أنغيلا ميركل: ملكة أوروبا الحديدية تتنازل عن العرش

الصورة: Getty/Andreas Rentz

محمود سعيد موسى
نشر في 2018/11/05

ربما كانت تلك المرة الأولى التي استخدمت فيها المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ألفاظًا غير حاسمة، وربما مبتورة غير محددة المعالم، مثل «النية» في التخلي عن قيادة حزبها، أو «احتمالية» استكمال فترة ولاية مستشاريتها، أو «مشاعر» مرت بها دفعتها إلى بدء المرحلة الجديدة، وذلك بعد سنوات طويلة من «استقرار» السياسات الألمانية، و«حكمة» قرارات حكومتها ذات «المعايير» المتسقة.

ففي صباح الاثنين 29 أكتوبر 2018، في أثناء مؤتمر صحفي أُطلق من العاصمة برلين، كشفت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، عن نيتها التنحي عن زعامة حزب «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» التي تقلدتها منذ 18 عامًا.

استندت رغبة ميركل المحتمَلة إلى خيبة أملها إثر الخسارات المُخزية المتلاحقة في الانتخابات الإقليمية المحلية عام 2018، مقارنة بآخر انتخابات إقليمية عُقدت منذ خمس سنوات. في أثناء الانتخابات الحالية، تواجه ميركل سقوط شعبية حزبها، ومنها انتخابات الولاية الأغنى اقتصاديًّا «هسن»، حيث تقع العاصمة الاقتصادية للبلاد «فرانكفورت»، وفيها أكبر مطارات ألمانيا.

انتابت ميركل مشاعر بأن الوقت قد حان «لبدء فصل جديد»، لتفسر حديثها بأنها تخطط لاستكمال فترة ولايتها في المستشارية حتى انتهائها عام 2021، في الوقت الذي تأكدت فيه نيتها عدم الترشح للمنصب مستقبلًا، بعدما اعتادت الذهاب صباح كل يوم إلى مكتب المستشارية لمدة 14 عامًا حتى لحظة إعلانها رغبتها غير المتوقَّعة، ولا تتوقع البحث عن أي منصب سياسي آخر، لتقطع الشكوك التي تحوم حول رغبتها في التقدم لمنصب في الاتحاد الأوروبي.

الصورة الحالية تبدو مهتزة ومشوشة لأقوى امرأة في العالم التي طالما أخفت الجانب الناعم لشخصيتها كي تُشبِع شهيتها للنجاح والتألق.

لكن طريق ميركل للنجاح لم يكن ممهدًا، وكانت الصعاب لها بالمرصاد. لكن في ذروة قوتها لم تكن تأبه الأشواك.

أشواك على الطريق

الصورة: Arno Mikkor

ما لبثت ميركل أن خرجت من الأزمة المالية الأوروبية التي ما زالت تعاني من أوزارها، لتواجه موجات اللاجئين إلى دول الاتحاد الأوروبي.

بعد عام واحد من رئاسة ميركل مجلس الاتحاد الأوروبي، أي 2008، تلاحقت موجات من الأزمات المالية كانت على وشك إغراق منطقة اليورو، أي الدول الأعضاء التي اعتمد فيها اليورو عملة رسمية.

تفاقمت الأزمة في جنوب أوروبا، وبخاصة في اليونان وأسبانيا، إلا أن ميركل تصدت للأزمة المالية بسلاح التقشف من خلال إلزام تلك البلاد بتخفيض الميزانية، والإشراف الدائم بهدف الحد من عجز الميزانية. تولت ألمانيا دفة عملية الإنقاذ لتتحول ميركل إلى القوة الدافعة لاستعادة الثقة في اليورو.

رغم تشبيه معارضي سياسات التقشف في البلاد المأزومة المستشارة ميركل بـ«هتلر»، فإن ألمانيا بدأ يُنظَر إليها كشريك حميم يقف إلى جانب حلفائه وقت الشدة.

حين بدأ كابوس الأزمة المالية في الانقشاع شيئًا فشيئًا، حثت ميركل شباب أوروبا على الانتقال إلى البلاد الأوروبية لإيجاد فرص العمل المناسبة، وبدت نبرتها أقل حدة بشأن التقشف حين أوضحت أن الهدف من تلك السياسات هو العودة إلى النمو الاقتصادي والاستقرار.  

