أتمنى لو قيل لي في سنوات الجامعة والثورة ألا أحرق نفسي، ألا أنغرس شعوريًّا حتى النهاية في كل مجزرة وحادث، وكل تصريح مسؤول ومحاكمة ممكنة، وكل مكتَسب صغير تُلقي به الأحداث ثم تسلبنا إياه لاحقًا.
أتمنى لو كنت أدركت حينها أن المسؤولية الجماعية لا تعني التماهي الكامل مع التفاصيل، وألا يضعني شعوري بإمكانية تغيير العالم في غضب دائم بسبب عجز دوائري المتخيَّلة عن التأثير فيه.
أشعر أحيانًا بالغضب من أساتذتي الذين هنَّؤونا بأننا جيل شغوف يكسر التابوهات الفكرية والسلوكية، دون تنبيهنا إلى ما يحمله العالم الضخم الراسخ للأشخاص الواعدين المتمردين.
وددت حين كنا نتدرب في الكلية على تفكيك كل معنى ونقد كل قديم والتفكير في الاحتمالات المتخيلة للواقع السياسي، أن نمرن عقولنا أيضًا على تنظيم تداعي الأفكار والإبقاء على صلتنا بالواقع.
وكثيرًا ما تمنيت لو كنت بالتواضع الكافي للتراجع في المرات التي علمت فيها أن ما يحدث أكبر من طاقتي، دون أن يدفعني، في الاتجاه المعاكس، شعور بالذنب، مدفوع بدوره بتصور قديم ومتراجع عن قيمة دورنا وحتميته في حركة التاريخ.
الانتفاضات العربية، في رأيي، هي أكبر تعبير جماعي رأيناه عن الرغبة في الحياة، خصوصًا بالنسبة إلى هؤلاء الذين كانت الانتفاضات بداية انخراطهم في المجال العام وهم ما زالوا في مقتبل حياتهم. للجماعة قوة هائلة حين تتحدث بإسم الشعب كجماعة أكبر. قوة الشعور بالاستحقاق والقدرة على المطالبة به، قوة الشعور بالمسئولية تجاه الجماعة وتجاه التاريخ.
شعارات الخبز والحرية والعدالة والكرامة ترجمة نفسية لشعور الجماعة بالاستحقاق والقدرة على المطالبة به، لأن الشعوب الميتة لا تثور.
لاحقًا، ومع وجود القوى السياسية وناشطين سياسيين وحقوقيين في المجال العام، تبَلور الشعور بالمسؤولية تجاه الجماعة والتاريخ، حتى لو نشأ بالتوازي مع المسؤولية شعور ضمني بالأفضلية على تلك الجماعة الكبيرة، وإحساس بالذنب تجاه القتلى والمعتقلين وضحايا التغيرات الاقتصادية.
أعطت الانتفاضات العربية للمنخرطين فيها بكل حيويتهم، شعورًا عارمًا بالانتصار والتحقق، جعل كلًا منا يسير مدفوعًا بشعور المنقِذ، يقوده إحساس بالذنب باعتبار أنه مؤثر في العالم ومسؤول عنه بما امتاز به عن الآخرين. هكذا أصبحنا في معادلة مثالية للاحتراق.
خيبة الوعد الدائم بإمكانية أجمل
خطورة الأمل في ارتباطه الوثيق بالخيبة، خيبة الوعد الدائم بإمكانية أجمل، وخيبة عدم تحققها. أنت على أهبة الاستعداد بصورة دائمة، لكن تواجهك صدمات متوالية دون مراجعات سياسية أو تخطيط. غضب ويأس يجران بعضهما، كأن كلًّا منا يسير منفردًا إلى نفس المصير: الاحتراق الذاتي.
أكثر الناس عرضة لـ«الاستنزاف»، أو ما يُعرَف بـ«متلازمة الإرهاق» (Burnout)، هم الفاعلون في مجالات الإغاثة والعاملون في المنظمات الحقوقية، النشطاء السياسيون، الصحفيون، المهتمون بالشأن العام، الموظفون المطحونون. وبحسب الدراسات الطبية المتوفرة، يظهر على كثير منهم أعراض مرتبطة بالاكتئاب والاستنزاف ومتلازمة «كرب ما بعد الصدمة» (PTSD).
الصدمة النفسية حدث مفاجئ، يطيح بتوازن الناس وقِيَمهم.
في أوقات الهزيمة السياسية وتفكك الجماعات والأهداف، يصبح بعدها كل انتهاك في أي مكان في العالم فشلًا شخصيًّا لنا، خدشًا في الجسد الجمعي الذي نقف أمامه مدافعين عنه، خصوصًا حين نكون، نحن أنفسنا، الضحايا المحتمَلين لهذا الخطر.
