إذا كنت تجيد لغتين، وعلمت أن ابنك في طريقه إلى الحياة، هل ستعلمه هاتين اللغتين؟ ماذا لو كانت إحدى اللغتين أهم من الأخرى، لسبب أو لآخر؟ ماذا لو كان ارتباطك باللغة الثانية يعكس ارتباطًا روحيًّا بالأصول والثقافة، وفي نفس الوقت خصومة مع الواقع؟
الأمر محير، فاللغة ليست مجرد وسيلة تواصل. إنها تحمل في طياتها هوية وثقافة وسياسة في آن واحد؟ هل تورث كل هذا العالم إلى ابنك، أم تحجبه عنه وتريح رأسك؟
يحكي لنا الكاتب الأمريكي ذو الأصول الروسية، «كيث غيسين»، عن مشواره في تعليم ابنه الروسية رغم أنه وُلِدَ ونشأ في الولايات المتحدة، كاشفًا لنا ما انتابه من حيرة وشكوك إزاء صحة قراره، في مقال نشرته مجلة «The New Yorker».
تدليل وقصة وشعر.. وأصوات الحيوانات
يقول الكاتب «غيسين» إنه لا يتذكر تحديدًا متى بدأ التحدث إلى ابنه «رافي» بالروسية. لم يتحدث إليه حينما كان في رحم أمه رغم علمه أن الأجنة يتعرفون إلى الأصوات عند نقطة ما. ولم يتحدث إليه بالروسية في الأسابيع الأولى من حياته، فقد بدا الأمر سخيفًا في نظره، فلم يكن يستطيع سوى أن ينام ويصرخ ويرضع، وكان المتلقي الفعلي لكلماته في ذلك الوقت هو أمه التي كانت تعاني من قلة النوم والتوتر، إضافة إلى ذلك، فإن الأم لا تفهم الروسية.
عندما استقرت الأمور قليلا، بدأ الكاتب التحدث بالروسية إلى ابنه بعد أشهر من مولده. كان يحب أن لغة خاصة تجمعه بابنه، يتحدث بها إليه في جولاتهما في منطقتهم السكنية أو عندما يدفعه في عربة الأطفال. يحب الأب القاموس الواسع من كلمات التحبب الذي تحمله الروسية، فهي لغة ثرية بكلمات التدليل، حسب رأيه.
عند بلوغه عامًا ونصف العام، فَهِمَ «رافي» الصغير كلمة «لا» بالروسية، وشعر الأب بأنه يمرر اللغة إلى ابنه، وشجعه دعم من حوله.
حين قرأ الأبوان القصص إلى «رافي» الصغير، كانت بعضها بالروسية. أهداه صديق كتابًا يضم أشعارًا للأطفال كتبها «دانييل خارمس»، الشاعر السيريالي العبثي الذي ينتمي إلى العصر السوفييتي. أحب «رافي» تلك الأشعار. كانت إحداها أغنية تحكي قصة رجل ذهب إلى الغابة يحمل هراوة وحقيبة، لكنه لم يعد إلى بيته قط.
ألقي القبض على «خارمس»، في لينينغراد عام 1941، بتهمة «التحريض على مشاعر الفتنة»، ومات من الجوع في مستشفى للأمراض النفسية، في العام التالي لاعتقاله. رأى الشاعر السوفييتي «ألكساندر غاليتش» أغنية الرجل الذي خرج ولم يعد إلى داره «تنبؤية»، وضمَّن كلمات الأغنية في قصة عن معسكرات الاعتقال السوفييتية (الغولاغ). أحب «رافي» الأغنية حتى إنه كان يطلب تشغيلها ليرقص عليها في ما بعد.
وجد الكاتب نفسه يتحدث إلى ابنه بالروسية طوال الوقت، حتى أمام أمه. وعند نقطة معينة، اكتشف أن ابنه يستوعب حديثه.
كانت البداية مع أصوات الحيوانات: الأب يسأل بالروسية عن صوت البقرة، فيجيبه الابن، ثم يسأله عن صوت القطة، ثم البومة، فيجيب الابن، ويفتح عينيه واسعتين ويرفع ذراعيه مقلدًا صوتها.
