ما اللغة؟ إنها إشارات أو رموز أو أصوات، أو جميع ذلك، يتواصل بها وتَواطَأ عليها جمع من الناس. وإن يكن التعريف يصدُق على الرسم والإشارة والأصوات، فإننا نحدد اللغة هنا بمفهومها الأشهر: أصوات يعبَّر عنها برموز وُضعت لمعنًى واتفق عليها المجتمع، وهذا يُخرج لغة الإشارة واللغات غير المنطوقة.
علامَ كل هذا الفزع إن فَنَت لغة أو نُسِيَت أخرى؟
يجيب عن هذا الكاتب الإنجليزي «ديفيد كريستال» في كتابه «موت اللغة»، إذ يجمع علل الخوف من موت اللغات في خمس حجج:
- الحاجة إلى التعدد مطلب في ذاتها. ألا ترى أن المعنى المجرد قد يظهر بصور مختلفة بلغات متباينة، لتعكس في مجموعها المعنى المجرد في أقرب صورة؟ وهي في تنوعها تُظهر التبسيط تارةً والتعقيد تارةً كالتنوع الحيوي، جدلية تقدح الذهن وتستحيي الخيال.
- اللغة هوية، فكي يتصل المرء بغيره لا بد أن يتفق هو وغيره هذا على أصل معرفي، هو ذلك المَحقون في لغة والمرئي في مجازاتها وأمثالها، كما بينت ذلك دراسات نظرية المجاز المعرفي عن عالمي اللغويات «جورج لاكوف» و«مارك جونسن» في ثمانينيات القرن العشرين.
- اللغة تحفظ تاريخًا قد لا يُعرف إلا بها. فكما تعكس اللغة هوية قومها وبناء عقلهم المعرفي، تحفظ تاريخهم بصور مختلفة، سواءً برموزها وسبب اختيارها، كما سنرى لاحقًا مع اللغة السوغديانية، أو بأمثالها، فيكون ذلك بأقل حجب وأسرع للبصيرة.
- خصوصية اللغة المتمايزة قد تُسهم في المعرفة الإنسانية حتى في مباحث العلوم الأخرى. انظر إلى ما ساقه كريستال من أن إحدى لغات أستراليا اصطُلح فيها على اسم نبت هو أدق تعريفًا ممَّا سكَّه العلماء في الستينيات أولًا، فلما فهم العلماء ما كان من تلك اللغة الأصلية، انضاف إلى علمهم ما لم يكونوا يعلمون.
- اللغة في ذاتها تثير اهتمام الباحث عن التنوع وفهم العقل البشري. دعنا نضرب مثلًا بلغة نوغوبويو الأسترالية، فبضمير متكلم واحد يمكنك التفريق بين الذكرين والأنثيين، وهو ما نستعمل له في العربية لفظ «نحن». وفي لغة توك بيسين، يمكن بالضمير أن تدرك إذا كان المخاطَب يعي الجماعة أو يستثنيها. وصوتيًّا، في اللغات البشرية أصوات نقرية لا تتصور استطاعة الجهاز الصوتي اختراعها، كما في بعض اللغات الإفريقية.
فإن كان كذلك، فما يُميت اللغة؟
تموت اللغة بموت المتحدث قبل الأخير، فلا يجد الأخير من يخاطبه بها.
الإجابة عن هذا السؤال تنقسم إلى اعتبار زمني وآخر اقتصادي، فقديمًا كان الغزو العسكري والفتوحات العامل الأكبر في موت اللغات. فالملوك إذا دخلوا بلدًا أنزلوا فيها كل معرفتهم، حتى تنفك عن السكان الأصليين كل رابطة لهم مخصوصة بثقافتهم وارتباطهم بوطنهم، كما كان في الفتوحات العربية في شمال إفريقيا، وإن وُجد استثناء كما حدث في بلاد فارس.
أما حديثًا، فسُلطة الاقتصاد ألزمت الأمم الضعيفة التخلي عن جوانب من ثقافتها، وما اللغة إلا إحداها. وإن كان للاقتصاد قوة غاصبة، فللإعلام والبهرجة قوة ناعمة تحدو بالأمم إلى التشبه بالمُثُل الإعلامية بكل صورها، ومن تلك اللغة، حتى تضعف فتموت.
ولكن ما موت اللغة؟
اللغة الميتة هي التي فقدت متحدثيها الطبيعيين، ويكون ذلك بموت المتحدث قبل الأخير، فلا يجد الأخير من يخاطبه بها، أو بموت الأخير بحسب بعض التعريفات. فحتى إن كانت تلك اللغة لغة مناسبات دينية مثلًا، مثل اللاتينية، فهي ما زالت ميتة باعتبار الشرط السابق، ولنضرب أمثلة لذلك.
