«التعليم هو إشعال الجذوة وليس ملء الوعاء».
هكذا نادى سقراط في أحياء أثينا التي كان شبابها يتحلقون في مجالس السفسطائيين (مدعيّ الحكمة)، ليتلقوا منهم مبادئ الحياة كما هي بلا تنقيبٍ أو استفزاز عقليّ للبحث والاستكشاف، حتى انتهى به المطاف بتجرّع السم في عملية إعدامٍ بشعة، بتهمة الإفساد.
فلماذا في هذا العصر الذي نفتقد فيه أبسط مقوّمات الحياة الثقافية ويكاد الوعي الجمعي يمارس على الأفكار قوّة التهميش، ويتوجّس منها خيفة، نبدو في أوج حاجتنا إلى المبادئ التي بنى عليها سقراط رسالته؟ ولماذا نخصّ هذا الفيلسوف الفقير بهذه الحاجة؟
السلطة المعرفية وإدراك الجهل
تصدمكَ أوّل الأعراض المتلازمة عندما تخوض نقاشًا أو تبادلًا معرفيًّا مع مثقف عربيّ، حين تلمح في عينيه إيمانه التامّ بمعرفته، فالمنظومة الفكريّة في عقله لا تقبل النقاش، ويجب عليكَ ألا تمسّ قدسيتها وإلا سينتهي بك الأمر ممطورًا بشتائم أو في أحسن الأحوال الإقصاء التام، فيبدو الأمر وكأنه عراكٌ عبثيّ يمارس فيه الفرد سلطته المعرفيّة على الآخر، هنا تمامًا يتنزّل الملاك السقراطيّ ليصرخ في وجوه مثقفينا «إني أعرف شيئًا واحدًا، وهو أنني لا أعرف شيئًا على الإطلاق!».
في ظلّ الزخم الفكريّ الذي كان يميز أثينا عام 430 قبل الميلاد، استنتج سقراط بعد أعوامٍ من الحيرة أن الإنسان يصعد إلى أعلى مراحل الحكمة البشرية حين يدرك جهله، ويعني بهذا جهله الحتميّ ومحدودية عقله، لا حالة عرَضية يستطيع أن يتخلّص منها. كان سقراط في مهمته الشريفة يحاور كل من يدّعي المعرفة صغيرًا أو كبيرًا، كما حدث مع الشابّ هيبوكرتيس حين تشدّق أمام سقراط «أعتقد أنني أعرف» وانتهى به المطاف في نهاية المحاورة إلى الاعتراف «بحقّ الآلهة ليس لديّ ما أقوله». فمن يخبرُ المعاصرينَ العرَب بهذه الحقيقة؟ من يبيّن لهم كم يبدو مظهرهم بائسًا/مضحكًا حين يدّعون معرفة كل شيء؟
الفرق بين فن النقاش و«العراك الشوارعي»
تنتقل رسالة سقراط للجزء الأهمّ، وهو آلية النقاش وسنّ قوانين منطقية عن طريق المقدمة، ثم التفنيد ثم الاستنتاج، عُرف بها أرسطو بعده، فهو يطرح حقيقة يؤمن بها الطرف الآخر، ليبدأ في دفع قارب المحاورة عن طريق تفنيدها بأسئلة بسيطة القالب، حتى يصل للاستنتاج في نهاية الجلسة.. في المقابل يكفي أن تشهد «مناظرة» عربية (مع تحفّظي عن هذا الاسم لأن مناظراتنا أقرب ما تكون إلى منصّة لتبادل السباب المُبطّن) ليتبدّى لك غياب آلية النقاش أو حتى التعاطي الصحيّ في بيئتنا الاجتماعية كلّها، فالفرد الذي، وإن كان نخبويًا، لا يستطيع أن يفرّق بين ذاته الثابتة ونسبية الأفكار المتشرّبة في نسيجه، سيعدّ أيَّ تفنيد لفكرته إهانةً لشخصه، ثم يدخل في دوّامة الأنا، في حين يُفترض أن يقارع الحجة بالحجة لإثبات أحقيتها في التبنّي، حتى إن كان وحيدًا بلا طرفٍ آخر. وهذا يفسّر لنا انزعاج الفيلسوف الفرنسيّ الراحل ميشيل فوكو في مناظرته الشهيرة مع تشومسكي، حين سأله المقدّم عن مسألة شخصيّة، فقال «هذا ليس ما نتحدث عنه! في تاريخ الأفكار والعلوم، هذه اللحظات التي أحياها كفرد ليست مهمة إطلاقًا».
