عساكم من عُواده: سر خلود الكليشيه

الصورة: Bala Maniymaran

دينا ظافر
نشر في 2018/05/04

«الكليشيه» عدو الإبداع، وفق الاعتقاد المعاصر الذي يحكم نظرتنا إلى اللغة في مجال الأدب والتفاعلات الإنسانية التقليدية. كلمة كليشيه (cliché) أصلًا تشير إلى العبارة التي كانت مثيرة ولها معنًى، لكنها فقدت قيمتها من فرط استخدامنا لها.

دائمًا ما يهاجم الناس الكليشيات، ويعاملون الكليشيه على أنه فشل لغوي ذريع: الكليشيه عائق أمام التعبير الصادق، الكليشيه لا يقدم سوى عاطفة عادية، ولهذا ينبغي تجنبه مهما يكن الثمن، أليس كذلك؟

يستعرض مقال نُشِر على موقع «Aeon» سر استمرار الكليشيه رغم نبذه في الاستخدام الأدبي وكثير من المواضع اللغوية.

عساكم من عُواده: الكليشيه باقٍ

الصورة: kaboompics

الكليشيه من وسائل الاتصال، وتبادل بطاقات المعايدة في المناسبات مثلًا نموذج مضاد لهذا الموقف المعادي للكليشيه. فالكليشيه روح بطاقات المعايدة، وتظل الرسائل التي تحملها تلك البطاقات متكررة، ورغم هذا تظل قابلة تمامًا لإعادة الاستخدام، وهذه أمثلة:

«خالص العزاء وصادق المواساة»

«تمنياتي بالشفاء العاجل»

«حظًّا سعيدًا»

«زواج مبارك.. بالرفاء والبنين»

«أحبك»

«عيد ميلاد سعيد»

«كل عام وأنتِ بخير»

«عساكم من عُواده»

الكليشيه دليل مادي على ضعف القدرة على التعبير والصياغة الذي تعانيه التجربة الإنسانية.

ليست هناك علامات تشير إلى أن استخدام الكليشيهات في بطاقات المعايدة في سبيله إلى الاندثار. وحتى مع  الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، ما زالت بطاقات المعايدة تشكل صناعة ضخمة، وينقل المقال أنه في الولايات المتحدة وحدها يباع نحو 6.5 مليار بطاقة معايدة سنويًّا.

الكليشيه فجوة بين اللغة والحياة

الصورة: Řaj Vaishnaw

تصبح بطاقات المعايدة الاختيار الأمثل في بعض الأحداث الأكثر أهمية وصعوبة في حياتنا، فالغريب أن هذه اللحظات التي تفيض بالمشاعر لا تجيد فيها اللغة التعبير عن مشاعرنا الصادقة، وبدلًا من ذلك تنكسر اللغة، وينكشف عجزها عن التعبير عن ما نريده منها.

الكليشيه بديل لما نفشل في التعبير عنه. وسواء وجدنا بطاقة عليها الرسالة الكليشيه التي تؤدي الغرض المطلوب أو كتبناها نحن بأيدينا، فإن الكليشيه يظهر عندما تعجز الكلمات. وبهذا يكون دليلًا ماديًّا على ضعف القدرة على التعبير والصياغة الذي تعانيه التجربة الإنسانية، ما يلقى الضوء على الهوة بين اللغة والحياة.

هذه الفجوة صغيرة وكبيرة في الوقت نفسه، وفق الكاتب. إنها صغيرة لأن اللغة هي الوسيلة التي يواجه بها البشر العالم، مثلما قال الشاعر الأمريكي «روبرت دَنكان»: «لغتنا البشرية هي الأرضية التي نشترك عبرها في تلك اللغة الأكبر التي كُتِبَ بها الكون». وهي فجوة كبيرة أيضًا لأن هذا التشارك هيكل تصوري شكَّله البشر لفهم الحياة، فاللغة دائمًا كذبة فُرِضَت على واقع من الصمت.

