بعض الأساطير لا تنتهي نهاية عادية، لا يمكنها ذلك. بعض النهايات تليق بأصحابها، تُخلدهم. لو لم يحترق جناحا إيكاروس لما سمعنا عن رحلته إلى الشمس. لو لم تسقط طائرة الرحلة رقم 2933 شمال غرب كولومبيا، لما سمعنا عن الرحلة الأسطورية للفريق القادم من أقصى الجنوب البرازيلي، من مدينة شابيكو الصغيرة بالتحديد.
الرحلة
مر النادي منذ تأسيسه برحلة مضطربة من الصعود والهبوط.
ككثير من مدن البرازيل لا يحفظ التاريخ من وقائعها سوى ما تلا الاستعمار، فيذكر عن شابيكو أنها استعمرت في أربعينيات القرن التاسع عشر، كمنطقة للرعي على يد الشركات ومربي الماشية الأوروبيين، ومنذ ذاك الحين تطورت شيئًا فشيئًا لتصبح مدينة صغيرة يسكنها قرابة 200 ألف، نصفهم من الأوروبيين، جنبًا إلى جنب مع قبائل وأعراق متعددة من السكان الأصليين.
أما النادي فهو أكثر حداثة؛ إذ ظهر إلى الوجود في العاشر من مايو عام 1973، بدعم من رموز المدينة الذين ساءهم خلو المدينة من نادٍ كبير، عن طريق اندماج عدد من الأندية الصغيرة مثل نادي أتليتكو شابيكوينسي ونادي الاستقلال، لتتكون جمعية شابيكوينسي لكرة القدم (Associação Chapecoense de Futebol)، وقد مر النادي منذ تأسيسه برحلة مضطربة من الصعود والهبوط، تخللها الفوز ببطولات صغيرة مثل بطولة دوري وكأس مقاطعة سانتا كاتارينا.
عام 2008 فشل الفريق حتى في التأهل لدوري الدرجة الرابعة، لكنه نجح في العام التالي في الوصول إليها، ثم استطاع عام 2010 بعد ماراثون شاق اقتناص المركز الثالث المؤهل لدوري الدرجة الثالثة، ليمضي فيه ثلاث سنوات، ثم ينجح عام 2012 في اقتناص المركز الثالث أيضًا ليتأهل لدوري الدرجة الثانية، ومنه إلى الدرجة الأولى للدوري البرازيلي عام 2014. ولم يشهد عاماه الأولان في دوري الدرجة الأولى أداء مبهرًا؛ إذ اكتفى النادي بمراكز المنطقة الدافئة التي كفلت له عدم الهبوط إلى الدرجة الأدنى.
الدقائق الأخيرة في مباراة سان لورينزو مع شابيكوينسي والتي أهلته للنهائي
وشهد 2016 مشاركة الفريق في أول بطولة قارية له؛ فقد تأهل إلى بطولة كوبا سود أمريكانا، ثاني أكبر بطولات الأندية في أمريكا الجنوبية، وفيها نجح في إقصاء أبطال سابقين مثل إنديبندينتي الأرجنتيني الفائز بلقب البطولة عام 2010، وأحد أكثر أندية أمريكا اللاتينية تحقيقًا للبطولات، الذي أقصاه في الدور الـ16 بركلات الجزاء، ثم واجه تحديًا صعبًا أمام نادٍ أرجنتيني عريق آخر هو نادي سان لورينزو الفائز أيضًا بالبطولة عام 2002؛ حين نجح شابيكوينسي في انتزاع التعادل الإيجابي (1/1) على ملعب بيدرو بايدجاين معقل الفريق الأرجنتيني في العاصمة بوينس آيرس، ثم حافظ على التعادل السلبي في مواجهة الإياب بالبرازيل، ليستفيد من تعادله الإيجابي خارج أرضه، ويصل أخيرًا إلى نهائي البطولة.
الوصول
احتفال اللاعبين والطاقم الفني بالتأهل لنهائي كوبا سود أمريكانا
حتى حين وصل فريق المدينة للنهائي، حُرمت شايبكو من استقبال مباراة العودة؛ إذ رأى المسؤولون أن ملعب الفريق الصغير في المدينة الصغيرة لا يصلح لاستقبال نهائي بطولة قارية، وقرروا نقله إلى مدينة كورتيبيا (على اسم قرطبة الأندلسية) عاصمة الإقليم، الواقعة على بعد 400 كيلومتر من معقل الفريق.
