أنا، وأنا، وآخرون: تجربتي في التعافي من الاكتئاب

التصميم: منشور

مريم العبد الله
نشر في 2018/11/15

جلست على أريكة بيضاء، مقابل حائط مليء بالألوان والرسومات الطفولية. أريكة أخرى صغيرة تواجهني، ومكتب ضئيل عليه مذكرة وساعة وُضعت حتى أتمكن من معرفة الموعد الذي سينتهي بعد 50 دقيقة.

الصورة النمطية لجلسات العلاج النفسي، محاولة الإيحاء بالراحة من خلال اللون الأبيض، إرسال رسائل مبهجة عبر الرسومات، أرائك نصطف عليها كأننا في جلسة أصدقاء، ساعة تُذكرك دائمًا بأن لك وقتًا محددًا دفعت ثمنه.

أنا التي لا أنخدع بالرسائل الخفية، أنا التي لا أسقط، ما لي في هذه البئر قابعة؟

فلاش باك - ليل داخلي

أجلس على أرض غرفتي، في يدي اليمنى علبة الأقراص المنومة، وفي اليسرى هاتفي. كانت اللحظة الفاصلة و«أنا» تقف أمامي ناظرة إليَّ بقرف. تقول: «ليس لوجودك داعٍ. فتاة غبية حمقاء مقرفة، لا أحد حولك، لا أحد يحبك، لا تستحقين الحب أصلًا، افعليها، أنهِ هذا العذاب».

هذا ليس وصفًا بلاغيًّا. كنت أراها حقًّا، بشعرها الأسود المنسدل على كتفيها، ولونها ناصع البياض، وأرنبة أنفها المرتفعة، وعيناها الواسعتين، وقوتها، قوتها التي جعلتها تقول لي ما تقول. امرأة لا تشبهني تمامًا، لكنها أنا.

بكيت، وأحسست بكل دمعة تحرق جوفي. وكلما التقت أعيننا كانت رئتاي تتمزقان شهيقًا. كنت أرجوها، لا أريد أن أموت، أنا شخص جيد، أنا أستحق الحب، صدقيني، لي عائلة تحبني.

«أين هم؟»، تساءلت مبتسمة.

العيادة - الليل الذي في داخلي

«أين هي الآن؟ هل يمكنك رؤيتها في العيادة معنا؟»، تحاول المعالِجة النفسية فهم الحالة، فأشعر بسخافة السؤال وسخافة القصة وسخافتي، فأصمت.

«لو أغمضتِ عينيك الآن، كيف ترين نفسك؟»، في محاولة لإعادة صياغة سؤالها وكأنها قرأت أفكاري. لا شعوريًّا قلت: «محبوسة، في هذه الخزانة، مليئة بالجروح والكدمات والرضوض، قذرة، وكل جزء فيَّ يصرخ نتانةً».

كنت في الخزانة أستحق ما يحصل لي. هذا ما يستحقه الأغبياء مثيرو الشفقة الذين لا يمكن لأحد أن يقبلهم، نتنون منفيون. لكن، لماذا صرت أتكلم بكل هذه القسوة عني؟ كان هذا المربط الذي أخذنا لجلسات علاج طويلة امتدت لما يقارب الثلاث سنوات حتى الآن.

«سامحيها. إن أخطأَتْ، فلأنها قليلة الخبرة. انظري إليها: هل تستحق منك كل هذه الكدمات؟ كل هذه الرضوض والجروح؟»، قالت المعالجة، فاندكَّ جبل داخلي لم يشهده موسى حين طلب رؤية ربه.

الكلب الأسود يراقبك

ليست السعادة عكس الاكتئاب، بل الحيوية.

حين تصاب بنوبات الاكتئاب، لا تعِي متى بدأت ولا تدري متى تنتهي.

يقول «أندرو سولومون»، المختص في علم النفس: «توجد علاقة معقدة بين المرض والشخصية. هناك أناس يعانون من اكتئاب حاد، لكنهم يستطيعون بطريقة ما الاحتفاظ بمظهر أفضل، في حين أن آخرين لا يستطيعون أن يفعلوا. لكن حقيقة أن الشخص يكون فعَّالًا خلال الاكتئاب لا تعني أن اكتئابه غير حاد».