ما لبثت ميركل أن خرجت من الأزمة المالية الأوروبية التي ما زالت تعاني من أوزارها، لتواجه موجات اللاجئين إلى دول الاتحاد الأوروبي. في عام 2015، أعلنت المستشارة الألمانية فتح أبواب ألمانيا ودعمها الملايين من أبناء بلدها. احتفت منظمة الأمم المتحدة بموقفها الإنساني النبيل، وكرمتها مجلة «التايم» الأمريكية باعتبارها قائدة الاتحاد الأوروبي ومستشارة العالم الحر.

في المقابل، لم يكن كل الألمان سعداء بإقرار سياسة الباب المفتوح. إذ عمد الحزب الشعبوي «البديل من أجل ألمانيا» ذو التوجهات اليمينية المتطرفة، إلى حشد الأصوات المعارضة في مسيرات مناهضة لوجود مسلمين على الأراضي الألمانية التي أصبحت شبه مستمرة، وخصوصًا في مدينتي ليبزيغ ودرسدن الواقعتين في شرق البلاد، مستغلين الهجمات الإرهابية المتطرفة التي وقعت في بلدهم، والاعتداءات الجنسية التي اقترفها بعض المهاجرين في أثناء الاحتفال برأس السنة، ليخسف بشعبية ميركل الأرض.

رغم إقرار ميركل بأنها اقترفت أخطاء فادحة باستقبال المهاجرين، وأنها تود لو يعود الزمن إلى الوراء من أجل تحضير بلادها بشكل أفضل يكفل استقبال التدفق الإنساني، فإن اعترافها بذنبها لم يكن نهاية قصة يعفو فيها معارضوها عما سلف.

منذ ولادتها كانت ميركل مثالًا للطموح ومواجهة الأزمات بكل ما فيها من عزم.

في سبتمبر 2017، في أثناء الانتخابات العامة الألمانية، تنامت قوة الحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» ليتحول إلى أكبر ثالث قوة سياسية داخل البوندستاغ بعد الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تقوده ميركل، لتتلقى أكبر تراجع شعبي في جميع مراحل الانتخابات الفيدرالية منذ 1949، والحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي كان يمثل قوة شعبية على الساحة السياسية الألمانية بعد حزب ميركل، لتنحدر شعبيته عن أي وقت مضى. وبعد معاناة استمرت نحو أربعة أشهر، نجحت ميركل في تشكيل حكومة ائتلاف.

تشكيل ميركل حكومة الائتلاف لم يكن نهاية قصة استعادت فيها بعضًا من شعبيتها، أو حتى قليلًا من الآراء المتقاربة، بل تشوهت صورة الحكومة بسبب رفض الناخبين لها في أثناء الانتخابات الإقليمية عام 2018.

بعد إعلانها عدم ترشحها لزعامة الحرب نهاية 2018، يبقى هناك توقعات بأن هذا القرار مجرد خطوة أولى نحو استقالة ميركل من منصب مستشارة ألمانيا، ما يعني احتمال أن تكمل مدة ولايتها الحالية، لتضع بذلك نهاية حياة سياسية حافلة.

الطريق إلى عالم السياسة

الصورة: Sven Mandel

ربما تكون ميركل قررت إنهاء مشوارها في عالم السياسة بتلك الطريقة التي لا تنسجم إطلاقًا مع بدايته. فمنذ ولادتها كانت مثالًا للطموح ومواجهة الأزمات بكل ما فيها من عزم.

ولدت «أنغلينا دوروثي ميركل» في 17 يوليو 1954 بمدينة هامبورغ التي تعد ولاية فيدرالية تقع شمال غرب ألمانيا، لأب يدعى «كاسنر» تعود جذوره إلى برلين، ويعمل قسًّا في الكنيسة البروتستانتية اللوثرية التي كانت ألمانيا أحد أهم مواطن انتشارها، ولأم تعمل مُدرسة للغتين الإنجليزية واللاتينية.

انتقلت ميركل مع أسرتها، حيث استُدعي والدها للرعوية في مدينة برلبرغ التابعة لولاية براندنبورغ التي تقع في ألمانيا الشرقية، المحتلة حينها من الاتحاد السوفييتي.

تحت الاحتلال السوفييتي، انهمكت ميركل في دراسة الفيزياء لمدة خمس سنوات في جامعة لايبتزغ التي تقع في ولاية ساكسونيا في ألمانيا الشرقية، لتستكمل دراستها، حتى حصلت على درجة الدكتوراة مختصة في «كيمياء الكم» عام 1986.

