ما الذي يدفع قوات عسكرية إلى اغتصاب النساء أو إحراق القرى أو قتل المدنيين العُزّل؟ هل يفشل مرتكبو هذه العمليات في الاعتراف بالإنسانية المتأصلة في ضحاياهم؟ أم أن أعمالهم تتعدى المبادئ الأخلاقية، وتصير فائضًا لا يمكن إرضاؤه إلا بمعاقبة إنسان آخر؟ هذا هو ما يناقشه مقال منشور على موقع «aeon».
درجات العنف
تجريد شخص ما من إنسانيته يجعلنا لا نبالي بحاله، لكنه لا يفسر الرغبة في تعذيبه، والبهجة المتحققة عند بعضنا من مشاهدته يعاني.
هناك تفسير سائد يقدّم عند كل محاولة لفهم أعمال العنف الممنهج هذه، هو أن الجُناة يعتبرون ضحاياهم حيوانات أو أشياء لا قيمة لها، لذلك فهُم نادرًا ما يشعرون بالندم على أفعال الإساءة والتعذيب والقتل التي اقترفوها، لأن من السهل عليهم إيذاء حيوان أو كسر شيء ما، عكس ما هو عليه الحال بالنسبة لبقية البشر.
قُدِّمت هذه الذريعة، أي التجريد من الصفات الإنسانية، لتفسير أعمال عنف مختلفة، من هولوكوست النازي إلى إساءة معاملة سجناء أبو غريب، وصولًا إلى التطهير العرقي الحالي ضد أقلية الروهينغيا، لكن دراسة حديثة تشير إلى أن هذا التفسير ليس صحيحًا.
تجريد شخص ما من إنسانيته يجعلنا لا نبالي بحاله، لكنه لا يفسر الرغبة المتولدة في تعذيبه، والبهجة المتحققة عند بعضنا من مشاهدته يعاني.
لفهم الرغبة في إحداث الألم والمعاناة، يقترح المقال أن ننظر إلى مجال الأخلاق. فبينما يسمح لنا تجريد الناس من الصفات الإنسانية بارتكاب أعمال عنف تخدم غايات محددة ضدهم، مثل أن يطلق مسلح النار على شخص غريب من أجل سرقة محفظته، يختلف الأمر عند الحديث عن العنف الأخلاقي.
هذا النوع من العنف يهدف بالأساس إلى إيذاء الآخر الذي نرى أنه يستحق ذلك، يستحق كل هذا الألم والمعاناة، وبالتالي فإن تعريضه لها مبرر، مثل إطلاق النار على مغتصب أطفال، أو تعذيبه بقسوة.
ولا يظهر هذا النوع من العنف إلا عندما يعتَبر مرتكبُه ضحيته قادرة على التفكير والشعور والإحساس، ويحاول بالتالي استخدام كل هذه الخصائص، التي تعني أن العدو إنسان يشعر مثله تمامًا، في تعريض هذا العدو للألم، الذي من المؤكد أنه سيشعر به، أي أن المعتدِي يستخدم إنسانية المعتدَى عليه، التي يدركها جيدًا، لتعريضه إلى مزيد ومزيد من الألم.
لا يعني هذا أن مرتكبي العنف الأخلاقي لا يعتنقون آراء عنصرية منفرة تعتبر الآخَر كائنًا من الدرجة الثانية، إذ إنهم قد يلجؤون إلى إهانة ضحاياهم ومقارنتهم بالحيوانات. ومع ذلك، بينت الدراسة التي ينقلها المقال أنه لا يوجد ارتباط مباشر بين تجريد الضحايا من الصفات الإنسانية وبين العنف الأخلاقي.
قد يعجبك أيضًا: لماذا تتقبل المرأة العربية عنف الرجال؟
العنف الأخلاقي المبرر
الأمريكيون الذين رأوا أن المدنيين العراقيين أقل إنسانيةً منهم، كانوا أكثر دعمًا للهجمات التي تشنها الطائرات بدون طيار، التي يزيد احتمالات سقوط قتلى فيها.
