مع الأحداث التي يعرفها الريف المغربي، والمقصود هنا ما سُمِّي إعلاميًّا «حِراك الريف»، تبرز لنا مجموعة معطيات مغرية للبحث والتعرف، خصوصية يختلف فيها شمال إفريقيا عن باقي الدول العربية، حتى أكثرها تنوعًا طائفيًّا، فقد حملت بعض الشعارات المرفوعة خلال الاحتجاجات التي عرفتها منطقة الريف المغربي، ذات الأغلبية الأمازيغية، حمولة عِرقية متأثرة بالتوتر بين الأمازيغ والعرب.
ذلك التوتر تجذَّر منذ أول توسع للعرب في شمال إفريقيا تحت الحكم الأُموي في القرن الأول الهجري، لكنه لا يزال حاضرًا في حديث من يدافع عن «الهوية الأمازيغية»، بينما يحتار المتابع للشأن المغاربي في تمييز العِرق بين عموم شعوب المنطقة، ويعاني حيرة أكبر عندما يستمع إلى مقارنات بين «احتلال أوروبي» و«احتلال عربي»، وهو ما يخرج عن المعقول بالنسبة إليه، وكذلك المقارنة بين حال اﻷكراد وحال الأمازيغ، وغيرها من المواقف المتشددة التي تُسمع بين فترة وأخرى من مدافعين عن الهوية الأمازيغية.
من المريح أن ننسب هذه المواقف إلى أصحابها دون أن نعمم، موقنين أن العامة تخالف كثيرًا من هذه الآراء الطائشة، لكن تبقى راديكالية كهذه، رغم انحسار رقعة سيادتها كفكرة، كفيلةً بأن تشكل تصورًا مناقضًا في الجهة الأخرى، جهة المتحمسين العرب، أو بالأحرى من يخالون أنفسهم عربًا في وجه «الآخر» الأمازيغي، ممَّا يحيلنا إلى وضعية احتقان ثقافية وتطاحن سياسي تفسَّر، عن غباء وسطحية، بأنها نزعة عرقية، وفي وجه هاته الوضعية نكتب:
تامزغا وطنًا، والأمازيغ شعبًا
يتذكر كل مغربي تلك الجملة الشائعة التي كنا نفتتح بها أول دروس التاريخ في المدارس الإعدادية، القائلة بأن «سكان المغرب الأوَّلون هم البرابرة». جملة كهذه، ورغم بساطتها المعرفية، فإنها تحمل ثقلًا أيديولوجيًّا يعبِّر عن موقف النظام من الهوية الأمازيغية.
لفظ البرابرة له جذور تعود إلى المدنية اليونانية، التي كانت تعتبر أي إنسان خارج نطاقها المتحضر بربريًّا همجيًّا، وصولًا إلى الاستعمار الأوروبي الحديث الذي لم يجد في لغته ما يدل على شعوب المغرب سوى مفردة «Bérbére»، التي حوفظ على استعمالها بعد التعريب من الأنظمة الحاكمة، بينما يؤكد أصحاب الأرض اسمهم الأصيل «إيمازيغن»، الذي يقابل في اللغة العربية «الرجال الأحرار».
لم يخلُ تاريخ الأمازيغ من قيادات ودول وحدوية، كان أكبرها امتدادًا وأكثرها تعميرًا مملكة نوميديا والدولة الموحدية.
تعددت أسماء الأمازيغ عند الشعوب المحيطة بهم، فبينما أُطلق عليهم «البرابرة» عند الإغريق والرومان، سماهم قدماء المصريين «الليبو»، إشارةً إلى المنطقة الممتدة شرق مصر الفرعونية. ووردت أخبارهم عند المؤرخين القدامى، وعلى رأسهم هيرودوت، الذي أكد أن تلك الأرض كانت «مأهولة بأربعة شعوب لا أكثر: شعبان أصيلان وشعبان أجنبيان. الأصيلان هم الليبيون والأثيوبيون، يستوطن أحدهما شمال ليبيا والاَخر جنوبها. الأجنبيان هما الفينيقيون والإغريق».
