ما الذي يندم عليه الناس وهم قاب قوسين من الموت؟ يندمون بشكل خاص على أنهم عاشوا الحياة كما أرادها لهم غيرهم، وعلى أنهم بذلوا جهدًا في العمل، ويأسفون كذلك لعجزهم عن التعبير عن مشاعرهم، وانقطاع صلتهم بأصدقائهم، ولعدم سماحهم لأنفسهم بأن يكونوا أكثر سعادة.
تفويت أوقات السعادة من أبرز الأمور التي يندم عليها من يعيشون أيامهم الأخيرة، وهي أيام تتسم بصدق خاص، فلو عاد بهم الزمن لفعلوا ما يسعدهم وإن بدى تافهًا، فلم يدرك كثير منهم أن السعادة اختيار.
الإجابات السابقة حصلت عليها ممرضة أسترالية عملت في عنبر الرعاية التلطيفية، الذي يضم المرضى في الأسابيع الأخيرة من حياتهم، ووضعتها في كتاب، لتكشف لنا أهمية السعادة، وربما صعوبة الوصول إليها أحيانًا. فإذا كان من يعيشون لحظة برزخية يمرُّ أمامهم فيها شريط حياتهم فيرونه أوضح ما يكون، قد وجدوا أن تضييع السعادة من أسباب الندم، فربما علينا أن نبحث عن الأسباب التي قد تجعلنا «نخشى» السعادة أو نتحاشاها، دون أن نعي ذلك أحيانًا.
لماذا نخشى السعادة، ذلك الشعور الجميل الذي ينبغي أن نرتمي في أحضانه؟
1. لأننا نؤمن بمعتقدات «خرافية»
يعتقد بعضنا أن السعادة، خصوصًا الغامرة، لها فاتورة ينبغي أن تُدفع، وربما عَكَسَ ذلك شكلًا من أشكال التفكير الخرافي. نخشى السعادة لِما قد تخبئه وراءها من مصائب خافية، وكثيرون لا يفوتون قول «اللهم اجعله خيرًا» إذا ضحكوا بشدة، وكأن ثَمّة قوى شريرة تتربص بنا ويزعجها سماع قهقهة ضحكاتنا، وسرعان ما تستفزها للانتقام.
الخوف من السعادة موجود في ثقافات أخرى، فالإيرانيون مثلًا يعتقدون أن الضحك بصوت عالٍ «يوقظ الحزن».
نكاد نترصّد الفرصة كي ننبذ السعادة، كما لو كنا نخشى مجيئها أو نستكثرها على أنفسنا. يتشاءم العرب من نعق البوم، وفتح المقص، وسكب اللبن، والخياطة في ساعة متأخرة، ويقال إن المغاربة يكرهون الاستحمام ليلًا خوفًا من الأرواح الشريرة، أو غسل الأواني بالماء الساخن في ساعة متأخرة من الليل خشية أن يحرقوا جنيًّا يسكن البالوعات.
ربما تقف تلك المعتقدات وراء مجموعة من الأمثلة الشعبية الحاضرة في الثقافة العربية، التي تحكم نظرة الكثير منا إلى الحياة، مثل: «جت الحزينة تفرح ما لِقِت مطرح»، و«خليك على منحوسك ليجيك أنحس منه»، وغير ذلك من الأمثال التي تحمل قدرًا كبيرًا من «النكد» وتوقُّع سوء المنقلَب.
لكن الخوف من الضحك والسعادة موجود في ثقافات أخرى، إسلامية وشرقية وغربية، فالإيرانيون يعتقدون أن الضحك بصوت عالٍ «يوقظ الحزن»، والمتحدثون بالإنجليزية يؤمنون أن الأوقات السعيدة لا تدوم، فيقولون: «What goes up must come down»، وبالمثل، يرى الصينيون أن السعادة الغامرة «تجلب المصائب».
قد يهمك أيضًا: الفلسفة تعلمنا كيف نحيا سعداء
التقط باحثان شابان من جامعة فيكتوريا بويلينغتون في نيوزيلندا ذلك الخيط الذي يُظهر أن السعادة منتج ثقافي، وطوّرا «مقياسًا للخوف من السعادة» أثبت نجاحه بعد تطبيقه في 14 دولة. يسأل المقياس المشاركين في الاختبار عن مدى اتفاقهم مع عبارات مثل «قضاء وقت ممتع يؤدي إلى حدوث أمور سيئة».