سأل الباحثون المشاركين في تلك الدراسة عن مدى موافقتهم على مجموعة من الممارسات العنيفة، مثل إعدام القتلة، ثم سألوهم عن ضحايا تلك الممارسات، عن قدرتهم على التفكير والشعور بالألم والمعاناة، وكذا قدرتهم على الحب والرحمة والكراهية والغضب، لتحديد ما إذا كانوا يعتقدون أن هؤلاء بشر مثلهم، بغض النظر عن آرائهم السلبية عنهم.
وجدت الدراسة أن تجريد الضحايا من إنسانيتهم يصب في خانة دعم العنف الهادف الذي يُرتَكب لغايات محددة، لكنه لا يتدخل في مجال العنف الأخلاقي.
فعلى سبيل المثال، الأمريكيون الذين رأوا أن المدنيين العراقيين أقل إنسانية منهم، كانوا أكثر دعمًا للهجمات التي تشنها الطائرات بدون طيار في العراق، لأنها من المتوقع أن تُسقط مزيدًا من القتلى. لا أحد يدعم قتل الأبرياء في هذه الحالة، لكن إذا ماتوا كضرر جانبي في أثناء تعقب إرهابيي داعش، حينها يساعد تجريدهم من إنسانيتهم على تخفيف حدة الذنب المتولد من دعمهم لتلك الممارسات.
على النقيض من ذلك، كان تجريد إرهابيي داعش من إنسانيتهم غير ذي تأثير في ما يتعلق بمدى دعم المشاركين في الدراسة لضربات الطائرات بدون طيار، ذلك أن الناس «يريدون» إيذاء الإرهابيين وتصفيتهم، فبدون إدراك هذه الإنسانية في الأعداء، لا مجال لإدانتهم، ولا يمكن أن يشعروا بالألم الذي رأى المشاركون أنهم يستحقونه.
في تجربة أخرى ينقلها المقال، طُلب من المشاركين أن يتخيلوا أنفسهم يؤذون شخصًا ما، إما مقابل المال أو كعقوبة على فعل لا أخلاقي.
بيّنت النتائج أن المشاركين في التجربة قلّ تأييدهم لكسر إصبع شخص ما مقابل مليون دولار عندما أُضفي طابع إنساني على ذلك الشخص، فرفض عديد منهم كسر إصبعه ولو حتى مقابل مبلغ كبير كهذا. لكن استخدام لغة مغايرة، بإخبارهم أن هذا الشخص قواد يستغل الفتيات القُصّر في الدعارة، تسبب في زيادة دعمهم لإيقاع الأذى المباشر عليه.
قد يهمك أيضًا: العالَم لا يشعر بالتعاطف.. على الأقل جزء منه
تزيد قابليتنا لممارسة العنف، كبشر، في حالة وجود الأخلاق كعنصر أساسي في الموضوع.
يعتقد كثير منا أن العنف مصدره انهيار المُثُل الأخلاقية، الذي يجعلنا نتعامل مع الآخرين ككائنات لا تستحق الحياة، لذا فهم يزعمون أن استعادة إحساسنا الأخلاقي، بالتعاطف مع الضحايا واعتبارهم مساوين لنا، كفيل بالقضاء على العنف بصفة نهائية.
لكن هذا ليس صحيحًا، ففي حالات عنف كثيرة، وجدنا أن فك الارتباط مع الآخَر بتجريده من إنسانيته لا يدفع إلى العدوان، بنفس القدر الذي يدفع به اعتبار الضحايا أشخاص كاملي الإنسانية. في هذه الحالة، يحدث القتل والتطهير والإبادة لأن الضحية الذي أمام الجلاد إنسان، الفارق أن المبرر هذه المرة أنه إنسان شرير يستحق العنف المرتكَب ضده.