عند بلوغه عامًا ونصف العام، فَهِمَ كلمة «لا» بالروسية، وكان يفهم أمه أفضل من أبيه. رغم هذا بدا الأمر معجزة صغيرة، فقد شعر الأب بأنه يمرر اللغة الروسية إلى ابنه، وشجعه دعم من حوله، ودهشتهم من نجاحه. رغم هذا ظلت لدى الأب شكوك تؤرقه حتى اليوم.
الثنائية اللغوية: مادة للبحث المستمر
كانت الثنائية اللغوية (استخدام لغتين بنفس التمكن) تحظى بسمعة سيئة لا تستحقها، ثم أصبحت لها سمعة جيدة لا تستحقها أيضًا في رأي الكاتب. في مطلع القرن العشرين، أسبغ علماء النفس الأمريكيون على الثنائية اللغوية سمعة جيدة، ففي خضم محاولاتهم ضحد حجج الفطريين (المدافعين عن حقوق السكان الأصليين في مواجهة المهاجرين)، اقترح هؤلاء العلماء أن عاملا آخر غير الوراثة هو المسؤول عن تدني درجات المهاجرين من شرق وجنوب أوروبا في اختبارات الذكاء الجديدة مقارنة بنتائج المهاجرين من شمال أوروبا.
رأى العلماء الأمريكيون أن محاولة تعلم لغتين هي السبب في انخفاض درجات أولئك المهاجرين. لم يفكر الفريقان المتضادان في احتمالية أن تكون اختبارات الذكاء نفسها دون جدوى.
في مطلع ستينيات القرن العشرين، أظهرت دراسة أجراها باحثان كنديان على تلامذة يتحدثون الإنجليزية والفرنسية في مدرسة بمونتريال، أن هؤلاء الأطفال فاقوا الأطفال الذين يجيدون لغة واحدة في اختبارات تتطلب معالجة ذهنية، والتعرف إلى نماذج بصرية، فبدأ الحديث عن «ميزة التحدث بلغتين» (Bilingual Advantage).
في السنوات الأخيرة، ظهرت شكوك حول مميزات إجادة الأشخاص للغتين. وتعرضت الدراسات القديمة للنقد بسبب عيوب تتعلق بتحيز الاختيار (الفشل في تحقيق التوزيع العشوائي) ونقص الفرضيات الواضحة القابلة للاختبار.
يقول الكاتب إنه من الممكن ألا تكون هناك ميزة لإجادة لغتين، بعيدًا عن معرفة لغة أخرى، وهو أمر لا جدال فيه. فربما يكون التحدث بلغة أخرى إلى جانب الإنجليزية مسؤولًا عن إعاقة تعلم الإنجليزية قليلًا. يرى الأخصائي اللغوي النفسي «فرانسوا غروغون»، أن اللغة نتاج الضرورة، فإذا كان هناك طفل لا يناقش كرة القدم سوى مع أبيه الذي يتحدث الروسية، فمن الممكن ألا يعرف كلمة «ضربة حرة مباشرة» بالإنجليزية إلا عندما يحتاج إلى استخدامها.
يظل الأهل مسؤولين عن تحديد ما إن كانوا يريدون لأبنائهم أن يتحدثوا لغتين، وهنا تكمن المشكلة.
رغم حيرته، الكاتب يتشبث بالروسية
يحكي الكاتب أن أبواه أخرجاه من الاتحاد السوفييتي عام 1981، وهو في السادسة من عمره. كانت جدته تقول إن الاتحاد السوفييتي بلد عنيف وفقير، واليهود هناك معرَّضون لأعمال عنف. قرر أهله المغادرة بعدما مرر الكونغرس الأمريكي تشريعًا، تحت ضغط جماعات يهودية أمريكية، رهن استمرار التجارة بين واشنطن وموسكو، بالسماح بهجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي. لم تكن المغادرة سهلة، فقد اضطر والده إلى دفع رشوة كبيرة ليتمكنوا من الخروج، وحلوا على بوسطن. يقول الكاتب إن قرار الهجرة كان له الأثر الأكبر في حياته.