وجد الباحثان أن البلدان ذات الثقافات الجمْعية (التي تهتم بالجماعة على حساب الفرد)، وتلك الأكثر تقليديةً وميلًا إلى التراتبية (الطبقية)، أظهرت معدلات أعلى للخوف من السعادة، لكن هذا لا ينفي أن كل الثقافات الإنسانية أظهرت درجات متفاوتة من خشية الفرحة. وكان ذلك الخوف أشد ما يكون في دول شرق آسيا، وسجل أدنى مستوياته في البرازيل ونيوزيلندا.
2. لأن المخ ينحاز إلى التفكير السلبي
التراث، وإن اختلفنا مع بعض ما يحمله من أفكار، هو عصارة تجارب أشخاص سبقونا إلى الحياة وسجلوا دروسهم لنتعلم منها شيئًا.
وربما يكون لطبيعة المخ البشري دور في توارث تلك الأفكار التى تعكس خوفًا من السعادة عبر الأجيال. فلو عرفنا أن أمخاخنا أكثر حساسيةً للأحداث السيئة، في ما يُعرف بالانحياز السلبي، يمكننا أن نفهم السر وراء توارثنا لأمثال تحمل شحنات سالبة للسعادة من قبيل: «قليل البَخْت يلاقي العضم في الكِرشة (أحشاء الذبيحة الصالحة للأكل)».
مَن تناول «الكرشة» دون أن يجد فيها عظمًا لن يذكر التجربة، فلا غرابة فيها، بينما سيظل يذكرها ذلك الذي التهمها باعتبارها أحشاء طرية، فعلق العظم في حلقه وكاد يودي بحياته. ولعل «المنحوس الأول» الذي وقفت «عظام الكرشة» في حلقه ظل يروي قصته لكل من يقابله، حتى صارت مثلًا نتداوله اليوم.
يلعب الدماغ علينا لعبة أخرى تسمى الإشراط الكلاسيكي (Classical Conditioning)، فلو كنت تقود سيارتك مستمتعًا بأغنيتك المفضلة تعرضت لحادث ونجوت، سيظل لديك ارتباط شرطي بين ركوبك السيارة واستماعك إلى تلك الأغنية والتفكير في الحادث، وسيظل دماغك يخيفك من احتمال وقوع نفس السيناريو البائس كلما ركبت السيارة ودارت نفس الأغنية، حتى دون تفكير واعٍ من ناحيتك، وبصورة قد تدفعك إلى تجنب ذلك التسلسل من الأحداث خشية ما قد يعقبه.
تحتل الأحداث العصيبة، نفسيًّا أو جسمانيًّا، مكانًا بارزًا في الذاكرة، فإذا تبعَتْ أوقاتَك السعيدة لحظاتُ ألم نفسي أو جسماني أو إحباط كبير، سيصبح لديك ما يشبه «الفلتر»، الذي يجعلك تتجنب الأوقات السعيدة خوفًا مما قد يختبئ وراءها.
قد يعجبك أيضًا: ما سر السعادة الذي لا يعترف به أحد؟
3. لأننا مُثقلون بالذنب
الذنب، بحسب علم النفس، واحد من العواطف الحزينة، فهو شعور سلبي يجلبه الاعتقاد بأننا كان ينبغي علينا أن نفكر أو نتصرف أو حتى نشعر بشكل مختلف. وقد نكون، نحن ومعتقداتنا، مصدر ذلك الشعور، أو يكون مصدره آخرون حولنا.
تقترن الأوقات السعيدة لدى بعضنا بذلك الشعور الثقيل بالذنب، فيصبح قضاء وقت ممتع والتعبير عن السعادة خيانة لأشخاص مقربين حولنا يمرون بفترات صعبة، كمرض أو ضائقة مالية مثلًا.
وحتى إن قررت التمرد، فقد يعكر صفو أوقاتك اللطيفة التي تقتنصها ذلك الصوت الذي يوسوس لك بأن «والديك كانا أحق بذلك الوقت من أصدقائك»، أو بأنك لا تستحق ذلك الترويح لأنك «أخفقت في كُليتك».
يمكن إذًا لذلك الصوت الذي يصرخ داخلك ليذكِّرك بأنك مذنب أن يمنعك من الاستمتاع بحياة اجتماعية صحية، حين يحبس عقلك في دائرة لا نهائية من الإشفاق على الذات وجَلدها، حتى تتجنب تلك المناسبات لتُسكِت ذلك الصوت، وعندها تخرج السعادة من حياتك دون رجعة.
