نواجه دومًا مشكلة التعلق بفيسبوك، ونحاول دون هوادة أن نقلع عن التصفح المستمر لشاشات السوشيال ميديا، لكننا نفشل في أغلب الأوقات مهما طالت المدة أو قصرت.
ما لا نعرفه غالبًا أن أصحاب ومؤسسي تلك المواقع لا يستخدمونها، ويتحدث «أليكس هيرن» في مقاله على موقع الغارديان عن عزوف عمالقة التكنولوجيا عن استخدام اختراعاتهم الخاصة.
فيسبوك وتويتر: طباخ السم لا يذوقه
بحسب وكالة «بلومبيرغ»، لا يستخدم مارك زوكربيرغ موقع فيسبوك، فالمدير الشاب لديه فريق مهمته إدارة صفحته الشخصية وإزالة التعليقات المزعجة، ومجموعة أخرى لمساعدته في كتابة المنشورات، بالإضافة إلى أنك لا يمكنك إرسال طلب صداقة له، ويتبعه في ذلك مطورون كثيرون في الشركة.
ينطبق الأمر نفسه على تويتر، فـ«نيد سيغال»، المدير المالي للموقع، يكتب أقل من تغريدتين في الشهر. أما آبل، فقد أعلن رئيسها التنفيذي «تيم كوك» أنه ليس لديه أطفال، لكنه يمنع ابن اخته من التعامل مع الشبكات الاجتماعية، ويقلل استخدامه للتكنولوجيا.
الصدمة الكبرى ربما تتمثل في ستيف جوبز، مؤسس آبل، الذي صعد على منصات عدة ليتحدث مرارًا عن مميزات أجهزة آيباد، واتضح أنه يمنع أطفاله من استخدامها كليًّا.
قد يهمك أيضًا: ما الذي تفعله الهواتف الذكية في أدمغتنا؟
شاهدٌ من أهلها
كثير من المتخصصين يهاجمون شبكات التواصل الاجتماعي، وبخاصة بعد فضائح التسريبات التي تعج بها صفحات الإنترنت، لكن خروج أحد مؤسسي هذه الشبكات عن صمته يعد دون شك سابقة فريدة من نوعها.
اعترف «شون باركر»، أحد المؤسسين المشاركين في فيسبوك، أن الشبكة الاجتماعية التي أسسها لم تهدف إلى جمع الناس في منصة واحدة، بل إلى تشتيتهم. فعملية التفكير في الموقع كانت تتمحور بالأساس حول كيفية دفع الناس إلى قضاء أكبر وقت ممكن عليها، وجذب انتباههم للموقع قدر الإمكان.
لتحقيق هذا الهدف استغل مهندسو فيسبوك ثغرة في علم النفس البشري، فالإمبراطورية الزرقاء الضخمة التي تعرفها مبنية على «جزيء»، والإعجاب أو التعليق على منشورك أو صورتك يضخ في عقلك نسبة من الدوبامين، وهذا يدفعك إلى الإسهام أكثر في الموقع للحصول على مزيد من التفاعل.
كان العباقرة يعرفون تأثير ذلك، لكنهم فعلوه على أي حال.
الدوبامين: كيم كارداشيان الجزيئات
الدوبامين، الذي عرفه العالم في 1957، هو واحد من 20 ناقلًا عصبيًّا. والناقلات العصبية بالنسبة إلى عقولنا كالدراجات التي تخترق زحام المرور حاملةً رسائل بين الخلايا العصبية والأعصاب وخلايا أخرى في الجسم. هذه الناقلات هي التي تضمن أن قلوبنا تدق، ورئاتنا تتنفس، أما في حالة الدوبامين، فإننا نعرف عن طريقه أن علينا جلب كوب ماء لأنفسنا عندما نشعر بالعطش.
في عام 1950، كان يُعتقد أن الدوبامين مرتبط بالحركة الجسدية إلى حد كبير، لوجود دراسة أظهرت أن مرض الشلل الرعاش يحدث بسبب نقصه، لكن هذه الفرضية تغيرت بعد أن أجرى «ولفرام شولتز»، أستاذ علم الأعصاب في جامعة كامبريدج، دراسته على الفئران، فوضع تفاحة خلف شاشة وتابع اندفاع الدوبامين في عقل الفأر حين يقضم تفاحته المنشودة.
كشفت الدراسة أن داخل الدماغ الأوسط مرتبط بالمكافأة التي نتلقاها على شيء ما، وهو متعلق بالرغبة، والطموح، والإدمان، والجنس. وأطلق عليه عالم النفس السريري البريطاني «فوغان بيل» اسم «كيم كارداشيان الجزيئات».
يوضح شولتز أنه في أثناء عملية التعلم يُتوقع الحصول على مكافأة مقابل الفعل، فلو كانت المفاجأة مرضية يصبح الفعل عادة. يُنتج الدوبامين متعة غير واضحة، لكن هذا لا يُضعف موقفه كمعجزة في مسألة الإحساس بالسعادة.
يدفعنا الدوبامين إلى أداء أفعال تلبي احتياجاتنا ورغباتنا، عن طريق التنبؤ بالشعور الذي سيخالجنا بعد التلبية، ويضم موقع «Pinterest» عددًا لانهائيًّا من صور وشم الدوبامين، وتمتلئ أرفف مكتبات «أمازون» الافتراضية بكتب الطعام التي ترفع مستواه في عقولنا.