1. اللغة اللاتينية
أشهر أمثلة اللغات الميتة التي يُتحدَّث بها اليوم في عدد من محافل، بل هي لغة رسمية لدولة الفاتيكان، إلا أنها ماتت بانقراض وجودها في الحياة الطبيعية. الدراسات ومحاولات إحياء منطق اللاتينية، يشكك علماء اللغة في النظام الصوتي المعتمَد لنطقها اليوم.
كانت اللاتينية لغة الإمبراطورية الرومانية وما تحتها من البقاع، واستمرت على هذا الحال حتى سقط الرومان وتفرقت دولهم، فتعززت اللهجات المختلفة لتحل محل اللغة شيئًا فشيئًا، وتموت اللغة أخيرًا في القرن السادس عشر.
2. اللغة الأَكَدية
كانت لغة الشرق الأوسط المسيطرة منذ القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد حتى القرن التاسع قبل الميلاد، بل كانت لغة المراسلات الدبلوماسية بين الأمم آنذاك بين حضارات ما بين النهرين ومصر والحثيين وعيلام.
كُتبت الأَكَدية بالخط المسماري، ممَّا سهَّل على الكتابة الآرامية غزوها بشتى أشكالها، وقد يعود ذلك إلى أن كلتيهما من المجموعة السامية. وبرغم موتها، ظلت الأَكَدية تُنقش على المنصات التذكارية لمدة 300 عام بعد فنائها.
ضاعت الأَكَدية تمامًا منذ القرن التاسع إلى القرن التاسع عشر، حتى اكتشاف مكتبة آشور بانيبال، التي تحوي كتبًا مدرسية ساعدت في فهم اللغة الأَكَدية، وبذلك استطاع العالم معرفة ملحمة غلغامش العظيمة.
3. لغة تشبتشا
كانت لغة حضارات كولومبيا حتى أفناها الغزاة الإسبان على يد «خيمنيس دي كويسادا» عام 1536. برغم ذلك، ظلت لغة تشبتشا تدرَّس في المراكز العلمية، ممَّا حافظ على نحوها.
وفي عام 1577، أرسل البطريرك بوغوتا إلى الملك يهاجم فيه هذا التنوع اللغوي الذي يأثر في رأيه على فهم الدين، فحُظرت اللغة، ويؤرَّخ موتها تمامًا في نحو عام 1770.
4. اللغة السوغديانية
تسيدت تلك اللغة طريق الحرير، وهي أقرب إلى الفارسية، لكنها كُتبت بأربع نظم كتابية باعتبار دين متحدثيها، فكان الخط الآرامي للمسيحيين، وهو الأعم لسهولته، والبراهمي للهندوس، والمانوي للمانيين، والوغدياني للبوذيين.
قُضي على السوغديانية بالغزوات، فتناهبتها الفارسية والعربية والهندية والصينية والمغولية حتى اندثرت.
5. اللغة الماساشوتيستية
قبل وصول الأوروبيين إلى قارة أمريكا الشمالية، كانت الماساشوتيستية هي اللغة الرسمية في ما يسمى اليوم بوسطن وما حولها، وقد دَرَسَها القس «جون إليوت» ودرَّسها، بل ووعظ بها في عام 1646.
وفي عام 1663، ترجم إليوت الكتاب المقدس إلى الماساشوتيستية، وألَّف في 1666 كتابًا نحويًّا لشرحها، إلا أن حرب الملك فيليب (1675 - 1676) أفنت جُلَّ متحدثيها، فبدأت في الاضمحلال حتى فنت في القرن التاسع عشر.
6. لغة أوبيخ
ما يميز هذه اللغة أن فيها 83 من الحروف الصامتة واثنين من الحروف الصائتة (المتحركة) فقط. وفي 7 أكتوبر 1992، مات «توفيق إسنيتش» آخر المتحدثين بالأوبيخ فماتت معه.
كانت أوبيخ لغة حية في مدينة سوتشي على البحر الأسود، وبعد قرن من الحروب غزتها روسيا القيصرية في عام 1864، فنزح 50 ألفًا من السكان إلى الدولة العثمانية، وهناك تلاشت لغتهم حتى لم يبق إلا إسنيتش متحدثًا بها، وانقضت بموته.
هل يمكن أن نحيي لغة ماتت؟
أوضح مثال على ذلك العبرية، فقد كانت لغة ميتة حتى قيام إسرائيل، إذ أعاد علماء اللغة العبرية بناءها ونشرها لغةَ حياةٍ يومية، وإن كانت العبرية الحديثة مختلفة عن العبرية القديمة، فتأثرت بلغات اليهود المهاجرين لا سيما اليِديش، إلا أنها أُعيد بناؤها على أصولها القديمة، فاعتُبر ذلك بعثًا من الأجداث، ولذلك حكاية يطول بها الحديث.