يخبرنا الكاتب بأن أبواه كانا شديدي التعلق بالثقافة الروسية، لكنهما لم يحاولا أن يعزلاه عن المجتمع الأمريكي، ولم يكن في مقدورهم أن يفعلوا ذلك، حيث اندمج في المجتمع الأمريكي بقوة، حتى إنه سمح للغته الروسية أن تتدهور.
يقول «غيسين» إنه لو كان هاجر في سن أصغر، كالثانية أو الثالثة، لكان من الصعب عليه أن يحتفظ بلغته الروسية، ولكان أصبح أمريكيًّا خالصًا. أما لو كان هاجر في سن أكبر، كالتاسعة أو العاشرة، فسيصبح ذا لكنة عند التحدث بالإنجليزية، وينكشف أصله الروسي.
في السادسة، يمكنك أن تتذكر لغتك الأصلية دون أن تتحدث اللغة الجديدة التي هاجرت إليها بلكنة تفرقك عن أهل البلد. يقول الكاتب إنه يعرف أشخاصًا هاجروا إلى الولايات المتحدة في السادسة، وما زالوا يتحدثون بالروسية إلى أهلهم، لكنهم لا يفعلون شيئًا آخر باللغة على المستوى المهني، ولا يعودون إلى روسيا. وهو يعرف آخرين هاجروا في نفس السن، ويزورون روسيا كثيرًا، وتزوجا من الروس. ينتمي الكاتب إلى المجموعة الثانية، فقد بدأ في زيارة روسيا في فترة دراسته بالكلية، ومنذ ذلك الحين وهو يكتب عنها ويفكر فيها.
يرى الكاتب أن سبب إجادته اللغة الروسية هو السفر بسهولة عبر أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق. وثقافيًّا استمتع بالأشعار الروسية، والأعمال الرومانسية الكوميدية، وأشعار «جوزيف برودسكي» ومسرحيات الكاتبة «لودميلا بتروشفسكايا» التي أحبها أهله أيضًا.
مع تقدمه في السن، أضاف الكاتب أمورًا أخرى أحبها هو، لكنه يظل يشعر بأن ارتباطه بروسيا أقل من أهله، فهو لا يعرف روسيا أو الروسية مثلما يعرفهما أبواه. إنه أمريكي ورث بعض المهارات اللغوية والجوانب الثقافية، ورأى في انهيار الاتحاد السوفييتي فرصة للاستفادة من تلك المهارات ككاتب ومترجم، فقد عاش معظم حياته بالإنجليزية.
يتساءل الكاتب: «هل يُعلِّم مبرمج الكومبيوتر الموهوب أبناءه لغة «++C» المستخدَمة في البرمجة؟ ربما لو رأى لديهم الرغبة. لكن مبرمج الكومبيوتر الموهوب لا يعلم أبناءه لغات لا فائدة منها، أو لغات قد تضعهم في مأزق، أليس كذلك؟».
اللغة الروسية تحمل متاعًا سياسيًّا ثقيلًا
قابل الكاتب أصدقاء من أصول روسية وفدوا إلى أمريكا في نفس الوقت الذي جاء فيه، لكنهم تخلوا عن الروسية، وعلموا أولادهم الإنجليزية.
اللغة الروسية وروسيا ليسا دون فائدة، لكن البلاد تبدو كذلك، على الأقل في المستقبل القريب. يتساءل الكاتب: كم سيكون عمر «رافي» حين يغادر الرئيس الروسي بوتين المشهد السياسي؟ ففي السيناريو الأكثر تفاؤلا، لو استقال «بوتين» في 2024، سيكون «رافي» في التاسعة. لكن لو استمر أطول من ذلك، قد يصبح «رافي» في الخامسة عشرة أو الحادية والعشرين».
هل من المستحيل أن يسافر «رافي» إلى روسيا في الوقت الراهن؟ ليس مستحيلًا. لكن الأمر ليس مرغوبًا من وجهة نظر أهله. يقول الكاتب إنه ما زال يذكر نظرة والده حين أوصله إلى المطار للسفر إلى روسيا لأول مرة وحده.
