لا يخفى على أحد غرائبية الوضع الراهن في ظل ازدياد حوادث القتل والإجرام بصفة شبه يومية، وهوسنا الدائم بتتبع أخبار تلك الجرائم في الساحة الإعلامية، وترقّب أبرز مستجداتها في الشارع العربي، محاولين بشكل يائس معرفة أسبابها ودوافعها المريبة، ابتداءً من قاتلي أهاليهم في الكويت والسعودية، مرورًا بحادثة التفجير الانتحاري بمطار أتاتورك في تركيا، وتفجير الكرادة في العراق، ومحاولات تفجير القنصلية الأمريكية في جدة، وتفجير المدينة المنورة، وغيرها من حوادث العنف والإرهاب التي تعصف بعالمنا.
هذه الحوادث، ما هي إلا نموذج بسيط لعشرات الحوادث الأخرى التي حدثت خلال أقل من شهر واحد في محيطنا العربي، لتستمر بذلك موجة العنف في التوغل بالمنطقة العربية والشرق الأوسط، حتى وصلت إلى ذروة الوحشية عند اجتياح الجماعات الإرهابية التي تتفنن في بث الرعب في نفوس الشعوب بالقتل والنحر والتفجير لمناطق جغرافية كاملة.
من السهل أن نلقي باللائمة على التطرف وتحريض رجال الدين كسبب للكراهية والعنف فنعفي أنفسنا من المسؤولية، ولكن هذا الإفراط في ثقافة العنف من حولنا، مؤشر قوي على أن ما يحدث الآن ليس ناجمًا عن أننا «ضحايا» تلك الجماعات فحسب، بل ربما يكون للعنف جذور أعمق مما نتصور في مجتمعاتنا وثقافتنا.
فلنلق نظرة محايدة على ما يواجهه الإنسان في الشرق الأوسط والعالم العربي من تحريض شبه يومي على الكراهية والعنف، دون أن يكون خلف ذلك بالضرورة «أجندة دينية» من خلال رحلة سريعة في حياة أطفالنا لنرى إن كانت بيئتنا الاجتماعية هي التي ترمي بهم في التهلكة.
في المنزل نتعلّم الكُره والنفاق
مبدئيًا، العنف سلوك يعبّر عن القوة الجسدية التي تصدر ضد الآخر بصورة متعمّدة، لغرض الإيذاء أو التخريب أو القتل، وقد يأخذ أشكالًا متنوعة، منها الأذى الجسدي باستخدام اليد، أو الشفهي باستخدام اللسان كالتهديد والسباب.
وبما أن المنزل أوّل مؤسسة اجتماعية يجد الطفل نفسه فيها، ويتأسس على مبادئ التعامل مع الإخوة الأصغر منه، ومع الأم والأقارب، فمن البديهي أن تنشأ فيه ثقافة احترام الكبير والعطف على الصغير، وأن تتشكل علاقتنا بالجنس الآخر، فنتعلم كيف نحترم أو «نحقّر» غيرنا.
يرى الطفل أبويه وطريقة معاملتهما له ولأقرانهما، ويستقي من كل ذلك منهج التعامل مع من يصادفه من الأطفال الآخرين، فيطبّق ما تشرّبه في المنزل على بيئة المدرسة أو النادي أو بين أصحابه.
ومن مؤسسة المنزل يكتسب الطفل كذلك أسلوب التعامل مع كل ما يختلف عنه شكلًا وموضوعًا، كاختلافات العرق أو لون البشرة أو الجنس أو الدين أو الطائفة. فإذا اعتاد الأب احتقار فئة معينة بالمجتمع ونعتها بصفات مثل الكفر والشرك أو الغباء والسذاجة، فسينعكس هذا مباشرة على الأبناء من حيث لغة الحوار وأسلوب التعاطي مع الآخرين، وسيظهر ذلك في المدرسة والنادي ومع الأصدقاء والأقارب، وقد يغضب الأب نفسه لأن طفله يستخدم هذه الألفاظ متناسيًا أنه تعلّمها منه، فللأسف يضع العديد من الأهالي أبناءهم أمام ثنائية النفاق هذه، وهنا تزدهر ثقافة الكراهية التي قد تؤدي إلى العنف.
