استيقظ الوالدان صباح أحد أيام عام 2012 ليمارسا أنشطتهما المعتادة، إلا أن ذلك اليوم تحديدًا حمل لهما مفاجأة أفزعتهما؛ إذ لم يعثرا على ابنهما المراهق في المنزل نهائيًّا، فهرعا للاتصال هاتفيًّا بمركز شرطة مدينة آرهوس الدنماركية التي يقيمان فيها.
بدأ الضباط جمع المعلومات عن الابن المختفي، وتبين لهم أنه طالب في المدرسة الثانوية، كان يعيش مع أهله في ضاحية خارج المدينة للمسلمين المهاجرين. وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم، تلقوا مكالمة هاتفية أخرى للإبلاغ عن حالة مشابهة، فقد تغيب شاب آخر. وبسؤال آباء المختفين وإجراء التحقيقات، رجَّحت الشرطة أن يكون هذان الشابان لبَّيا نداء جماعة داعش الإرهابية، ورحلا لمساندة أحلامها التوسعية في سوريا.
دعونا نفكر خارج كل الصناديق
«ثورليف لينك» (Thorleif Link) و«آلان آرسليف» (Allan Arslev) ضابطان في الشرطة الدنماركية، اعتادا التحقيق في قضايا جرائم العنف التقليدية التي تقع بين السكان المحليين داخل المدينة، أو جرائم العصابات واليمين المتطرف، لكن تعاملهما مع قضايا الإرهاب الدولي كان مهمة جديدة بالنسبة لهما، فاتفقا على التصرف بطريقة مبتكرة لم يسبقهما إليها أحد، وفي الحقيقة لم يخب ظنهما، فقد حققا نجاحًا باهرًا.
من هاجر من الدنماركيين إلى سوريا ثم عاد فسيُقبل في المدارس، ويتلقى مساعدة للعثور على سَكن، بل ويُوفَّر له طبيب نفسي.
تنتهج أجهزة الأمن الأوروبية منهج التنكيل بكل من سافر للمشاركة في صفوف داعش، ضمن الحرب الدائرة في سوريا والعراق، ثم عاد إلى بلاده مرة أخرى؛ فأقدمت الحكومة الفرنسية مثلًا على إغلاق المساجد التي يُعتقد أنها تؤوي الإرهابيين، في حين أعلنت بريطانيا أن كل من رحل لمساندة داعش «عدو للدولة»، وهددت دول أخرى بسحب جوازات سفرهم.
غير أن رجال الشرطة الدنماركية اتخذوا طريقًا معاكسًا لذلك تمامًا؛ عُرف إعلاميًا بتجربة «احتضان الإرهابيين»، وعرضت تفاصيلها شبكة الإذاعة الوطنية الأمريكية «NPR».
ليس بالقمع نهزم الإرهاب
عُرفت مدينة آرهوس بكونها صاحبة الريادة في تلك التجربة، التي اقتضت إعلان أن من هاجر من الدنماركيين إلى سوريا ثم أراد العودة مرة أخرى لبلاده فسيجد ترحيبًا من سلطات الدولة، وسيُقبل مجددًا في المدارس، ويتلقى مساعدة للعثور على سَكن، بل ويُوفَّر له طبيب نفسي، وكل ما يحتاج إليه للاندماج من جديد في المجتمع المحيط به.
رأى رجال شرطة آرهوس أن قمع شباب المسلمين المتطرفين يؤدي إلى تأجيج مشاعر الغضب لديهم بصورة أكبر وزيادة عدائهم للمجتمع، وأن مساعدتهم والإحسان إليهم هو الفرصة الوحيدة للحفاظ على أمن المدينة واتقاء شرور هؤلاء المتطرفين، ورجع الضابطان «لينك» و«آرسليف» إلى اختصاصيي علم النفس لفهم طبيعة شخصية المتطرف والطريقة المثلى للتعامل معها.