كان السفر في ربيع عام 1995 (نهاية عامه الثاني بالكلية). أمه توفيت حديثًا بعد إصابتها بمرض السرطان، وانتقلت أخته الكبرى الصحفية إلى روسيا للعمل. يتساءل الكاتب: «هل كان الأب يشعر بأنه يوشك على أن يفقد ابنه أيضًا؟» كان ذلك الوداع أكثر لحظة شعر فيها بأن دموع والده تكاد تنهمر. ما زال الكاتب محتارًا إن كان والده ندم في تلك اللحظة على تعليمه الروسية.
عاد الكاتب إلى الولايات المتحدة، ولم يصبه ضرر. لكنه يؤكد أن هذا لا يعني أنه يريد لابنه «رافي» الصغير أن يسافر إلى روسيا.
الروسية أم لغة أخرى تفتح أبوابًا أوسع؟
يقول الكاتب إنه يتمنى لو علَّم ابنه الإسبانية باعتبارها ستفتح له آفاقا واسعة للتعامل مع سكان نيويورك وكثير من سكان العالم، أو ربما الإيطالية أو اليونانية أو الفرنسية، حتى يتكمن من زيارة تلك البلاد الجميلة والتحدث بلغتها. لن يكون الأمر سيئًا لو تعلم ابنه «الماندارين» أو «الكانتونية» (لغات صينية) كما يفعل أصحاب العقليات الاستثمارية في نيويورك. إن إسرائيل نفسها لديها شواطئ، والعبرية ستساعده على قراءة التوراة. لسوء الحظ أن الكاتب لا يجيد أيًّا من تلك اللغات، فكل ما يعرفه هو الروسية، وحتى تلك لا يتحدثها بطلاقة.
من سوء حظ «رافي» أن لغة والده الروسية سيئة، فالكاتب يعترف بأنه كثيرًا ما ينسى أو يجهل أسماء أشياء شائعة. ففي أحد الأيام كان يحاول تذكر كلمة «إسكوتر»، فأسماه «ساموجون»، أي ضوء القمر، بدلًا من «ساموكات». يتكرر أن ينسى كلمات بسيطة، مثل اسم الخروف بالروسية. يفاقم المشكلة أن الكلمات الروسية أطول من نظيرتها الإنجليزية، «لبن» بالإنجليزية «ميلك»، وبالروسية «مولوكو»، و«تفاحة» بالإنجليزية «آبل»، وبالروسية «يابلوكو». الأدهى أن الكاتب غير متمكن من النحو الروسي.
يحكي الكاتب أنه يقابل أصدقاء من أصول روسية وفدوا إلى الولايات المتحدة في نفس الوقت الذي جاء فيه، لكنهم تخلوا عن الروسية، وعلموا أولادهم الإنجليزية. يتنازعه تجاههم شعوران: الأسى على ما فاتهم، والحسد. حرر هؤلاء أنفسهم من قيد روسيا.
هناك مجموعة من جاليات المهاجرين الروس يعيشون في لونغ آيلاند، ما زالوا يعلمون أبناءهم الروسية، حتى إن الجيل الرابع منهم يعرفها، وينتمي الصحفي «بول كلبنيكوف» إلى تلك الجالية. حين سقط الاتحاد السوفييتي، ذهب «كلبنيكوف» إلى موسكو، ونشر كتابًا عن فساد الدولة الروسية بسبب رجال الأعمال الكبار. في 2004، تلقَّى تسع رصاصات، ولقي حتفه في أحد شوارع موسكو. حصل المتهمان الاثنان في الجريمة على البراءة في محاكمة سيئة، ولم يعاقَب أحد.
الروسية مستخدمة بكثرة في كييف، وفي أجزاء من إستونيا ولاتفيا، ومناطق كاملة في تل أبيب تتحدث الروسية، وهناك شاطئ برايتون في بروكلين بنيويورك. هذه كلها أماكن يريد الكاتب أن يزورها ابنه «رافي» قبل أن يزور موسكو، مسقط رأس أبيه.
