خلال جلسة لطيفة مع الأصدقاء في العمل، يدور حديث حول حكاية غريبة وقعت لأحدهم، يصف فيها نادلًا تعامل معه بوقاحة، يتحدث بسخط وتكاد عيناه تخرجان من محجريهما، يختم حكايته بأن «كـ...»، تعليق يلقى قبول الجميع، يرددون: «كـ... والله كـ...».
شيء في داخلي يطفو من أسفل المعدة ممزقًا الحجاب الحاجز، يدك الرئتين محاولًا نزع قشرة الجلد النيئة، متمثلًا في وجه شيخة الآخر، صارخًا بصوت لا يشبه البشر في شيء: «لماذا اعتبرتم العضو الانثوي إهانة وشتيمة؟».
لكن شيئًا لا يحدث، هدوء، وصمت، وقبول. القاعدة الاجتماعية هنا أنك تُجاري المعتاد حتى لا يقال عنك «نسوية نكدية»، لأن الوقت ليس مناسبًا للنقاش.
تقول الكاتبة النسوية سارة سالم: «الغريب في ظاهرة اتهام النسويات بالنكد أن عبء الإثبات يقع على النسويات».
«تجاهد النسويات لإثبات أنهن لسن غاضبات، ولسن مفرطات الحساسية، ولسن تحت تأثير الهرمونات (حائضات)، تقع علينا، كنساء وفتيات، مسؤولية إظهار دماثة أخلاقنا وقدرتنا على الفرح، وتأكيد أننا لن ننكِّد على أحد، وبالتالي أن نثبت أنه لا داعي للقلق منا، فنحن لن نسبب لك أي إزعاج حتى لو كانت لدينا آراء واضحة حول الجندر. هكذا ينتقل محور الحوار من النظام الأبوي، وأسباب غضب النساء، إلى النسويات أنفسهن ودورهن في تفادي الصدام».
مشهد يومي آخر: نزهة عائلية سعيدة، كل واحد منا يأخذ مقعده المعتاد في السيارة، أبي يتولى القيادة، أخي إلى جانبه، أمي في الخلف بعد أن تنازلت عن مكانها في الأمام لأخي فور أن وخط شاربه أعلى شفته، ونحن الفتيات دائمًا وأبدًا على المقعد الخلفي، وليس مقبولًا طبعًا أن تبدي إحدانا ملاحظة حول التمركز الأبوي وعلاقة أماكن جلوسنا بأدوارنا في العائلة.
أتذكر مقالًا للكاتبة الأسترالية من أصول باكستانية سارة أحمد، حول أماكن جلوسها وعائلتها إلى مائدة الطعام. يشبه الأمر تجارب معظمنا، فالأب على رأس المائدة والأولاد على طرفيها إلى جانبه، ثم الأم والبنات، وأي تعليق على توزيع مراكز السُّلطة في الأسرة سيخلق توترًا أنتِ سببه، ونقاشًا دراميًّا طويلًا تصبحين على إثره راعية النكد الأولى ومشيعة التعاسة في الوقت العائلي السعيد.
حين أعترض أو أبدي ملاحظة حول أي تمييز جندري أكون نسوية نكدية ومزعجة، والأسوأ تعليق «لا بد أنك تمرين بفترة الحيض»، التعليق الذي يسلبنا حقنا في المشاعر والغضب والانفعال، فنتجنب إظهار مشاعرنا حتى لا يُقال عنَّا حائضات، ونخشى أن نعكر الصفو ونخجل من التعبير عن إحساسنا.
«جعل الرجاجيل للماحي»
حين تعرِّفين نفسك بالنسوية، يفهم الجميع أنه ليس من السهل التعامل معك.
تقول النسوية والفيلسوفة الأمريكية «مارلين فراي»: «لو أظهرنا أي ملامح لا تعبِّر عن بهجة وسعادة، فنحن مُعرَّضات لأن يرانا الآخرون لئيمات أو مريرات أو غاضبات أو خطيرات».
بعد بروز الحركة النسوية العربية على مواقع التواصل الاجتماعي، عادت معها النقاشات حول الصورة النمطية للمرأة النسوية، تلك الغاضبة الكارهة للرجال، وبدلًا من مناقشة أصول الغضب والكراهية لدى بعض النسويات، يقع علينا عبء إثبات أننا لسنا جميعًا كذلك، ونحاول أن نتجاوز الكثير من الإشارات الجندرية حتى لا يقال إننا غاضبات على الدوام وحساسات، في محاولة لنفي الصورة السائدة وفي إنكار تام لمشروعية مشاعرنا.
قد يهمك أيضًا: أسئلة شائعة عن النسوية
تقول سارة أحمد: «حين تعرِّفين نفسك بأنك نسوية، يتم تصنيفك على أنك ليس من السهل التعامل معك، ويُفترض عليك أن تظهري للآخرين أنك لست صعبة، من خلال إظهار علامات النية الحسنة والسعادة».
«سأخبر الله بكل شيء»
توضح سارة أحمد أنه «حين تصبحين نسوية، يترتب على ذلك أن تصبحين واعية بكل الأشياء التي تسبب الاستياء. قد يُفهم الوعي النسوي على أنه الوعي بالاستياء والتعاسة، لقد وصلنا إلى هذا الوعي حين رفضنا أن نتجاهل ما يحدث».
مثل كثير من النساء، أضطر إلى إخفاء مشاعري حتى لا يُقال إني عاطفية، كأن المشاعر ليست جزءًا من تكويننا.
لا أذكر متى أصبحت نسوية، لكن أذكر جيدًا أني كنت ألاحظ التفرقة على أساس الجنس بيني وبين أخي في البيت، ثم بيني وبين الأولاد في الشارع. أتذكر أن مصطلح نسوية لم يكن جزءًا من هويتي، لكني كنت أعي أن التفرقة لن تكون جزءًا منها مهما كانت اعتيادية.
تضع الأنظمة الاجتماعية قوالب للمشاعر، إذ يجب أن تكون سعيدًا إثر حدث ما وتعيسًا إثر آخر، بغض النظر عن مشاعرك الحقيقية تجاه الأشياء، كأن يكون الوقت السعيد ليس سعيدًا بالنسبة لي، والنكتة المهينة ليست مضحكة، من حقنا إبداء مشاعرنا مثلما هي دون مبررات وقولبة، أو بالأحرى: من حقنا إبداء مشاعرنا أصلًا.
قد يعجبك أيضًا: تاريخ الصراعات الداخلية للحركة النسوية
مثل كثير من النساء، أضطر إلى إخفاء مشاعري حتى لا يُقال عني عاطفية، وكأن المشاعر ليست جزءًا من تكويننا الإنساني. تخبرني صديقة نسوية بأن «جزءًا من محاربتي للذكورية أن أُبدي مشاعري الحقيقية، فمحاولة قمعنا تبدأ بمعايرتنا بالعاطفية، رغم أن فهم أي شيء يبدأ بالإحساس به».