التكنولوجيا الشريرة
وُضِعت خدمات «دوبامين لاب» على تطبيق لرياضة الجري يتلقى فيه المستخدم تشجيعًا عشوائيًّا على فترات، فحقق التطبيق كل الأرباح الممكنة.
في مقاله على صحيفة النيويورك تايمز، يؤكد الكاتب «ديفيد بروكس» أن شركات التقنية فهمت أسباب ارتفاع الدوبامين في العقل، فملأت منتجاتها بما يغرينا.
تخلق معظم وسائل التواصل الاجتماعي مكافآت غير منتظمة، وهذا الأسلوب، بحسب بروكس، اتبعه صانعو ماكينات القمار منذ وقت طويل استنادًا إلى عمل لعالم النفس الأمريكي «بورهوس فريدريك سكينر»، الذي اكتشف أن أقوى طريقة لتعزيز سلوك مكتسَب عند الفئران هو المكافأة العشوائية من حين إلى آخر.
قبل عام أو اثنين من نمو مجال تكنولوجيا الإقناع كان للدوبامين حدود، وكان مثيرًا في إطار روح العصر الذي ننتمي إليه، أو على الأقل هذا رأي «رامزي براون»، المؤسس المشارك في «Dopamine Labs»، وهي شركة ناشئة مثيرة للجدل تَعِد بزيادة أعداد المستخدمين لأي تطبيق أو لعبة، أو حتى نظام طعام.
أدرك براون وزملاؤه تأثير ذلك الجزيء الصغير في اللعبة، لكن بدلًا من قلب المنضدة على الملتفين حولها كما فعل باركر وغيره، قرروا استغلال الدوبامين لتحقيق كل الأرباح الممكنة.
تقوم خدمات «دوبامين لاب» على ثغرة عشوائية تقدم مكافآت، إذ تقدم الشركة نظامًا يمكن تفعيله على أي تطبيق مصمم لتغيير السلوك، أو لبناء سلوك اعتيادي. على سبيل المثال، وُضِع النظام على تطبيق لرياضة الجري يتلقى فيه المستخدم تشجيعًا عشوائيًّا على فترات، وتدرَّب أجهزة الذكاء الاصطناعي في الشركة على إعداد جدول التشجيع/المكافآت هذا للأفراد.
قد لا تكون عملية بيع منتجهم كبيرة، لكن الشركة تقدم خدماتها الآن لعشرة عملاء، من بينهم تطبيق الجري الذي أحرز تقدمًا بنسبة 30%، وتطبيق للحمية يساعد الناس على متابعة الطعام الذي يتناولونه حقق ارتفاعًا بمعدل 11%، وتطبيقًا آخر لمواجهة التنمر وصل فيه التطور إلى 167% في عدد المرات التي يرسل فيها المستخدمون رسائل دعم لبعضهم.
اقرأ أيضًا: خبير سابق في غوغل يرصد كواليس هوسنا بوسائل التواصل الاجتماعي
إدمان التكنولوجيا
استخدام تقنيات مماثلة للتأثير على سلوكنا صار مفهومًا، لكن قوة نظام الدوبامين في تشكيل العادات معروف، ويقاس بسهولة على مدمني المخدرات والمدخنين.
كل مخدر، بدءًا من الكوكايين حتى الكحول، يؤثر في نظام الدوبامين بإفراز كمية أكثر من المعتاد، ويتسبب استهلاك هذه المخدرات في تجاوز القنوات العصبية الطبيعية التي تصل بين نظام المكافأة في عقلك، وقشرة الفص الجبهي، وهي العملية التي تساعد الناس في التحكم في دوافعهم، أو بعبارة أكثر بساطة: كلما زاد استهلاك المخدر، صَعُبَ التخلص منه.
تتساءل «جينَّا سلون»، في مقالها على موقع جريدة «الصن»: «هل الكب كيك قابل للإدمان كالكوكايين؟».
توضح جينَّا في المقال أن الدوبامين يُطلَق في القشرة المدارية الأمامية حين يُعرَض على الناس صور طعامهم المفضل، وهي نفس المنطقة التي تنشط حين يرى مدمن الكوكايين كمية كبيرة منه، لذا صار الدوبامين الخلطة السحرية في وادي السيليكون، الخلطة التي تجعل أي تطبيق أو لعبة أو منصة اجتماعية جالبة للربح.
يفسر شولتز ذلك بأن الكمية غير الطبيعية التي نتلقاها من المكافآت لا ترشَّح في عقولنا، بل تذهب مباشرة إلى الدماغ، فترتفع حدتها ويحدث الإدمان، وبهذا نفقد إرادتنا. عقولنا لم تجَّهز لتقبُّل هذا النوع من المخدرات، لذا تصبح حملًا ثقيلًا عليها. نحن بإدماننا لهذه الأمور نُتلف نظام الدوبامين المفيد والضروري لحياتنا.
يدرك براون وزملاؤه في «دوبامين لاب» أنهم يطورون سلاحًا غير أخلاقي، لكنه يزعم أنه رفضت العمل مع شركات المراهنة ومطوري ألعاب الفيديو المجانين. يدرك زعماء التكنولوجيا كذلك مخاطر ما يفعلونه، لكن يبدو أن الفيصل الذي يشكل قراراتهم هو تحقيق الأرباح.