النتائج تغري بالاستمرار
خلال العامين الاثنين الأولين من عمر «رافي»، لم يتطور في استخدام الروسية. كانت أولى كلماته هي «كيكا» التي يُقصَد بها «تشيكن» (Chicken). ظن الكاتب أن الطفل دمج الكلمتين الروسية والإنجليزية في واحدة، فالدجاج بالروسية «كوريتزا».
لكن ما نطقه من كلمات أخرى لم يتضمن أي مكون روسي. وحين جمع الأب والأم مجموعة الكلمات التي كان «رافي» يستخدمها عند عمر السنة والنصف، لم يكن من بين الـ53 كلمة التي يقولها سوى كلمة روسية واحدة، ولم ينطقها بشكل سليمًا. يعترف الكاتب بأنه أدرك في ما بعد أن كلمة «كيكا» لم تكن محاولة لنطق الكلمة الروسية «كوريتزا»، وإنما بديل أوجده لصعوبة نطق صوت «ch» الإنجليزي.
قدم الكاتب كل ما في وسعه لتكون الروسية حاضرة في حياة ابنه، لكن حجم ما كان يتعرض له من الإنجليزية كان أكبر بكثير.
ظل الأب يتحدث إلى ابنه بالروسية، ولم يستطع أن يتجاوز ذلك الشعور بأن فشل الابن في التقاط اللغة فشل له شخصيًّا. فكان يتساءل: هل كان «رافي» يفضل لغة أمه (وكل من حوله)؟ ألم أكن أمضي وقتًا كافيًا معه؟ هل كان ابني يشعر بالمشاعر المختلطة التي أشعر بها تجاه هذا المشروع؟ هل كان يكرهني؟
يقول عالم النفس اللغوي «فرانسوا غروغون»، في كتابه «Life and Reality: Bilingual»، إن العامل الأساسي الذي يحدد إن كان الطفل سيصبح ثنائي اللغة هو الاحتياج. فهل يحتاج الطفل إلى فهم اللغة كي يتحدث إلى أقاربه أو أصدقائه أو يفهم برامج التليفزيون؟ عامل آخر يتحكم في إجادة لغتين هو حجم المدخلات، فهل يستمع الطفل إلى ما يكفي من اللغة ليفهمها. وهناك عامل ثالث، وهو موقف الأبوين من اللغة الثانية، فالأطفال البلجيكيون يُنتظَر منهم أن يتعلموا لغتين: الفرنسية والفلمنكية. لكن بما أن كثيرًا من الآباء لا يتحمسون للفلمنكية (أو البلجيكية الهولندية)، باعتبارها لغة غير عالمية، لا يجيدها الأبناء.
في حالة «رافي»، لم تكن هناك ضرورة لتعلم الروسية. لم يكن الكاتب يريد أن يدَّعي عدم فهمه لمحاولات ابنه التحدث بالإنجليزية، ولم يكن هناك أحد في العائلة، بمن في ذلك الروس، لا يعرف الإنجليزية. قدم الأب ما في وسعه لتكون الروسية حاضرة في حياة ابنه، لكن حجم ما كان يتعرض له من الإنجليزية كان أكبر بكثير.
رغم هذا عاند الكاتب وثابر. عندما كان «رافي» صغيرًا، لم يستمتع بأي كتب روسية سوى أشعار «خارمس» العبثية، وسلسلة كتب سويدية لكاتبة الأطفال «باربرو ليندغرن»، بعنوان «ماكس»، كانت أخت الكاتب قد أحضرتها معها من موسكو مترجمة إلى الروسية. حين بلغ الثانية، بدأ «رافي» يستمتع بأشعار الأطفال التي نظمها «كورني تشاكوفسكي»، والتي وجدها الكاتب طويلة ومخيفة وعنيفة.