الشعور بالذنب والرغبة في التطهر، والغضب المتولد عن الفشل، أكثر ما رأيته ومررت به كفرد جزء من جماعة أكبر. كل صدمة وكل خيبة أمل عامة ينتج عنها مزيد من الغضب والخوف، ونظن أن الغضب يكفي لتحريك «الناس»، بما أنه الوقود الأساسي الذي حرَّكهم في بداية الانتفاضات. ومن ثَمَّ، كل غضب عام بادرة أمل، وكلما اشتد غضبنا اقترب موعد التغيير: «هنعلمهم الأدب، هنورِّيهم الغضب»، هكذا.
الغضب دافع قوي واندفاعي بطبعه، يُمكِّن الناس من ارتكاب أشياء ربما لن يقبلوا أو يستطيعوا ارتكابها في حالاتهم العادية. وهو أيضًا مرتبط بالأمل، لأن المنسحقين لا يغضبون.
الغضب يفترض تصورًا عما هو صحيح، أو عما يمكن أن تكون عليه الأمور. نحن لا نغضب من الطبيعي والعادي والحتمي، وإنما من الكسر العمد لتلك العادية، ما يجعلنا نظن أن بإمكاننا الوقوف ضده وتغييره. لذلك يمكننا التعاطف مع ضحايا السيول في مصر ورثاؤهم، لكننا، غالبًا، نغضب من قصف مدنيين عُزَّل في غزة.
تُعرَّف «الصدمة النفسية» (Trauma) بأنها حدث مفاجئ يطيح بتوازن الأفراد وقِيَمهم. لكن لا يتطلب الأمر أن تكون ضحية حرب أو سطو مسلح أو محاولة اغتصاب لتصاب بالصدمة النفسية.
يتعرض الناس للكرب النفسي، ليس بالضرورة بعد مرورهم بأحداث عنيفة وصادمة، وإنما للاستغراق الطويل في مناخ ضغط نفسي وعصبي دون فترات استراحة أو مسافة بين الفرد والحدث أو الشخصي والعام. المسبِّب عام، لكن الاحتراق ذاتي، والصدمة هنا ليست قذيفة مدفعية، إنها طَرقٌ مستمر على الخلايا العصبية حتى تتعطل أو تنفجر.
في دراسة أجرتها جامعة ستيلنبوش في جنوب إفريقيا عام 2015 عن التداعيات النفسية للعمل السياسي، وشملت 346 ناشطًا من جنسيات مختلفة، جرى قياس مؤشرات التعرض للصدمة النفسية أو الاستنزاف أو التوتر، إضافة إلى قياس أساليب التفكير وإدراك الأوضاع وطرق التأقلم والتعافي. من بين من أجريت عليهم الدراسة: 19% مصابين بكرب ما بعد الصدمة، و19% تظهر عليهم أعراض مرتبطة بكرب ما بعد الصدمة، و15% يعانون من الاكتئاب، و19% مصابين بمتلازمة «الاستنزاف».
بمقارنة النتائج مع طبيعة عمل الناشطين أنفسهم، اتضح أن 89% منهم اعتادوا سماع شهادات ضحايا الانتهاكات، و63% أجروا زيارات ميدانية إلى أماكن الانتهاكات، بينما كان 34% شهودًا على أعمال عنف، و20% تعرضوا للتهديد بالسجن أو الخطف، و76% واجهوا الحرمان من الاحتياجات الأساسية، ربما عن طريق الخطف أو السجن أو المنع من السفر.
أبناء الأرض المحروقة: صدمة بالإنابة
تَحدث الصدمة النفسية بالإنابة حين تعايش قصص شخص أو أكثر، وتستجيب لها شعوريًّا.
لماذا لا نسمح للأطفال بمشاهدة أفلام الرعب؟ الإجابة المباشرة أنهم يصبحون عُرضة للكوابيس وطباعهم تصير أكثر عنفًا. الإجابة الأكثر تفصيلًا فهي أن قدرة الأطفال على الانخراط الشعوري والمعايشة أعلى من البالغين، وفي نفس الوقت، قدرتهم على الفصل بين الواقع والمرئي على الشاشة أقل، ليصبح الفارق بين مشاهدة الطفل لمشهد قتل في فيلم، ورؤية مشهد قتل حقيقي من الشباك، ليس كبيرًا وواضحًا كما لدى البالغين. لذلك يطور الأطفال، مع الوقت، قابلية أعلى للإصابة بالصدمات النفسية ومتلازمات الخوف والتوتر.