نظم الأمازيغ وجودهم على الأرض عن طريق دول ذات بِنًى قَبَلية، وكان اتصالهم الأكبر مع الشعوب الأقرب إليهم والتي تنازعهم المجال الجغرافي، وأقصد هنا المصريين القدماء، الذين عاشوا حقبة من تاريخهم تحت قيادة أمازيغية، أسسها القائد «شيشنق» بعد انتصاره على جيش «رمسيس الثالث» عام 950 قبل الميلاد. حادثة كهذه جُعِلَت، في ما بعد، أساسًا لتقويم أمازيغي لا زالت شعوب شمال إفريقيا تحتفل برأس سنته (الناير) كل يوم 12 من شهر يناير.
لم يخلُ بعدها تاريخ الأمازيغ من قيادات ودول وحدوية، كان أكبرها امتدادًا وأكثرها تعميرًا الدولة الموحدية ومملكة نوميديا. ولم تخلُ ذاكرة الشعب في نفس الوقت من فواجع المحتلين الذين أغاروا على أرض تامزغا، من إغريق ورومان ووِندال (قبائل جرمانية) وعرب، كل هذه الحضارات على اختلافها واختلاف مساعيها وحقبها الزمنية توحدت على الرغبة في سيادة الجغرافيا الشمال إفريقية.
في المقابل، حمل الأمازيغ هَمَّ المقاومة وقدموا أبطالًا قوميين دافعوا عن أرضهم في وجه الغزاة، فخَلَّدَهم التاريخ، وبقيت ذكرى «ماسينيسا» و«يوغرطة» و«يوبا» و«ديهيا» قائمة، وعلى غرارها حلم الوحدة الأمازيغية.
الهوية الأمازيغية: بين اللغة والدين
اختلفت الأقوال والآراء العلمية حول التأصيل للغة الأمازيغية، فيقول الأستاذ مرزوق الحقوني في بحثه المعنون «اللغة الأمازيغية بين المعيارية والوصفية» إنه «لحد الآن لم يتفق الباحثون على أصلها وعائلتها، فمِن قائل إنها لغة أفروآسيوية حامية حُكمها حكم اللغة القبطية، ويرى الدكتور أحمد المدلاوي أنه لا يمكن اعتبار اللغة الأمازيغية متفرعة مباشرةً من اللغة السامية، بينما يرى أحمد بوكوس أن الأمازيغية ليست حامية ولا سامية، وإنما لغة مستقلة بذاتها».
من الصعب تحديد أصل واضح معلوم وعائلة لغوية للغة الأمازيغية، على غرار لغات أخرى مثل العربية أو العبرية، لكنها كلغة لها أساس موجود ومؤكد، بحسب ما يحكي لـ«منشور» الباحث في الثقافة الأمازيغية «مادغيس ؤمادي».
يوضح ؤمادي أن اللغة الأمازيغية تطورت وتفرعت خلال ثلات سياقات متوازية: السياق الأول أنها نَحَت نحو كل لغات العالم في الانتقال من لغة موحدة إلى لهجات تبقى أقرب إلى بعضها أكثر من اختلافها، أما السياق الثاني فأن تلك الوحدة المعجمية تبقى حاضرة رغم الاختلافات في النطق.
على سبيل المثال، يختلف في اللهجات العربية نطق كلمة «رجل»، من «رَيَّال» عند الكويتيين إلى «رجَّال» عند الشوام و«رَاجْل» عند المغاربيين و«راجِل» في مصر، بَيْدَ أن جذر الكلمة الفصيح يبقى محفوظًا، تمامًا كما في الأمازيغية، فالرجل في اللهجة الليبية «أرگاز»، أما أمازيغ مزاب في الجزائر فينطقونها «أرجاز»، وفي الأطلس المغربي «أرياز».
السياق الثالث هو الوعاء الطبيعي والبيئي الذي تختلف فيه كل منطقة من بلاد الأمازيغ بمصطلحات خاصة وتسميات خاصة بكل لهجة لأشياء توجد في محيطها وتُفقد في محيط أمازيغي آخر.
في ظل هذا الوضع اللغوي، ناضل الأمازيغ ويناضلون في كل بقاع وجودهم التاريخية حول مطلب ترسيم اللغة، الذي انتصر في ثلاث دول إلى حد الآن، هي المغرب وتونس والجزائر.
صارت الأمازيغية، التي يتحدثها أزيد من 66 مليون نسمة بحسب تقارير المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لغة أكاديمية معترفًا بها ومادة دراسية أساسية في مقررات تلك الدول، موحدة، مقروءة، مكتوبة. وبجهود الباحثين، أُعيد إحياء حروف الكتابة الأمازيغية (تيفيناغ)، التي صارعت الاندثار عند أمازيغ الصحراء «إيموهاغ»، وطُوِّرت لتكون معاصرة للصياغة اللغوية الجديدة.