وهذا بخلاف المنازل التي تشهد العديد من صنوف العنف، سواء كان ذلك من الأب ضد الأم أو من الأهل ضد الأبناء الآخرين أو، وهي الكارثة، ضد العاملين في المنزل، فكيف لنا أن نلوم الطفل الذي يعتاد هذه المناظر منذ عمر صغير؟
اقرا أيضًا: تحكم الوالدين يجعل الأطفال أميل إلى القلق وجلد الذات
عالم الغابة في المدارس
وتبدأ نواة العنف بالتطوّر بعدئذٍ في المدرسة، التي تشكّل نقطة الانطلاق لأول تعنيف حقيقي خارج نطاق المنزل، سواء كان جسديًا من الأطفال الأقوياء، وهو ما يعرف بالتنمّر (إرهاب الأطفال الآخرين)، أو باللسان من خلال الألفاظ النابية التي يتشاركها الأطفال في معظم أماكن وجودهم حيث يغيب الكبار كساحات اللعب.
وهنا يبرز السؤال الأهم: هل وضعت مؤسساتنا التعليمية خطة حقيقية لاستبدال ثقافة تقبل الآخر ومشاركة الغير بثقافة العنف بين الأطفال؟ بمعنى أن التنمّر ظاهرة عالمية شهدتها كل الأجيال في المدارس على مر الزمان بطريقة أو بأخرى، ولكن ما مدى جاهزية مؤسساتنا التعليمية في العالم العربي للتصدي لمثل هذا النوع من العنف؟
لا ننكر أهمية دور الاختصاصي الاجتماعي أو المدرس، لكن في كثير من الحالات يجد الطفل نفسه وحيدًا في مواجهة مجموعة من الأطفال الأقوى منه بنية والأخبث منه عقلًا، وتكون تلك الشرارة الأولى لتنشأ في ذهنه فكرة أن الحياة تماثل الغابة التي يأكل قويُّها ضعيفها.
قد يهمك أيضًا: السلطة والفصول الدراسية: العلم والتعليم كأداتي سيطرة على الإنسان
وهنا تتشكّل أوّل مفاهيم العنف لديه بعد الإيقان بأن العدالة والمساواة لا مكان لهما على أرض الواقع، ليبدأ بعدها الانضمام إلى عصابة الأقوى، ويتنمّر على صغار آخرين، أو يجد طريقة أخرى للانتقام، فينشأ كارهًا الآخر الذي أقصاه لأنه الحلقة الأضعف، وفي كلتا الحالتين تتشكّل لدى الصغير بوادر العنف والكراهية ضد الطرف المعتدي.
الغلبة للجماعة في البيئة المحيطة
على مستوى المحيط، توجد عدّة عوامل تتحكم في نشأة الطفل وتكوين هويته الثقافية كالدين أو العقيدة المتّبعة أو العادات الموروثة، ويتجلّى العنف بالتحديد لدى استخدام خطابات الكراهية وإلصاقها بآيات قرآنية وأحاديث معينة، مستغلين بذلك جهل عامة الناس بتفاصيل الدين، كأسباب النزول والظروف التاريخية الأخرى.
وللمجالس (الدواوين) والتجمعات لدى الجنسين نصيب أيضًا، فمن خلالها تبرز شتى أساليب الفوقية والطبقية وفروق المجتمع عبر محادثات تحثّ على العنصرية والانتماء إلى العشيرة ونبذ الأقليات وتضخيم الهوية القبلية والعرقية والدينية. وعادة ما يلجأ المرء إلى التطبّع بأخلاقيات الجماعة التي تميل إليها نفسه ولو كان ذلك على حساب مبادئه وقيمه التي تربّى عليها، رغبة في الانضمام ونيل قبول الأغلبية ورضاها والانتماء إليها، ولو كانت سيئة.
ولعل من أسوأ الخصال التي قد يتعلمها الناشئ من المجلس الاجتماعي، وينقلها إلى البيئة الخارجية هي التنمّر على الوافد والأقليات التي تشاركه أرض الوطن، لتتأسس بذلك الفوقية الطبقية التي تحرض على إظهار الفروقات الاجتماعية وتأسيس ثقافة «نحن» و«هم» القائمة على التمييز العنصري لفئة أتت لكسب العيش وتأمين حياة أفضل.
الإنترنت والعنف
فإذا كبر الطفل وانطلق إلى العالم وتفاعل معه خارج محيط المنزل والمدرسة والمجلس والمعارف، بدأ ينشر آثار التربية والعلوم المكتسبة من المحيط الذي سبق أن تحدثنا عنه. وأسهل طريق إلى ذلك هو الإنترنت الذي سخّر وسائل التواصل الاجتماعي وجعلها في متناول الجميع بلا استثناء.