قد تكون وخزات الذنب حادةً مثلما هو الحال في أعقاب الحروب والكوارث الطبيعية والحوادث، فربما يعاني الناجون من تلك الأهوال مما يسمى «ذنب البقاء على قيد الحياة»، وينزعجون من أنهم ظلوا أحياء بينما فارق أَحبّتهم الدنيا.
قد يهمك أيضًا: احزنوا: لماذا يجب أن نتقبل مشاعر الفقد؟
في صورته الأقل حدة، يؤدي الشعور بالذنب إلى الندم. والندم ليس أمرًا يسهل التعامل معه عند كثيرين، فبينما قد يعاني بعض الناس من وخزات الذنب من وقت إلى آخر، ربما يدفع الشعور بالذنب آخرين إلى الانتحار.
تميل النساء إلى الشعور بالذنب أكثر من الرجال، هذا ما أثبته بحث شمل ثلاث فئات عمرية إناثًا وذكورًا، وكشف أن أكبر فجوة بين الإناث والذكور، من حيث الشعور بالذنب، تكون في المرحلة العمرية بين 40 و50 عامًا، وهي الفترة التي تحمل فيها النساء غالبًا عبء تربية أبناء مراهقين ورعاية أبوين مسنين.
4. لأننا نبحث عن الكمال
لا يشعر الساعون إلى تحقيق الكمال بالسعادة إذا لم يكن كل شيء مثاليًّا، ويندفعون في بحثهم عن الكمال إلى الرغبة في تجنب الفشل أكثر من رغبتهم في تحقيق النجاح، ولا يشعر هؤلاء أبدًا بأنهم حققوا القدر المُرضي من النجاح.
تشير ورقة بحثية صدرت عن كلية الطب في جامعة بنسلفانيا الأمريكية إلى أن ابتغاء الكمال عادةً ما يُخفي وراءه مشكلة تتعلق بالثقة في النفس. فذلك الذي يبغي الكمال تلقى في صغره رسائل حب مشروط من أحد أبويه أو كليهما، فتكوّن لديه شعور أنه لن يكون مقبولًا إذا لم يحقق نتائج معينة سلوكيًّا ودراسيًّا ورياضيًّا.
تتعاظم الرغبة في تحقيق الكمال لو كان الشخص يعاني من عدم التوازن العاطفي، وتتدخل بعض العوامل الوراثية كذلك في خلق النزوع إلى الكمال.
يرى بعضنا أن السعادة حالة من الاسترخاء والكسل لا قيمة لها، وكأننا يجب أن نظل في نضال مستمر.
السعي إلى الكمال له علامات، فإذا وجدت نفسك ترغب بشدة في تأجيل بعض الأعمال خوفًا من الوقوع في أخطاء، وتركز على الإخفاقات أكثر من النجاحات، وتشعر بالخجل من ارتكاب أخطاء بسيطة، وتتوقع الكمال من الآخرين، فربما تكون واقعًا في مصيدة اللهاث وراء الكمال.
أظهرت دراسة حديثة أن الباحثين عن الكمال يعانون من «اجترار الأحداث»، فتظل عقولهم تعيد عليهم اختياراتهم في الحياة بشكل قد يدفعهم إلى التشكيك في ما اختاروه، وهو نمط من التفكير يؤدي إلى الندم أو عدم الرضا.
الساعون إلى الكمال يقعون في فخ التوتر، وربما الحزن الذي يصل إلى الاكتئاب، لكنهم كذلك يخشون قضاء أوقات سعيدة لأنهم يربطونها بالكسل والانغماس في أنشطة غير منتِجة. ويؤكد عالم النفس البريطاني «بول غيلبرت» أن بعض الناس «يعتبرون السعادة حالة من الاسترخاء والكسل لا قيمة لها، وكأننا يجب أن نظل في حالة نضال مستمر»، فثَمّة أشخاص لا يرتاحون إلا إذا كانوا في حالة قلق دائم.
حسنٌ، هذه كانت أهم الأسباب التي تجعلنا نخشى السعادة، لكن كيف يحدث هذان الشعوران بالضبط داخل أمخاخنا؟
هل حقًّا من «يضحك كثيرًا، يبكي أخيرًا»؟
على رأس ما يُشعر الإنسان بالمتعة جلب الرزق وممارسة الجنس، فهذين الأمرين تحديدًا يعززان شعورنا بالنجاح في البقاء على قيد الحياة والتطور. ولأننا كبشر كائنات أعلى وأكثر تعقيدًا من الحيوانات، فإننا نحب أنشطة أخرى تتطلب قدرًا من التفكير، كالحديث مع الأصدقاء أو مشاهدة مسرحية، وهي أمور تخلق لدينا شعورًا بالسعادة.