أما أنا، فكنت أترنح بين الاثنين. في بعض النوبات كنت أعمل أكثر، أركز على أن أنهي ما في يدي وأبحث عن عمل إضافي، أقرأ، أتابع الأفلام، أخرج للناس، أفعل أي شيء كفيل بألا أكون مع نفسي، وحدنا. وفي نوبات أخرى، كنت أستلقي على السرير دون حراك. يبرك الاكتئاب فوق صدري، لا يتركني أنام ولا أستحم ولا آكل من خشاش الأرض. أيام وأيام لا أجد سواي حولي، تُذكِّرني بكمية الشفقة التي أثيرها، وعدم جدوى كل شيء.

لهذا يقول سولومون: «ليست السعادة عكس الاكتئاب، بل الحيوية. وعندما يكون الشخص مصابًا باكتئاب حاد، فإن ما يفقده هو الرغبة في العيش، الطاقة لفعل الأشياء،  ما يفقده هو القدرة على الانخراط في مشاغل الحياة، وليس مجرد شعوره بالحزن الشديد، ذلك الحزن الذي يمر به الشخص جراء الفقد والكمد».

قد يهمك أيضًا: الاكتئاب في زمن الصحوة: حكاية السيدة نون والكلب

خلال قراءتي حول الاكتئاب، وجدت تعبيرًا شائعًا لوصفه بـ«الكلب الأسود»، الذي قد ينام بجانب سريرك يومًا، فتجد نفسك في النهاية تحمله على ظهرك أينما ذهبت. أما كلبي الأسود، فكان أنا. جرَّدتُني من نفسي ومن شخصيتي واسمي، كنت أتحاشى النظر إلى نفسي في المرآة، وحين أنظر إليها مصادفة تستعر الأصوات في رأسي: من هذه؟ ولماذا نحن بالداخل؟

حسب «منظمة الصحة العالمية»، الاكتئاب مرض يصيب 300 مليون شخص في دول العالم، كلهم يشعرون بالوحدة. 300 مليون نفس بشرية تشعر بالغربة والخواء والألم، 300 مليون كلب أسود يشم الخوف فيهم ويهجم بشراسة.

في كل عام، 800 ألف إنسان ينتحر لإصابته بالاكتئاب، معظمهم بين 19 و29 عامًا، وأنا على يقين بأن هذه الإحصائيات تقريبية لعدم تسجيل كل الحالات في جميع الدول، خصوصًا مع الوصمة الاجتماعية للمرض والانتحار.

فلاش باك - الجيدون كفاية ليسوا جيدين بما يكفي

بسبب النزعة الكمالية السلبية، يجلد الطفل ذاته ويخاف من الخطأ ويشعر دائمًا بالذنب، بسبب تعامل والديه مع فكرتي الخطأ والصواب.

«في طفولتي كنت نجمة المدرسة، تتهافت عليَّ المعلمات للعب دور في نشاط الفصل. إذا ما فتحتِ شريط الحفلات المدرسية تجدينني في كل الفقرات التي يقدمها الأطفال: الرقص والشعر والغناء والموسيقى والتمثيل وقراءة القرآن وتحية العلم واللغة العربية، كل شيء. كنت متفوقة في الابتدائية والمتوسطة والثانوية. مشاغبة يحبها المشاغبون، وذكية لا تعطي فرصة للمعلمات ليتذمرن منها. كنت آتي بنتيجتي الدراسية لوالديَّ في انتظار حضن كبير وفخر».

«وما رد الفعل الذي كنت تلقينه؟»، تطرح المعالجة سؤالًا يحسم جزءًا كبيرًا مما يجري. «كان التفوق أمرًا طبيعيًّا لا يحتاج للاحتفاء. غير الطبيعي أن تكون النتيجة أقل من ذلك. هذا ما يستحق الحديث عنه. لا أحد يسأل كيف أحرزت معدل 98%، بل: لماذا 98 بدلًا من 100؟ لم أكن جيدة بما يكفي».

هذا ما فهمت لاحقًا أنه يُعرف بـ«النزعة الكمالية السلبية»، وهي جَلد الطفل ذاته والخوف من الخطأ والشعور الدائم بالذنب، بسبب تعامل والديه مع فكرتي الخطأ والصواب. استمر هذا معي حتى الكبر، وسط الخوف من ألا أكون مثالية، عدم الرضا الدائم عن الذات. وحين أقترف بعض الأخطاء، ها أنا ذا، في العيادة مع كلبي الأسود.

العلاج ليس دائمًا بالكَي

بدأت الأصوات تتخافت، و«أنا» كانت ترجوني أن أتوقف عن الدواء الذي سيجعلني مدمنة. كدت أخضع لتلك الفكرة، لكن أكملت.