اللغة أداة تعميم قاتلة

الفيلسوف الألماني «جورج هيغل» اعتقد أن اللغة تقتل الأشياء الحية التي تسميها. فعندما نتحدث أو نكتب، فالأسماء التي نستخدمها تضع الشيء أو الفرد الذي نتحدث عنه تحت تصنيف عام.

حين نسمي «شجرة» أو «قطة» أو «حزن»، فإننا نضرب عرض الحائط بتفرُّد كل شيء من هذه الأشياء حين نصنفه مع كل الأشجار، أو القطط، أو لحظات الحزن الأخرى السابقة واللاحقة. إدراج هذه المشاعر والأشياء في السجل التاريخي للمنهج الفكري للغة يمثل عنفًا مزدوجًا: فهو رفض للاعتراف بتفرُّد الشيء أو الشعور، وتسليط للضوء على فناء ذلك الشعور أو الشيء وحتمية هلاكه.

بهذا الشكل تبدو اللغة كما لو كانت تعيش على قتل الأشياء التي تتعلق بها، فاللغة تمهد الطريق الذي من خلاله ننفذ إلى العالم، وفي نفس الوقت تدمر الحياة عند إعمالها.

لا يمكن إسكات اللغة مهما تفشل

قد تدعونا هذه الرؤية، وفق الكاتب، إلى تفضيل السكوت، لكن هذا غير ممكن.

مهما ترتكب اللغة من عنف ضد الحياة، ومهما يكن حجم الفقد كبيرًا بحيث يفرِّغ أي كلام من معناه، ستظل اللغة حتمًا باقية، كما قال الشاعر الألماني «باول تسيلان». 

تسلط العبارات الكليشيه مثل «أحبك» و«خالص التعازي» الضوء على هذا الإخفاق المزدوج الذي سبقت الإشارة إليه، فاللغة دائمًا ما تفشل، لكن يستحيل إسكاتها. ويتضح هذا المعنى جليًّا في بطاقات المعايدة التي تحمل جملة «تعجز الكلمات عن وصف ما أشعر به». الجملة صحيحة، لأن لها معنى ينبغي التعبير عنه، لكن التعبير نفسه يُبطل معناها. هذه هي الورطة التي تواجهها اللغة بشكل مستمر.

الكليشيه انتصار لقوة الحياة

الصورة: jill111

وظيفة التعبير اللغوي لا يمكن أن تُختَصَر في المقدرة اللغوية، أو الإبداع، أو موسيقية الكلمات. محاولة وضع عناصر التجارب الإنسانية الثرية في قوالب من الكلام المعسول تعني أننا غير واعين لأهم شيء مفقود: ذلك النقص الذي يجعل اللغة خرقاء ثقيلة. بطاقات المعايدة والكليشيه هما الشاهدان على أن أكثر الأمور تفاهةً وأعمقها في المعنى يلتقيان، وأن هناك أشياء ستظل دائمًا بعيدة عن متناول الكلمات. الكليشيه مكان تتحدى فيه الحياة اللغة.

يقول الكاتب إنه من خلال الاعتراف بالخلل الفظيع الذي يعتري اللغة، يستطيع الكليشيه تحسين أثر الضرر الذي تُحدثه. العودة المستمرة إلى العبارات الجاهزة للاستخدام تذكرنا بأنه رغم قدرة اللغة على قول «أحبك» أو «أفتقدك»، وهما كلمتان تربطان الحب والحزن اللذين نشعر بهما بكل هؤلاء الذين أحبوا أو حزنوا قبلنا، أو سيحبون أو يحزنون بعدنا، فإنها، أي اللغة، لا يمكنها أبدًا أن تعبِّر بشكل كامل عن «هذا الحب» أو «هذا الحزن» بالذات. وبهذا تصبح عالمية الحب أو الحزن الذي نشعر به أشبه بفعل مجتمعي لا فعلًا مفاهيميًّا، يضعنا في مجتمع يشمل الأحياء والموتى.

تذكرنا بطاقات المعايدة بأن كثيرًا ما يستطيع كل ما هو كليشيه وعادي أن ينقض نسيج اللغة، وينعش الحياة التي ستظل دائمًا أكبر من أن تصفها الكلمات.

مواضيع مشابهة