عندما أصبح «رافي» أكثر قدرة على الاستماع لقصص طويلة، قرأ له قصة «بارمالي» الذي يأكل الأطفال، لكن تمساحًا يأكله في نهاية المطاف. بعدها قرأ له قصة أخرى عن طبيب يرعى الحيوانات، ويسافر إلى إفريقيا استجابة لدعوة من فرس النهر لعلاج مجموعة من القروش والنمور المريضة. حرص الأب كذلك على أن يضع أفلام الرسوم المتحركة الروسية في طريق ابنه، والتي كان معظمها قديمًا وبطيئًا، لكنه أحب أحدها.
مع مرور الشهور، لاحظ الكاتب أن ابنه بات يفهمه بشكل أكبر. لم يكن يفعل ما يطلب منه بالروسية، لكنه كان يفهم ما يتحدث الأب عنه. في إحدى المرات، خبأ ابنه «فردة الشبشب» متعمدًا، فسأله الأب بالروسية عن مكانها، فذهب الابن وأحضرها من تحت الأريكة. كان الابن فخورًا بنفسه، وكذلك كان الأب. مجرد تكرار كلمات بعينها، والإشارة إليها، ساعد الابن على تعلم أسمائها بالروسية. شعر الأب بالابنهار من قدرة العقل البشري. لم يكن في مقدوره التوقف عن تعليم ابنه عند هذه النقطة.
تجربة مماثلة تلهم الكاتب
يحكي الكاتب أنه قرأ أحد النصوص في دراسة الثنائية اللغوية، وهو كتاب «Speech Development of a Bilingual Child» لمؤلفه «فرنر ليوبولد» وهو لغوي من أصول ألمانية هاجر إلى الولايات المتحدة وانتهى به الأمر مدرسًا للغة الألمانية. تزوج «ليوبولد» من أمريكية ذات أصول ألمانية، لكنها لم تعرف اللغة الألمانية. وعندما رزقا بطفلة قرر «ليوبولد» أن يعلمها الألمانية. يمثل الكتاب توثيقًا لتجربة «ليوبولد» منذ أتمت ابنته الثانية، وحتى بلوغها السادسة.
يمتلئ الكتاب بنماذج لأخطاء ابنة «ليوبولد» النحوية، وعددًا لا بأس به من السجلات المكتوبة لحديثها بالألمانية. بعد أن طورت الابنة «هيلدغارد» كمية مدهشة من حصيلة الكلمات في عاميها الأولين، بدأت في الرضوخ لبيئتها التي تسيطر عليها اللغة الإنجليزية. ويأسف «ليوبولد» لتراجع لغتها الألمانية عند تخطيها العام الثاني من العمر. يقول في كتابه إن الكلمات الألمانية تحل محل الكلمات الألمانية ببطء، لكن بخطوات ثابتة. ويضيف أن أصدقاءهم من الألمان يستخدمون الإنجليزية بشكل غير إرادي عندما تجيبهم الابنة بالإنجليزية.
في الوقت نفسه، يستشعر الكاتب أن «ليوبولد» لديه شعور بالطمانينة تجاه التقدم الذي تحرزه ابنته، إذ يدهشه أنها تقول «يحلق» بالإنجليزية، رغم أنها لا ترى سواه أحدًا يحلق. تسأله في كل مرة عما يفعل، وتتلقى الإجابة بالألمانية: «raiseren». ذات مرة تحسست ذقنه، وسألته بالإنجليزية إن كان وقت الحلاقة حان. بعد بضعة أشهر، يقول «ليوبولد» إن ابنته باتت أكثر فضولًا بشأن اللغتين اللتين تتعلمهما، فسألت أمها إن كان كل الآباء يتحدثون بالألمانية. استنتجت الابنة ببراءة أن الألمانية لغة الآباء لأنها لغة أبيها.
تعود لغة «هيلدغارد» الألمانية إلى التحسن حين تتم عامها الخامس وتذهب الأسرة في رحلة إلى ألمانيا لمدة ستة أشهر. يقول كاتب المقال إنه إذا كان «ليوبولد» قد اصطحب ابنته إلى ألمانيا النازية لتحسين لغتها، فلا عيب في أن يذهب هو إلى روسيا تحت زعامة «بوتين». لكنه لم يفعل ذلك حتى الآن.