اقرأ أيضًا: قبل أن نلوم رجال الدين ونبرئ أنفسنا: نظرة إلى جذور العنف في منازلنا ومجتمعاتنا
علم النفس يؤيد الخطة
«آري كروغلانسكي» (Arie Kruglanski)، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة ميريلاند الأمريكية، أوضح أن الطريقة التقليدية في التعامل مع الإرهابيين بالحلول الأمنية والعسكرية، ومواجهة العائدين منهم بتضييق الخناق عليهم ومعاملتهم على أنهم مشتبه بهم، تؤدي إلى تنمية شعورهم بالتفرقة، وبالتالي تحفيزهم لتنفيذ عمليات عدائية ضد المجتمع.
وأيَّد ذلك «كريستوفر هوبوود» (Christopher Hopwood)، الأستاذ المشارك بجامعة ولاية ميشيغان الأمريكية، خصوصًا وهو يدرس ما يُعرف بـ«السلوك غير المكمل» (Non Complementary Behavior).
حاول جمال، المهاجر الصومالي، أن يندمج في مجتمع الدنمارك، لكن كل شيء انهار حين فقد أعصابه.
ولتبسيط الأمر، يمكن تعريف السلوك «المكمل» (Complementary Behavior) بأنه رد الفعل الطبيعي على تصرفات الآخرين، أي إنه عندما تحسن إلى شخص فلا بد أن تتوقع منه رد فعل مماثل، والعكس صحيح، أما السلوك غير المكمل فهو أن تتعامل مع شخص بما لا يتوقعه؛ كأن تحسن معاملة المعتدي، وهي طريقة مجربة لتغيير تفكير الإنسان، وتجعل رد فعله مختلفًا عن طبيعته.
قد يعجبك أيضًا: حكايات الاضطراب الوجداني ثنائي القطب
البداية كانت حين فقد أعصابه
تعتبر قصة جمال أحد براهين نجاح تلك الطريقة. جمال اسم مستعار لبطل تلك القصة، لأنه رفض الإفصاح عن اسمه الحقيقي. وُلد في الصومال ثم هاجر في طفولته مع والديه إلى الدنمارك هربًا من الحرب الأهلية الدائرة هناك، ولسوء حظه كانت عائلته هي الوحيدة المسلمة والوحيدة ذات البشرة السمراء في المنطقة التي أقامت فيها، وهو ما جعل الأطفال يسخرون منه بشتى الطرق ولفترة طويلة.
مرت الأيام وجمال يحاول جاهدًا الاندماج في مجتمعه الجديد، وتطوير نفسه بمزيد من الاجتهاد في الدراسة أحيانًا، وأحيانًا أخرى بالمزاح مع زملائه داخل قاعة الدراسة، وبالتالي قلَّت حدة توتره وأحبه معلموه وزملاؤه، وبدأ في تكوين صداقات من الدنماركيين، لينمو داخله شعور بأنه من أهل هذا البلد.
بعد سنوات، وخلال حلقة نقاش أدارتها معلمة بالمدرسة عن الإسلام، اندفعت إحدى زميلاته قائلة إن «الإسلام يرهب الغرب ويقتل الناس ويرجم النساء»، فدخل جمال معها في نقاش حتى فقد أعصابه وصاح في وجهها قائلًا: «أمثالك لا بد أن يختفوا من الوجود».
انقلبت حياة المراهق، وحضرت الشرطة وراحت تستجوب جمال عما إذا كان يعتنق الفكر الإرهابي، واستمرت التحقيقات معه فترة طويلة اضطر معها للتخلف عن امتحانات المدرسة، ثم زاد الأمر سوءًا بوفاة والدته خلال هذه الفترة.
ألقى جمال باللوم في وفاة والدته على ما تعرضت له من ضغط عصبي خلال فترة التحقيق معه، وبدأ يشعر بأنه مرفوض من المجتمع الغربي. بعد الإفراج عنه، وفي العام ذاته، التحق بجماعة من المسلمين تعرضوا كذلك للتمييز العنصري، وراحوا يعقدون اجتماعات في شقة يملكها أحدهم، ويقضون أوقاتًا طويلة في الصلاة ومشاهدة مقاطع فيديو للشيخ أنور العولقي، أحد مشاهير الدعاة الناطقين بالإنجليزية، وكان من بين ما يتحدثون عنه: الجهاد والسفر إلى سوريا.
