في فيلم «مطب صناعي»، يُمسك الفنان المصري أحمد حلمي، الذي يمثل دور شاب بسيط اسمه «ميمي»، بكتاب عنوانه «قوة العقل الباطن» ويقرأ منه بصوت عالٍ: «إن الشعور بالثروة يجلب الغِنى، سوف تتعلم من هذا الكتاب كيف تصل إلى السعادة والغنى. كرر كلمة غِنى في نفسك بقوة، وسوف يظهر أثر ذلك في حياتك العملية، وسيطرق الحظ بابك».
ما أن ينتهي ميمي من القراءة ويكرر القول «أنا غني» حتى يسمع طرقات على باب شقته، تتسارع وتيرتها كلما كرر الجملة نفسها، في مشهد لا يخلو من سخرية واضحة من الأفكار الواردة في الكتاب.
ميمي شاب بسيط يحلم بالثراء السريع مثل آلاف الشباب العربي، ويبدو أن كتب «تطوير الذات» كالذي كان يقرؤه تلعب على أوتار أمنيات الكثيرين في هذا الزمن، فهي تدَّعي أنها تقدم خطوات بسيطة لحل المشاكل الشخصية، فتعد بجلب الثروة، والنجاح في العمل، والحب الحالم، والسعادة الدائمة، وهذا ما يوضحه أستاذ علم النفس المشارك في جامعة كولومبيا كولدج شيكاغو، «رامي جابرييل»، في مقاله على موقع «Aeon».
كيف راجت كتب التنمية البشرية؟
بات الوقوع فريسةً للنصح الذي تقدمه كتب تطوير الذات سهلًا، مع اكتفاء العلماء بمخاطبة شرائح نخبوية محدودة، وتركهم العامة فريسةً للدجالين ومُدَّعي العلم ممَّن يكتبون مثل هذه الكتب، فالمعرفة تنقسم حاليًا إلى نصفين: الأول يخص الأكاديميين، وهم لا يعترفون بمخاطبة الروح، والثاني يخص الناشرين، وهم على استعداد لأن يقدموا أي شيء يطلبه القراء إذا كان سيحقق مبيعات أكثر.
لكلٍّ من هذين الطرفين رؤيته الخاصة في تحقيق «السيطرة على النفس»، فبينما يلجأ علم النفس الأكاديمي إلى الأسلوب العقلاني التجريبي، يعتمد علم النفس الشعبي على الطقوس الخرافية، أو ما يسميه «قوة الذات اللانهائية»، حسب جابرييل.
خطوة للوراء.. ما التنمية البشرية؟
تتضمن كتب تطوير الذات استراتيجيات عملية وأخلاقية تهدف إلى تغيير سلوكياتنا وعاداتنا الذهنية، فهي تقدم مبادئ تَعِدُ المتلقي بالسيطرة على عقله من أجل تحقيق ما يتطلع إليه.
تلهم هذه الكتب ملايين الأشخاص، عن طريق تقديم حكايات شخصية تبدو للقارئ كما لو كانت ذات مغزى عميق، وهي تقدم نصائح إرشادية من قبيل أنه «ينبغي عليك ألا تعبث بإصبعك في أنفك كثيرًا في اللقاء الأول مع حبيبتك»، وأخرى توصيفية مثل: «انظر إلى فلان كم هو رائع، فهو لا يعبث بإصبعه في أنفه أبدًا». وفي هذه الأيام صارت تلك الكتب تحوي بعض الإحصائيات لإضفاء صبغة علمية على ما تقدمه.
تستغل كتب التنمية البشرية جهل القراء وخيبة أملهم، خصوصًا في ما يتعلق بأمور مثل العلاج من الأمراض.
تدور عناوين هذه الكتب عامةً حول مداواة الأمراض، وأهمية التفكير الإيجابي، وتحقيق السعادة، وإمكانية إحداث تحول في الشخصية، وهدفها تحقيق التطلعات التي تراودنا مهما بدا ذلك صعبًا، ومن ثَمَّ الوصول إلى السعادة الدائمة.
يقول كاتب المقال إنه استعرض 40 من كتب تطوير الذات الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة، مع التركيز على ما صدر منها بعد 2011، فوجد أن مواضيعها تتنوع بين تحقيق قدر أكبر من الكفاءة، وإدارة العلاقات العاطفية، والحصول على الثروة.
يشير جابرييل إلى أن النقد الأساسي الذي تواجهه كتب تطوير الذات هو خُلُوُّها من عنصر التقييم الخارجي الذي يثبت صحة ما تطرحه، وتجاهلها الفروق الفردية بين الناس.
تستغل تلك الكتب جهل القراء وخيبة أملهم على نحو مستفز، خصوصًا في ما يتعلق بأمور مثل العلاج من الأمراض أو اتباع حِمية غذائية ناجحة. ورغم هذه العيوب الفجة التي تعتري كتب تطوير الذات، فهي صناعة قوامها 11 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.