عام «رافي» الثالث كان فارقًا
يحكي الكاتب أن لغة ابنه «رافي» الروسية تطورت قبل عيد ميلاده الثالث بشهر. بدأ الطفل يلاحظ أن أباه يتحدث لغة مختلفة عمن حوله، أو أنه كان «يواجه لغتين» وفق وصف «ليوبولد» لشعور ابنته. شعر «رافي» بالضيق، فقال لأبيه ذات ليلة : «بابا، نحتاج إلى وضع الإنجليزية بداخلك». لقد كان يشعر بأن اللغة، كما وصفها «غروغون»، مثل مادة تملأ إناء. سأله الأب حينها عن السبب الذي يجعله لا يتكلم إلى أبيه بالروسية، فقال: «لا أستطيع، فقد وضعت ماما الإنجليزية بداخلي».
في ليلة أخرى، حين كان الأب والأم يضعان «رافي» في سريره، لاحظ الطفل شيئًا استرعى انتباهه لأول مرة: «بابا، أنت تتحدث بالإنجليزية إلى ماما» . لم يلحظ الابن ذلك من قبل.
سافرت الأم في عطلة لبضعة أيام، ولأول المرة استمع «رافي» إلى كمية من الروسية تفوق الإنجليزية. بدأ «رافي» يستوعب ما يحدث، فقال له ذات مرة وهما عائدان من الحضانة: «بابا، هكذا أبدو حين أتحدث الروسية»، وبدأ يصدر صوتًا أجش لم يبدُ مثل الروسية على الإطلاق، وفق الكاتب. بدأ «رافي» يشعر بأن الروسية لغة مختلفة، وأنه يستطيع التحدث بها.
استمتع «رافي» بالأمر، فأخذ يغني: «أشم رائحة دماء رجل إنجليزي» قبل الدخول للاستحمام، وبدأ في تمثيل أنه ينهش أباه. رد الأب بالروسية: «أنا؟ أنا رجل إنجليزي». ففهم «رافي» اللعبة، وقال مداعبًا: «أشم رائحة رجل روسي»، وانفجر ضاحكًا. بعدها بأيام، في أثناء تناول العشاء، كان الأب يتحدث إلى «رافي» قبل أن يتحول بالحديث إلى أمه فجأة. لم يحب «رافي» الأمر، فقال، موجهًا حديثه إلى أمه: «لا يا ماما، لا تأخذي الروسية من أبي»، يبدو أن الروسية باتت رمزًا إلى حصوله على كامل انتباه والده.
عند هذه النقطة لم يكن «رافي» يفهم الروسية فقط، فقد أصبحت وسيلة مميزة للتواصل بينه وبين أبيه. فإذا قرر الأب ألا يتحدث بها بعد ذلك سيكون قد قطع ذلك التواصل المميز. كانت تلك هي نقطة اللاعودة.
الحيرة مجددًا: أب روسي أَم أمريكي؟
يقول الكاتب إنه اكتشف أنه يكون سريع الغضب حين يتحدث الروسية، مقارنة بالإنجليزية، ويرى السبب أن حصيلته من الكلمات الروسية قليلة، فسريعًا ما تنفد، ما يساعد على إشعال غضبه. يقول أيضًا إن لديه أداء معينًا يظهر حين يتحدث الروسية فقط، وفيه يكون صوته عميقًا ذا نبرة تهديد، فيجد نفسه مثلًا يقول لابنه إنه لو لم يسارع باختيار قميص الخروج الذي سيرتديه، فسيختاره هو له.
يشعر الأب بالقلق أحيانًا إزاء هذا التغير الذي يطرأ على سلوكه حين يتحدث الروسية. فبدلًا من أن يكون ذلك الأب الأمريكي النموذجي الساخر، الهادئ طوال الوقت، يكون أحيانًا أبًا روسيًّا كثير الصراخ ذا حصيلة كلمات ضيقة. لكن ما من مشكلة، فقد كانت أمه متساهلة بينما كان أبوه حازمًا، ولكنه كان طفلًا سعيدًا.