بالنسبة إلى البالغين، إما أن يروا في فيلم الرعب شيئًا ممتعًا ودفعة أدرينالين منعشة، وإما أن يروه شيئًا مثيرًا للتوتر ومرهِقًا للأعصاب، بالضبط مثل كرة القدم والمصارعة. نفس الأمر حين نتحدث عن نشرات الأخبار. لكنك هنا فرد بالغ، وتدرك تمامًا أن ما يحدث على الشاشة ليس فيلمًا. فلن يعود القتلى إلى الحياة بعد أن ترحل عنهم الكاميرا، ولن يتقاضوا أجرًا على ظهورهم في المشهد، وأي مَشاهد صادمة ستكون في الغالب صادقة وغير مفبركة، مهما حاول البعض إنكار ذلك، حيئذٍ، يمكن الإصابة بالصدمة النفسية بالإنابة.
تَحدث «الصدمة النفسية بالإنابة» بشكل غير مباشر، نيابة عن شخص أو عدة أشخاص، عندما تعايش قصصهم وتستجيب إليها شعوريًّا. الأساس هنا هو المتلقي ومدى استجابته وإدراكه، لا الوسيلة. ولا يهم إن كنت ترى ذلك في التلفزيون، أو تقرأه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو تسمعه من ضحية الحدث خلال عملك. يمكنك التعرض لدرجة من درجات الصدمة بالإنابة، لأننا كبشر نملك خاصية التعاطف ومعايشة معاناة بعضنا. تلك الخاصية التي تجعلنا قادرين على فهم المعاناة أو التطوع بمساعدة آخرين لا نعرف وجوهم ولا حتى أسماءهم، لها فاتورة باهظة أيضًا.
شق جائز في الجدار: الهروب من المسافة صفر
أقل الناس قدرةً على التكيف هم سريعو الانفعال المتحمسون وشديدو الحساسية.
الآن، هل هذه الفاتورة حتمية فعلًا؟
لحسن الحظ، لا. ليست حتمية، ولا يتوجب على الناس المساومة بقواهم العقلية لمشاهدة الأخبار أو الالتحاق بوظيفة تخص الشأن العام.
لحسن الحظ أننا، بجانب خصائصنا الإنسانية المرهِقة، نمتلك القدرة على التأقلم والمقاومة والتعافي، ونستطيع الإبقاء على خط عريض بين الواقع وما نود للواقع أن يكون عليه.
أشهر طرق التكيف النفسي مع الآلام الجماعية هي الاعتراف بها ومواجهتها جماعةً. أولئك الذين يواجهون القمع أو التهديد أو التمييز بشكل يومي يصبحون أكثر قابلية للتعافي، عن طريق تطوير هوية وذاكرة وهدف وكيانات مستقلة، تُسمَّى مجازًا «جيتوهات» أو «شللية»، لكنها طريقة فعالة لتعامل الجماعة مع تهديداتها.
نفسيًّا، تركض الجماعات المضطهَدة وراء صراعات الذاكرة والتاريخ والوعي، ليس فقط لتبرئة الذمة أمام الأجيال القادمة، وإنما لصياغة ذاكرة جمعية تُمكِّنهم من النقد الذاتي والتطور.
الرغبة في الحديث أو الرواية هنا، رغبة نفسية في تصفية الحسابات والتصالح. نأمل طبعًا ألا يطغى على تلك الذاكرة حس المظلومية، فتتحول إلى مأساة إضافية في التاريخ.
يخبرنا الطب النفسي أن أكثر الناس قدرة على المقاومة النفسية هم الأكثر مرونة وشعورًا بالثقة والاستحقاق، لأن شعورهم بالتحقق أو بوجود فرص بديلة يخفف من واقع الضغط النفسي. يليهم الأكثر حذرًا قليلي الحماس والاندفاع، الذين يبنون دفاعاتهم النفسية ذاتيًّا عن طريق خلق الحواجز مع الأحداث. بينما أقل الناس قدرة على التكيف هم سريعو الانفعال المتحمسون وشديدو الحساسية تجاه أفكار مثل «الخيانة» و«الهزيمة» و«الخذلان»، بحيث يأخذون كل إخفاق على محمل شخصي مهدد لحياتهم. يليهم المنخرطون وجدانيًّا في الحدث، لكنهم، في الوقت ذاته متحفظون بشكل عام، وخائفون من فكرة الرفض والفشل، ولذلك يفتقدون ما يكفي من دوائر الدعم الاجتماعي.
لكن، وبغض النظر عن الاختلافات، يمكننا أن نرى كيف يراوغ الناس بشكل فردي وجماعي شعورهم بالمحاصرة، كيف يتحولون بالتدريج إلى ممارسة الرياضة والسفر والالتحاق ببرامج دراسية، أو حتى الدخول في علاقات جديدة وتعلُّم الهوايات والحِرف.
يمكننا أن نرى كيف يطور الناس وسائل للتكيف والانفلات بالحركة، بمعناها الفعلي والمجازي، طرق لا حصر لها لشق الجدار، تُناقض الانتحار كهروب يائس ونهائي من النسق.
جربنا أن نموت لأجل قضايانا، ربما علينا الآن أن نعيش من أجلها.