تقاتل الأمازيغية، كلغة وكهوية، للبقاء في وجه محاولات طمسها داخل مجال عروبي إسلامي موحد، وكذلك ضد المغالطة التاريخية التي أسَّس لها المستعمر، التي تَعُد كل ما دَوَّنَه الأمازيغ عربيًّا.
هذا ما يوضحه أكثر أستاذ الأنثروبولوجيا السياسية في جامعة محمد الخامس بالرباط، مصطفى قدري: «في دراسات الاستشراق حدث خلط بين ما هو عربي (أي كتبه عرب) وما هو مكتوب بالعربية (وإن كتبه أمازيغ)، فاعتبروه عربيًّا»، ففي الإنجليزية يُقال «Arabic Manuscript» أي «بالعربية»، أما في الفرنسية فيقولون «Manuscrit Arabe»، وتعني في نفس الوقت «عربي» و«بالعربية»، وهنا أصل التمييز بين ما خلَّفه العرب في شمال إفريقيا.
يشرح قدري لـ«منشور» أن هذا خطأ فادح وربما يكون مقصودًا، فما كُتب بالعربية من طرف الأمازيغ هو ما اعتبره الفكر الاستعماري عربيًّا، ليبني أسطورة البربر الهمج الذين لا يزالون كما تركتهم روما، وكأن الأُسَر المتعاقبة خلال الفترة الإسلامية، بعد الفاصل الأُموي، لم تكن أمازيغ، وهم كذلك كالمرابطين والموحدين والحفصيين.
رغم وجود مشاحنات تجعل من بعض المدافعين عن القضية الأمازيغية يقفون موقفًا سلبيًّا من الدين، وتجعل المعارضين العرب يرفضون وجود أصل أمازيغي منصهر داخل الأمة العربية الإسلامية، فالصواب التاريخي وواقع الحال ينفي وجود أي قطيعة بين الاثنين، بل يبين تمازجًا متجانسًا داخل المجال الجغرافي في مجتمع واحد هويةً وثقافةً، نتاجًا للسياق التاريخي الذي عاشته، إذ كان الأمازيغ أكثر تشبثًا بالدين وأكثر إبداعًا في قراءته، في حين عرف الدين بحد ذاته ازدهارًا ونهضة في المجال الأمازيغي وفي تلاقُحِه مع الوعي الثقافي لأصحاب الأرض.
بنفس الطريقة، تعامل الأمازيغ مع الديانات التي سبقت الإسلام، فكانوا منذ القدم مبدعين لدينهم وآلهتهم الخاصة خلال عهود الوثنية، كما ابتدعوا في الديانات السماوية مذاهب مميزة مثل «الأريوسية» والكاثوليكية، والأخيرة أُسِّست على يد القديس «أوغسطين» أمازيغي الأصل، بل وكان الأمازيغ مبدعين حتى لديانات كتابية اندثرت مثل «البرغواطية»، التي كانت مزيجًا من اليهودية والإسلام.
لا زلنا على الطريق
تولَّدت الأنظمة ما بعد الاستعمارية، سواء في تونس أو الجزائر أو المغرب، عن وعي وطني يقوم على أساس الهوية العربية في وجه الهوية الاستعمارية، وتشاطرت حركات التحرر المغاربية هذا الوعي مع امتدادها المشرقي الذي لم يختلف حاله عن حالهم، ممَّا جعل تلك الدول وهي مستقلة تُهمِل هَمَّ ثالوثها المقدس: الدين، والهوية، والسيادة الوطنية، وهذا ما يفسر نزوعها إلى التعريب كجزء من التصفية النهائية لمخلفات الاستعمار.
هذا من دون إغفال عوامل تاريخية كرَّست فكرة المغرب العربي الكبير في أيديولوجية الدول الحاكمة، نفسها العوامل التي جعلت أمازيغ أوربة (قبيلة) يحتضنون إدريس الفار من خناجر بني عمومته، يزوجونه نساءهم، يبايعونه أميرًا لهم، وهي كذلك العوامل التي جعلت أمازيغ سجلماسة يستغيثون ببركة المولى علي الشريف، سليل الدوحة النبوية، ليستقر بينهم ويكون أبًا للدول العلوية الحاكمة في المغرب حتى اليوم، ذلك التقديس لما أتى به الشرق من وهج النبوة.