الغاية الأسمى لفنّ النقاش، استفزاز العقول لإعادة فحص المسلّمات وغربلتها ليتبيّن الخبيث منها والطيّب، ونهبط بهذا الفنّ في دركات الجحيم حين نقلّصه إلى «عراك شوارع» يستطيع اقترافه أطفال الثامنة. يعي تمامًا سقراط هذه المنزلق الخطير فيكرر في مجلسه: "دعونا نتحصن من الإصابة، إذ أخشى أنني لا أبحث عن المعرفة، وإنما لكسب معركة الكلمات."
فمن يخبر العرب عن هذه القيمة التي قد تبدو بديهية للمُنظرين/المنعزلين؟ إنك إن لم تبدأ الحوار وأنت تردّد داخل رأسك: «ربما يكون الطرف الآخر محقًا»، فالأفضل ألا تبدأه على الإطلاق.
«بحق الآلهة، يا فيدون، أيمكن أن نثق بأفكارنا ثانية؟ كانت أفكارًا مقنعة وباتت الآن محل شك». يعترض إكراتيس في محاورة فيدون عن خلود الروح. إنّ هذا الانزعاج الذي أبداه إكراتيس في أثناء فحص المسلّمات، والانغماس في السلوك النقدي للأفكار، أحد أعراض الإصابة بـ«مرض النفور من الفكر» كما سمّاه سقراط، وهي تمامًا الحالة التي يُصاب بها شبابنا يومًا بعد يوم، فحين يزدحم المشهد أمامك بضجيج التيارات/المدارس الفكريّة ويتراشق أصحابها تناقضاتهم، قد يبدو اعتزال المشهد برمّته فكرة واردًا على الأذهان. وإذا أسقطناها على الصعيد الدينيّ، فظاهرة الإلحاد ما هي إلا أحد تجلّيات هذا المرَض الذي حذّر منه سقراط قبل ما يزيد على ألفين وثلاثمئة سنة، بدليل أنّ السواد الأعظم من الملحدين العَرب لا يعرفون أبسط الحجج المنطقية لإثبات الذات الإلهية كبرهان الإمكان والوجوب لعدم اتّباعهم منهجًا بحثيًّا يخوّلهم المرور بمرحلة شك موضوعية أيًا كانت نتيجتها، فهم يعيشون مجرّد نفور كليّ، لأسباب متفرّعة، ويظنونَ جهلًا أنهم دخلوا دائرة الإلحاد الحقيقي.
عالج سقراط نفسه والحاضرين من هذا المرض الذي تفشى مع ضوضاء الحراك الفكريّ اليونانيّ آنذاك، بعد أن أكّد لهم أن كراهية التفكير وعدم الثقة بالعقل، من أسوأ الأمراض التي يصاب بها الإنسان، وهي أحد أنواع الموت النفسيّ. ويصف لهم بدقة مراحل حدوثه: «يثق بعض من تنقصهم مهارة التفكير بأفكاره مؤمنًا بصحتها وصدقها، ويكتشف بعد فترة وجيزة أنها خاطئة. ثم يتكرر هذا الموقف مرات متعددة..».
في نهاية المطاف، وحين أُسدلت الستائر وأوشكت روح الفيلسوف الحكيم أن تخرج، التفت إلى صديقه كريتو، وقال كلماته الأخيرة «لا تنسَ أن تدفع الدَّين»، موصيًا بتقديم أضحية شكرًا للآلهة على هذا الشفاء الجماعيّ من المرض العضال.
إن حاجتنا لوجود سقراطٍ آخر، ليست من أجل فلسفة ميتافيزيقية أو رؤية مفاهيمية موجّهة لنُخب المجتمع، بل من أجل مبادئ وأسس نحن أحوج إليها في عصرنا الحاليّ، أكثر من أي شيء آخر، فبعد أن ننشر ثقافة إدراك الجهل لكسر حدة الغرور المعرفي، ثمّ نتعلم/نمارس آلية موضوعية لمحاوراتنا مستحضرين غاية هذا التعاطي الفكريّ، سنشق الطريق بادئين أولى خطواتنا في بناء حضارة فكرية لا نعرف أيًّا من ملامحها بعد.