خلال فترة دراستها، تزوجت في عمر الثالثة والعشرين من زميلها «أولريش ميركل» عام 1977، ثم انفصلا بعدها بخمس سنوات دون أن تُرزق بأطفال، لكن لقبه ظل ملتصقًا بها. وفي 1998 تزوجت من أستاذها الجامعي «يواكيم سوير» في عام 1981.

في الجامعة انضمت ميركل إلى مجموعة صغيرة من زملائها في حملة لإعادة إعمار «مورتيزباستاي»، وهو الحصن الأخير من المعالم القديمة في مدينة لايبتزغ، والذي يعد الآن مركزًا ثقافيًّا عالميًّا. ثم انخرطت في نادي «الشباب الألماني الحر» المدعوم من حزب «الوحدة الاشتراكية».

البداية البارزة لميركل في عالم السياسة بُعيد ثورات انهيار الشيوعية عام 1989، حين اختيرت متحدثة باسم أول حكومة ديمقراطية منتخَبة في ألمانيا الشرقية عام 1990، بقيادة «لوثر دي مايتسيره». وبعد إعادة توحيد ألمانيا في العام نفسه، نجحت ميركل في انتخابات البرلمان الألماني (البوندستاغ) عن ولاية مكلنبورغ فوربومرن التي تقع شمال ألمانيا.

بسبب عملها الدؤوب وقدراتها المتنامية، عُيِّنت ميركل على رأس وزارة «المرأة والشباب» عام 1991، في حكومة المستشار الألماني «هلموت كول» الذي كان يشغل هذا المنصب منذ 1982 حتى 1990 في ألمانيا الغربية، ثم استمر في نفس المنصب بعد إعادة توحيد ألمانيا حتى 1998.

انطلاقًا من جدارتها التي أثبتتها في وزارة المرأة والشباب، انتقلت إلى قيادة وزارة «البيئة وحماية الطبيعة والسلامة النووية» عام 1994. في الوقت نفسه قويت شوكتها داخل الحزب الديمقراطي المسيحي، لتُعلِن منه عام 1998 خوضها الانتخابات الفيدرالية لانتخاب المستشار الألماني على يد أعضاء البوندستاغ.

تفكير ميركل في النجاح لا يتوقف حتى تصعد إلى القمة.

خسرت ميركل الانتخابات الفيدرالية عام 1998، لكنها اختيرت سكرتيرة عامة للحزب في العام نفسه. بعدها بعام واحد تربعت ميركل على عرش الحزب، إثر فضيحة تمويل وتبرعات فاحت رائحتها لتطيح برئيس الحزب «فولفغانغ شويبله» الذي يشغل حاليًّا منصب رئيس البوندستاغ.

منذ ذلك اليوم لم تبرح مكانها في قيادة الحزب. وربما اتخذت نفس قرار الاستقرار في منصب المستشارة منذ 2005، حين خسر أمامها المستشار الألماني «غيرهارد شرودر» الذي قاد البلاد من 1998 إلى 2005، مرشَّحًا عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي.

في 2007، ترأست ميركل المجلس الأوروبي الذي يجمع رؤساء دول أو حكومات البلدان الثماني والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وترأست كذلك مجموعة الثماني التي تضم الدول الصناعية الكبرى في العالم. وفي العام نفسه، مهَّدت للمناقشات التي تمخَّض عنها إعلان برلين الذي يعد حجر الأساس لاتفاقية لشبونة الذي وحَّد صوت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بشأن السياسات التي يجب إقراراها بالإجماع داخل مجلس الاتحاد الأوروبي، وبتلك الاتفاقية اعتمد اليورو عملة رسمية داخل الاتحاد الأوروبي.

تفكير ميركل في النجاح لا يتوقف حتى تصعد إلى القمة في نهاية الأمر. على مستوى دراستها الجامعية حصلت على درجة الدكتوراه، وعلى مستوى حزبها اعتلت رئاسته، وعلى مستوى البوندستاغ صعدت إلى قمته، وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي نجحت في توحيد صوته. لكن طريق النجاح دائمًا ما يكون مليئًا بالأشواك والعثرات، وقرارها بالرحيل عن عرش أوروبا خاتمة قد يعصف بكل تلك النجاحات في لمح البصر.

مواضيع مشابهة