق الجنوبية تتجه إلى زراعة الأرز، بينما تنزع المناطق الشمالية إلى زراعة القمح. تتطلب الأرز القمح تعاونًا أكثر، فهي تحتاج إلى جهد أكبر وتعتمد على نُظُم ري معقدة تشمل العديد من الحقول، بينما تستغرق زراعة القمح وقتًا أقل وتعتمد على هطول الأمطار بدلًا من الري، ممَّا يعني أن المزارعين لا يحتاجون إلى التعاون مع جيرانهم، ويمكنهم التركيز على رعاية محاصيلهم الخاصة.
اختبر توماس تالهيلم، بمساعدة باحثين صينيين، أكثر من ألف طالب من مختلف مناطق زراعة الأرز والقمح باستخدام مقاييس مثل «الاختبار الثلاثي»، كما طلب من المشاركين أن يرسموا بيانات توضح مقدار العلاقة التي تربطهم بأصدقائهم.
يميل الناس عمومًا في المجتمعات الفردية إلى رسم أنفسهم أكبر من أصدقائهم، حسب المقال، بينما يرسم المنتمون إلى المجتمعات الجماعية أنفسهم بنفس حجم أصدقائهم.
أشارت النتائج إلى أن الأفراد في مناطق زراعة القمح يسجلون نقاطًا أعلى في مقاييس الفردية، بينما يُظهر أولئك الذين يعيشون في مناطق زراعة الأرز سمات التفكير الجماعي الشمولي، حتى وإن كانت المسافة بين مزرعة للقمح وأخرى للأرز لا تتعدى بضعة كيلومترات.
تأكد تالهيلم من صحة فرضيته في الهند كذلك، ووجد أن اختلاف المحاصيل المزروعة ينبئ بنوع الاختلافات في طُرُق التفكير، رغم أن من خضعوا لدراسته لا يشاركون بشكل مباشر في هذه الأنشطة الزراعية، ممَّا يعني أن التقاليد التاريخية لمسقط رأسهم لا تزال تحدد كيفية تفكيرهم.
رغم ذلك، تبقى هذه المعاينات في حاجة إلى مزيد من البحث، خصوصًا إذا علمنا أن هناك فئات تتبنى طريقتي التفكير الفردية والشمولية، دون أن ننسى عوامل أخرى مثل العمر والطبقة الاجتماعية، التي تؤثر على نمط تفكير الأفراد بشكل كبير.