يكفي أن تخصّص زيارة لأشهر الحسابات المتاحة على الإنستغرام وتويتر ويوتيو،ب لتراها تعج بأقذر الألفاظ والمفردات السوقية التي تعبر عن الهوية الثقافية للشخص المتجنّي وتربيته، واليوم بات التنمّر على الأشخاص ومحاولة اغتيال هويات الأفراد وصفاتهم عبر الكلمة من أسهل ما يكون، فلا يقارع المعترض الرأي بالرأي ولا الحجة بالحجة، بل يكتفي بالرد على مسألة فكرية بسبِّ صاحبها دون التعمق فيها ومناقشتها بموضوعية.
ولا تغيب ثقافة العنف كذلك عن الألعاب الإلكترونية الآخذة في الانتشار، فهناك بعض الألعاب التي تشجع المستخدم على التمتع بأساليب القتل والتعنيف، ليصل إلى درجة يتداخل فيها الواقع مع الخيال، ويصبح راغبًا في تلقي تدريب حقيقي يحاكي القتل الدموي في ميدان معركة فعلية، لأنه تقبّل القتل الوهمي وتلذّذ به في العالم الافتراضي، خصوصًا المستخدم الساذج!
العنف عبر وسائل الإعلام
إذا اتفقنا على أن الطفل قد مرّ سلفًا بهذه المراحل المختلفة في التنشئة والتطوير، فلنسلم جدلًا بأن التلفاز كذلك كان من الأدوات المتوافرة بسهولة في محيطه الصغير، وهو يسهم مساهمة كبيرة في نشر ثقافة العنف وتبلّد الحس تجاه المعنف، سواء بالدراما التليفزيونية السخية بالصفعات أو بمشاهد تعنيف المرأة وضربها من باب التأديب، دون الإشارة إلى أنه فعل مستهجن، بل يُترك الأمر لقناعة المشاهد وضميره.
ولعل أقرب الأمثلة لذلك، برامج المقالب الخفية التي تُجهز على الضيف بكمين من العيار الثقيل، أقرب ما يكون إلى الكابوس، وسيناريوهات القتل المتعمد منه إلى المقلب.
قد يعجبك أيضًا: كيف تُغسل الأدمغة؟
فمع تكرار تلك البرامج من موسم رمضاني إلى آخر، وصل الحال إلى أن اعتادت الجماهير السلوك العنيف تجاه الضيف، كالاستهانة بمشاعره، والتلذذ بتعذيبه، والاستخفاف بمشاعر الخوف وأن الضيف/ الضحية فأر التجارب الذي نرغب في معرفة ردة فعله، إذا ما بُترت أطرافه أو حُرم من الأوكسجين أو أُلقي في النار.
أما على مستوى المسرح، فبعض المسرحيات الجماهيرية أسهمت بشدّة في بناء ثقافة التطاول على الآخر ونشر الإيذاء اللفظي والنفسي بشكل لا يستهان به، فمنها ما يستخف ببعض الأفراد ويستخدمهم كدمى عرائسية لإثارة الضحك، كما فعل بعض مشاهير الكوميديا بالأقزام أو ذوي البشرة السمراء أو أصحاب الوزن الزائد واستعراضهم كنماذج شاذة عن المألوف ومثيرة للفكاهة.
علاقة العنف بالإرهاب
الخلاصة أن كلّ ما سبق إن لم يكن المسبب الأساسي في نشر ثقافة الكراهية والقسوة، فهو من العوامل المساهمة في خلق بيئة مهيّئة للمستوى التالي من العنف، وهو العدوان والإجرام، فمن الطبيعي لطفل تربّى في مجتمع متجاهل لقيمة الإنسان تمامًا، وأصبح التعصب جزءًا من تكوينه أن يستسهل العنف ويجده وسيلة مبررة لإقصاء الآخر، إذا تهيّأت له الظروف المناسبة.
وإذا أصررنا على عدم تعليم أطفالنا أهمية احترام الآخرين لذواتهم، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الجنسية، وتجنّب الحكم على الغير بناءً على الشكل الخارجي، فإن منبع الإرهاب في مجتمعاتنا ومنازلنا، لن ينضب.