سمَّت فرنسا من استسلم لها من الأمازيغ «عربًا»، ومن لم يخضع إلا بعد حروب بـ«القبائل».
كان للاستعمار دور في التجريم الذي لحق أي مطالبات بإعادة الاعتبار للهوية الأمازيغية، بعد ما حملت الشعوب هَمَّ التحرر والمقاومة المسلحة عربًا وأمازيغ، وتوحدت قبائل مِن كل الأعراق على ضرورة دحر المحتل، وتصدر للقيادة رجال أمازيغ لم تكن لهم نظرة تفرقة بين أبناء الوطن، مثل القائد سيدي عبد الكريم الخطابي، وشهيد الثورة الجزائرية البطل العربي بن مهيدي.
راهن المحتل على الفصل العِرقي بين العرب والأمازيغ واستمالة طرف ضد آخر لضمان وجوده وسيادته على المنطقة، وما الظهير البربري إلا مثال على ذلك، أما بالنسبة إلى الجزائر، فيعود مصطفى قدري لتأكيد أن «قصة الأعراق مرتبطة بالسياسة الاستعمارية ككُل، من خلال نظرية الأبيض والأسود والأصفر، فالأبيض في الأعلى، ونفس الشيء في المستعمرات».
في شمال إفريقيا عملت فرنسا على خلق فئات، بدأت في الجزائر باستمالة جيش الترك «الكراغلة»، ثم قبائل «الانتجاع» من أصل بني هلال وسليم (قبائل عربية)، وكذلك استمالة أصيلي الأندلس من «الموريسكيين». إنها الفئات التي سمَّتها فرنسا «العرب»، ووَسَمَت كل من لم يخضع لها إلا بعد حروب بـ«القبائل»، بما في ذلك الأمير عبد القادر، الذي انهزم وأصبح صديقًا لإمبراطور فرنسا.
ورثت منطقة زواوة تسمية «القبائل» لأنها كانت آخر من استسلم في عام 1859، لكنها انتفضت بعدها في 1871 فعوقبت أشد عقاب، ونُفِيَ زعماؤها إلى كاليدونيا الجديدة شرق أستراليا، ومن ثَمَّ بدأت سياسة استمالة المنطقة عن طريق المدارس والانخراط في الجندية، مثلما فعل الاستعمار في مناطق أخرى، خصوصا في الغرب.
سياسات بهذا الخبث قدمت لسلطات ما بعد الاستعمار ذريعة تقمع بها أي مطالبة برد الاعتبار وإثبات الهوية الأمازيغية هويةً رسميةً لأي منطقة.
المطالب الأمازيغية حملتها على عاتقها حركات ثقافية، سرعان ما تحولت إلى تنظيمات سياسية نقابية، لعبت دورها التاريخي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وجوبهت وقُمعت في كل أقطار الأرض المغاربية، فمِن ربيع القبائل الدامي في الجزائر عام 1980 إلى معتقلي الحركة الثقافية الأمازيغية في المغرب، توحدت الأنظمة على رفض حراك الأمازيغ رفضها لأي حراك شعبي من الشارع، سواء كان يساريًّا أو إسلاميًّا أو أمازيغيًّا.
قد لا يضع تمحور الأمازيغ حول مطالب واضحة، مثل ترسيم دستورية اللغة والهوية، نهاية سعيدة سريعة لمشكلاتهم، لكنه قد يحول نضالهم أكثر إلى نضال عملي معرفي ممنهج لتنزيل هذا الاعتراف القانوني الرسمي، دون السقوط في الغُلُوّ الشوفيني والراديكالية العِرقية، التي تحوي كثيرًا من التناقض في ذاتها.
الهوية المغاربية في آننا هذا مركَّبة من مزيج عربي أمازيغي، خليط اجتماعي سنعجز عن إيجاد عِلَّة تميز عربه من أمازيغه، مادام معيار اللغة ضائعًا بين قبائل أمازيغية تعربت وقبائل عربية تتوارث اللسان الأمازيغي أبًا عن جد، وما دام المعيار الجيني مستحيلًا في ظل اختلاط أنساب دامَ لأزيد من 12 قرنًا. يبقى سكان شمال إفريقيا ذوي هوية خليط بين الأمازيغية والعربية، خليط متماسك، عبثًا تكون محاولات فصله أو المراهنة على شرخه من الداخل.