قد تجد لك مكانًا في الدنمارك
في أحد الأيام، بينما جمال في شقة صديقه التي تشهد اجتماعاتهم، تلقى مكالمة هاتفية من الضابط «ثورليف لينك»، الذي يعلم قصته. في البداية، أبدى جمال عدم رغبته في مواصلة الحديث مع الضابط وهمَّ بإغلاق الهاتف، إلا أنه فوجئ به يعتذر له عن المشاكل التي سببها له رجال التحقيق، الأمر الذي حوَّل موقفه من الغضب الشديد إلى الموافقة على الذهاب إلى مكتب الضابط بنفسه.
هناك علاقة وثيقة بين إهانة الإنسان وتبنيه أيديولوجية التطرف، تستفيد منها المنظمات الإرهابية مثل داعش.
ذهب جمال بالفعل إلى مكتب الضابط «لينك»، الذي قدم له المحامي «إيرهان كيليك» (Erhan Kilic)، أحد المشاركين في تجربة «احتضان الإرهابي»، وهو مسلم يعيش في الدنمارك منذ طفولته، وعانى من التمييز العنصري نفسه الذي عانى منه جمال، لكنه اختار لنفسه طريقًا آخر؛ إذ صمم على التعامل مع الدنمارك كوطنه الأم، وهو الآن محامٍ ناجح متزوج ولديه طفلتان.
كان مفاد الرسالة التي قدمها نموذج «كيليك» أنك إن اخترت أن تصبح مثله فستجد لك مكانًا في الدنمارك.
ويعود أستاذ علم النفس «آري كروغلانسكي» للتعليق قائلًا إن «ما يميز تلك التجربة أنها لم تمنع الناس بالقوة من السفر إلى سوريا، بل حاربت جذور التطرف».
يوضح «كروغلانسكي» أن هناك «علاقة وثيقة بين إهانة الإنسان وتبنيه أيديولوجية التطرف، إذ تستفيد المنظمات الإرهابية مثل داعش من تعرض البعض للتفرقة العنصرية بسبب اللون أو الدين أو المذهب السياسي فيهمشهم المجتمع، وجاءت هذه التجربة لتخبر جمال وغيره أنه ما زال لهم مكان في الدنمارك، وهذه فرصة رائعة للمتطرفين لإعادة التفكير وتقييم علاقتهم بمجتمعهم».
قد يهمك أيضًا: «الهوغاه»: سر السعادة والدفء عند الدنماركيين
أنا دنماركي
وبحسب المعلومات المتوافرة لدى الشرطة الدنماركية، فإن 34 فردًا سافروا من مدينة آرهوس إلى سوريا منذ بداية التجربة في عام 2012؛ قُتل منهم ستة هناك وبقي عشرة على قيد الحياة، وعاد للدنمارك 18، مثلوا جميعًا في مكتب الضابطين «آرسليف» و«لينك»، وكذلك فعل نحو 330 متطرفًا محتملًا خضعوا للبرنامج ذاته، ممن لم يسافروا للحاق بداعش.
ووفقًا للقائمين على التجربة، انخفضت أعداد المهاجرين من المدينة بشكل ملحوظ في أوج نشاط عمليات الهجرة الجماعية للشباب من جميع البلدان الأوروبية إلى سوريا، حتى بلغ في 2015 مهاجرًا واحدًا فقط.
ولا يبرهن على نجاح التجربة أكثر من جمال نفسه، الذي يستطيع الآن أن يقول بملء فيه: «أنا دنماركي»، وعندما يتذكر الطريق الذي كان على وشك الخوض فيه، وما أصبح عليه الآن، يبتسم قائلًا: «أنا محظوظ حقًا لأني تلقيت تلك المكالمة من الضابط ثورليف».