يقول الكاتب إن إحدى مساوئه كمعلم اللغة الروسية لابنه، أنه لا يجيد تنظيم الوقت. فهناك لقاءات مستمرة للآباء الروس في «بروكلين» لا يأبه بحضورها. رغم هذا، فقد اصطحب «رافي» إلى ملتقى غنائي للأطفال، أدت فيه إحدى المطربات بعض الأغاني في مكان استأجره أحد أولياء الأمور الروس.
حضر الحفل مجموعة من الآباء الذين يتحدثون الروسية، ومعهم أطفالهم. كان معظم الحضور يفضل الحديث بالإنجليزية لا الروسية، ولم تكن لأي من الحضور رغبة في العودة إلى روسيا. يتساءل الكاتب: «لماذا إذًا يجتمعون؟ ما الذي كنا نود توريثه إلى أبنائنا؟ بالتأكيد لا شيء عن روسيا كما هي الآن. ربما كان مناسبًا جدًّا أن الأغاني التي كنا نستمع لها كانت للأطفال. هناك أمر ساحر في طفولتنا، لكن لا أحد يعرف ما إن كان السحر يكمن في الموسيقى أو الكتب أو وقع اللغة على الأذن. على الأرجح أن السحر هو حالة الطفولة نفسها. وبما أننا لا نستطيع أن نحسم ما إذا كان للغة دور في خلق هذا السحر، كان علينا أن نورث الروسية إلى أبنائنا».
في نهاية برنامج الحفل، أعلنت المغنية أنها تريد تقديم بعض الأغاني للآباء والأمهات، فقالت: ما رأيكم في «تسوي»؟ كان «فيكتور تسوي» كاتب أغانٍ، والمغني الرئيسي في «كينو»، إحدى أعظم فرق الروك الروسية. هتفت حشود المجتمعين ابتهاجًا، فغنت المطربة للفريق، ثم غنت أغنية أخرى شهيرة لفريق روسي آخر يدعى «نوتيلوس بومبيليوس»، عنوانها «أريد أن أكون معك»، وتحكي عن محب مشتاق إلى حبيبته التي ماتت في حريق، لكن كاتب الأغنية أصر بعد سنوات من طرحها على أن للأغنية معنى دينيًّا، وأن المخاطَب فيها هو الرب.
تقول كلماتها:
كسرتُ الزجاج مثل قالب شوكولاتة في يدي
قطعتُ تلك الأصابع لأنها لم تستطع أن تلمسكِ
نظرتُ إلى تلك الوجوه، ولم أقوَ على أن أغفر لها
أنها لا تراكِ، ورغم هذا استطاعت أن تعيش
يقول الكاتب إنه لم يستمع إلى تلك الأغنية مع «رافي» من قبل، ومع هذا وجده متسمِّرًا في مكانه، كان جميع الحاضرين متسمِّرين. غنتها المطربة بأسلوبها، فجاءت آسرة لقلوب المستمعين.
تقول لازمة الأغنية:
ما زلت أريد أن أكون معك
أريد أن أكون معك
أريد أن أكون معك جدًّا
لم يشعر الكاتب بأن الأغنية تتحدث عن الدين حينها، كانت تمس الثقافة واللغة، وتعبر عن توق الحاضرين لأن يظلوا متصلين بروسيا والروسية رغم كل شيء، وعن استحالة حدوث ذلك لأسباب كثيرة. دندن «رافي» الأغنية في طريق العودة إلى المنزل، وبعد بضعة أيام سمعه يغنيها لنفسه وهو يلعب. وبعدها بأيام قليلة، قال «رافي» جملته الروسية الأولى: «أنا فرس النهر».
تأثر الكاتب. تحركت مشاعره فوق الوصف، ربما بشكل ساذج.
«ما الذي فعلته؟ كيف كان في وسعي ألا أفعل ما فعلته؟ يا له من طفل ذكي، وعنيد، وفاتن. ابني، كم أحبه. أتمنى ألا يذهب أبدًا إلى روسيا، لكنني أعرف أنه سيذهب في نهاية الأمر».