تحقيقات متأخرة تتكهن بأن سبب السقوط هو نفاد وقود الطائرة قبل 5 دقائق من هبوطها على الأرض.
أما مباراة الذهاب فتعين على شابيكوينسي أن يقطع أكثر من 4 آلاف كيلومتر بالطائرة إلى ميدلين، معقل منافسه فريق أتليتكو ناسيونال الكولومبي، وبينما كانت إدارة الفريق تخطط لاستئجار طائرة شارتر مباشرة من مطار ساوباولو البرازيلي إلى كولومبيا، رفضت السلطات البرازيلية طلب الفريق، مما اضطره للتوقف (ترانزيت) في سانتا كروز دي لا سييرا البوليفية، لاستقلال طائرة أخرى تابعة لخطوط لميا للطيران، هي الرحلة رقم 2933.
في الساعة العاشرة مساء بالتوقيت المحلي، وبينما كانت الطائرة في الأجواء الكولومبية على بعد 30 كيلومترًا من مطار خوسية ماريا كوردوفا الدولي جهة وصولها (أقل من 15 دقيقة طيران)، أرسل طاقم الطائرة إشارة استغاثة بسبب مشاكل كهربائية إلى السلطات الأرضية، لكن تحقيقات متأخرة تتكهن بأن سبب السقوط هو نفاد وقود الطائرة قبل 5 دقائق من هبوطها على الأرض.
ما بعد النهاية
مشجعو فريق أتلتيكو ناسيونال الكولومبي في وقفة بالشموع يغنون لضحايا منافسهم البرازيلي
الطائرة كانت تحمل 77 شخصًا، نجا منهم 7 أشخاص بينهم صحفي، من 21 صحفيًا كانوا على متن الرحلة، واثنان من الطاقم، وأربعة من لاعبي فريق شابيكوينسي هم: المدافع ألان روشل، والمدافع هليو نيتو، وحارس المرمى الاحتياطي جاكسون فولمان، والحارس الأساسي ماركوس دانيلو، الذي كان رجل مباراة الإياب في الدور نصف النهائي بحفاظه على شباكه نظيفة، نجا دانيلو من الحادث لكنه توفي بعد وقت قصير من وصوله إلى المستشفى.
قصة فريق شابيكوينسي ستبقى خالدة كقصة درامية، عن فريق صغير، صعد سلم المجد من أسفله، وحين لامس السماء رحل تاركًا قصصًا لن تنسى.
نجا ثمانية لاعبين آخرين؛ لأنهم لم يكونوا على متن الرحلة، أبرزهم المهاجم الأرجنتيني أليخاندرو مارتينتشو الذي سبق له اللعب لفياريال الإسباني. وكان اللاعب رقم 23 في قائمة الفريق، لكنه تخلف في اللحظة الأخيرة بسبب إصابته، والحارس الثالث مارسيلو بويك، الذي طلب البقاء في البرازيل ليحتفل بعيد ميلاده الثاني والثلاثين مع أسرته. وقد تجمع اللاعبون الذين لم يكونوا على متن الطائرة المنكوبة في النادي، وعلى وجوههم آثار الصدمة والذهول، مع آلاف المشجعين الذين توافدوا للغناء والصلاة لأرواح الراحلين.
قصة فريق شابيكوينسي ستبقى خالدة كقصة درامية، عن فريق صغير، صعد سلم المجد من أسفله، وحين لامس السماء رحل تاركًا قصصًا لن تنسى، عن كفاحات الصغار ليصيروا أبطالاً، عن المدرب كايو جونيور الذي فشل دائمًا مع الأندية البرازيلية، لكنه رحل حين نجح أخيرًا، وعن كليبر سانتانا لاعب الوسط الذي سبق له اللعب لأتلتيكو مدريد، وكتب من على متن الطائرة على حسابه الرسمي بموقع «إنستجرام»، قبل وفاته بساعة تقريبا: «كم حياة سأعيش؟ سأظل أحبك حتى النهاية في كل لحظة بحياتي».