بالطبع لم يكن هذا السبب الوحيد لما أنا عليه، لكني عرفت أن بداية كل شيء يجب أن تكون من هنا، من معرفة أن الخطأ طبيعي واقترافه لا يعني أنني سيئة، بل أني أخطأت لا أكثر. تبين أن الأمر ليس بهذه السهولة. العلاج لا يكون بأن أقنع نفسي، فأصحو من نومي إنسانًا مختلفًا.

النوبات احتاجت إلى مضادات اكتئاب وأدوية لإخراس الأصوات في رأسي والأشخاص الذين أراهم وألمسهم. بدأ العلاج بالالتزام بالدواء وتحسين نوع التغذية وممارسة الرياضة، وهو الأمر الذي أضحكني، إذ طالما رأيت ممارسة الرياضة أمرًا سخيفًا، لكنها كانت فعالة جدًّا.

حركة جسدي ساعدت الدواء على نقلي من حالة نفسية إلى أخرى. بدأت الأصوات تتخافت، و«أنا» كانت ترجوني أن أتوقف عن الدواء الذي سيؤذي صحتي الجسدية، وسيجعل مني مدمنة. لكني استمررت، كدت أخضع لتلك الفكرة، لكني أكملت.

يومًا ما كنت أتحدث مع معالجتي ووجدتها تخبرني بأني كاذبة. شيء ما سقط في معدتي، سألتها عن سبب ما تقول. لكن ما جعلني أستفرغ أمعائي هلعًا كان عندما تبين لي أنها لم تقل ذلك البتة، بل كان وهمًا يصنعه دماغي للكف عن العلاج. كانت «أنا» التي ترغب في العودة إلى القاع، وأن تمسك بزمام الأمور من جديد كنعجة ترفس لحظة ذبحها. كان هذا دافعًا أكبر للاستمرار.

أدخلت عائلتي في خطة العلاج. كان رد فعل أمي فور أن علمت بحالتي أن قالت: «يا الله، لم أكن أمًّا جيدة بما يكفي حتى تضيع مني ابنتي بهذا الشكل». هذه المرأة ببصمات الزمن على وجهها ويد تطبخ بمهارة وقلب حانٍ، لم تفعل سوى أن مرَّرت الخوف من عدم الكمال منها إليَّ.

في ذلك الوقت، كنت قد خلقت ثورة نقلتُ فيها الصراع من داخلي إلى الخارج مع المجتمع. حفرت بأظفاري في الأرض حتى أصل إلى منطقة أمان. نحل قلبي وذابت جفوني حتى أكون أنا كما أريد.

تعلمك التجربة أن تسأل نفسك: من أنت؟ هل أنت عقلك الذي يصور لك ما يريد، أم جسدك الضعيف الذي يخبرك عن حاجات قد لا تريدها أحيانًا، أم أنك شيء آخر بينهما؟ عند الخط الفاصل بين الموت والحياة لا تملك سوى التساؤل: ما جدوى كل هذا؟ وأمام أي فعل إيجابي تقول: ما الفائدة؟ تختفي المسلَّمات وتصير مثارًا جديدًا للدهشة، تحاول التفرقة بين ما تريد وما أرادوه لك.

عن طريق نزعك من محيطك تتعلم من له القيمة الحقيقية في حياتك، وعن طريق قتلك تعرف الحياة. هذه التجربة منبع فلسفي مريض.

العيادة - نهار داخلي

«أخرجتُها من الخزانة، داويت جروحها ووضعت ثلجًا على كدماتها. غسلت جسدها الضئيل ومشَّطت شعرها، وأجلستها في حضني، وأخبرتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، واعتذرت عن قسوتي، من الطبيعي أن تخطئ».

كانت ابتسامة المعالجة لي كإشراقة شمس. لقد انتقلت اليوم إلى الضفة الأخرى، وهذا الوقت الذي ظننته لن يمضي، قد مضى. كان حلمًا أن أكون شخصًا واحدًا لا أكثر، واليوم أنا شخص واحد وأحبه جدًّا. أنا، وليس هناك آخرون، لا في رأسي ولا يظهرون من خلف ستائر غرفتي.

«أنتِ تدركين أن الحياة لن تكون وردية، وأن هناك أيامًا سيئة ستأتي وأيامًا جيدة وأخرى عادية. تعرفين ذلك، صح؟»، قالت وهي تسلمني زمام نفسي بعد ثلاث سنوات من العجز والخوف والتعب، قلت: «نعم أعرف. الفارق أني الآن لدي فكرة عن كيف أواجه ذلك كله».

مواضيع مشابهة