تقترح نظرية العملية العكسية أننا إذا شعرنا بإحساس ما، فمن المتوقع أن نشعر بعكسه بعدها، وربما يفسر هذا الضيق الذي يعقُب السعادة.
يوجد في الدماغ البشري ما يسمى «البؤر التلذذية» (Hedonic Hotspots)، وهي مسؤولة عن الشعور بالمتعة، وفق «كنت بريدغ»، عالم الأعصاب في جامعة ميشيغان الأمريكية. عندما تتلقى تلك البؤر إشارات بأننا نمر بتجربة ممتعة، تطلق ناقلات عصبية تشبه المُخدر، فيتكون لدينا شعور بـ«الاستحسان».
في نفس الوقت، تحدث تفاعلات بين نقاط التلذذ تلك ومناطق أخرى في الدماغ، ليتكوّن لدينا شعور بـ«الرغبة». وعبر تلك العمليتين، يصبح لدينا شعور واعٍ بأن ما نمر به «ممتع»، بطريقة تجعلنا نرغب في استمرار ذلك الشعور أو تجدده في المستقبل.
يرى بريدغ أن البؤر التلذذية هي نفسها المسؤولة عن مشاعر الضيق التي تعقب الأوقات الممتعة والسعيدة.
اقرأ أيضًا: انشغالك بالماضي أو المستقبل قد يدل على حزنك
في عام 1980، وضع عالم النفس «ريتشارد سولومان» نظرية العملية العكسية (Opponent Process Theory)، التي تقترح أننا إذا شعرنا بإحساس ما، فمن المتوقع أن نشعر بعكسه بعدها. وربما يفسر ذلك الضيق الذي يعقب السعادة.
يقول «جورج كوب»، اختصاصي علم وظائف الأعضاء السلوكي، إن «نظرية العملية العكسية» تفترض أن الإنسان لديه نقطة انطلاق أو توازن، لا يكون فيها سعيدًا ولا حزينًا. وعندما يحصل على جائزة مثلًا، تميل كفة الميزان في أحد الاتجاهين، فيعمل المخ على إعادة التوازن.
يعمل هذا النظام في الاتجاه الآخر أيضًا، فربما تشعر بألم شديد، ثم تتبعه «عملية عكسية» تغمرك بالسعادة، وقد يفسر هذا تحول رياضة مثل القفز المظلي الحر من مخيفة إلى منعشة ومثيرة.
ربما كان ترقب مشاعر الضيق بعد أوقات الفرح حكمة بالغة مررها إلينا الأجداد وتؤكدها تفاعلات المخ البشري، والأكثر من ذلك أن عملية التطور تدعم حكمة الأجداد.
التطور: السعادة قد تقتلك
من وجهة نظر عملية التطور، ينبغي أن ننزل إلى الأرض مجددًا بعد الفترات السعيدة التي تحلق بنا إلى السماء، كي نعود إلى التوازن الآمن، فلو كنا سعداء طوال الوقت لَما انتبهنا إلى المخاطر، وبذلك تصبح حياتنا مهددة.
الأغرب من ذلك أن ثَمّة رأيًا أوردته إحدى الدوريات العلمية يقول بأن استمرار الاعتقادات الخرافية منسوب إلى عملية التطور، فهي وسيلة يحمي بها الإنسان نفسه، حتى إن كان ذلك على حساب رصيد سعادته، فربما نحمي أنفسنا بتَوَخِّي بعض الحذر، حتى إن كان مبنيًّا على خرافة.
ربما يبدو هذا كلامًا مبتذلًا أو قيل في مناسبات عديدة حتى صار لا طعم له، لكن الأوقات السعيدة غالية وخاطفة حقًّا، وعلينا أن ندع السعادة تغسل أرواحنا من الأحزان، وتتخلل مسام أجسادنا، وتملأ حواسنا وتفيض، على الأقل كي لا يأتي يوم نجد أنفسنا على أعتاب الخروج من الدنيا ولم نذق حلاوتها خوفًا من شر يتربص بفرحتنا، فأجدادنا، الذين خافوا من السعادة، هم أنفسهم من قالوا إن «ساعة الحظ ماتتعوّضش».