«ذي سيكريت».. كيف تؤلف كتاب تنمية بشرية في 3 دقائق؟
يلفت رامي جابرييل النظر إلى أن كتب تطوير الذات تركز على ثلاث رسائل أساسية هي: قوة الفكر، ووجود عادات فعالة في تنظيم التفكير، وأن الإيمان بالذات له فوائده. وتدَّعي الكتب أنه يمكن ترجمة المعتقدات التي تقدمها إلى أفعال بتطبيق نظام حياتي معين، ومن هنا تتحقق السيطرة على الذات، وهذا ما يطرحه مثلًا كتاب السر (The Secret) للكاتبة «روندا بيرن».
يرى جابرييل أن الاعتماد على قوة الفكر في حل مشكلات الحياة هو مغالاة في المثالية، ففي طياته ادِّعاء بأن التفكير الاستباقي جدير بأن يُحدث تغييرًا في حياتنا عن طريق توصيلنا بقوى خارقة، مثل الكون والحب والكارما (مفهوم أخلاقي في البوذية يعتبر أفعالنا وأقوالنا مسؤولة عمَّا نمر به من تجارب في الحياة).
الرسالة الثانية التي تقدمها كتب التنمية البشرية هي أن عادات التنظيم الفعالة قد تساعد الأشخاص على تمكين أنفسهم، وتحقيق أهدافهم، وتنظيم أوقاتهم، وتحسين ظروفهم المعيشية، وبناء شخصياتهم، وكسب المال، والتأثير في الآخرين.
يقدم كتاب «ديل كارنيجي» المُعَنوَن «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟»، وكتاب «ستيفن كوفي» المُسمَّى «العادات السبع للناس الأكثر فعالية»، نموذجين كلاسيكيين في هذا الإطار، ويحويان استراتيجيات عملية مستوحاة من تعاليم بوذا والمسيحية البروتستانتية، ويركزان على ما يسمى «الروح» أو «اللاوعي» باعتبارهما مصدرًا خفيًّا للقوة الإبداعية، التي يمكن استغلالها عن طريق تدريبات تأمُّل معينة.
أما الرسالة الثالثة التي تحملها تلك الكتب فهي أن الإيمان بالذات من شأنه أن يعزز الثقة بالنفس والشعور بالتمكين، ويكون محور التركيز هو الفرد، مع الدعوة إلى اكتشاف الذات من أجل تغيير شكل الحياة. وتهدف هذه الرسالة إلى ترسيخ الاعتقاد لدى القارئ بوجود استراتيجيات ناجحة لإصلاح المشاعر وتوجيهها.
تقدم هذه الكتب وسائل «خفية» كذلك لمساعدة قارئها، منها مهارات التأمل، وكيفية إبطال العادات الذهنية السيئة، والعلاج عن طريق الصرخة البدائية (استحضار موقف مزعج من الطفولة والتنفيس عن الألم الذي صاحبه بالصراخ أو العنف)، والكشف عن نواحٍ جديدة في الشخصية والصدمات التي تعرض لها القارئ.
أما كتب علم النفس الشعبية ذات الطبيعة العلمية فتعتمد على التجربة والدليل، فيلجأ كُتَّابها إلى عمل مقابلات مع العلماء لدعم وجهات نظرهم، كما هو الحال مثلًا في كتاب «مالكوم جلادويل» المُعَنوَن «التفكير اللماح في طرفة عين».
س: ما العلاقة بين التنمية البشرية والدين؟
احتل علم النفس الشعبي مكانته لدى الناس مع تضاؤل دور المؤسسات الدينية.
يشرح جابرييل أن لجوء الإنسان إلى الحكمة والإرشاد المكتوبَيْن ليس جديدًا، فإلى جانب الكتب السماوية المقدسة، هناك «تاو تي تشينغ» أو كتاب الحكمة الصينية، وتعاليم كونفوشيوس، وهي أقوال وأفعال مسجلة للفيلسوف الصيني كونفوشيوس وتلاميذه، و«تأملات ماركوس أوريليوس»، وهي سلسلة من الأفكار للإمبراطور الروماني أوريليوس، و«البهاغافاد غيتا»، وهو أحد كتب الديانة الهندوسية.
تتضمن هذه الكتب توصيفات ميتافيزيقية (غيبية) لنشأة الحياة ومصير الكون، بالإضافة إلى الوعظ الأخلاقي، وهي تغذي حاجة الإنسان إلى الأمل ووجود غاية من حياته.
اقرأ أيضًا: كيف تجبرنا «التنمية البشرية» على السعادة؟
لقد احتل علم النفس الشعبي، ومنه كتب تطوير الذات، مكانةً أكبر لدى الناس مع تضاؤل الدور الذي تلعبه المؤسسات الدينية، بحسب الكاتب، الذي يشبِّه ذلك العلم بالأديان في اعتماده على ما يسميه التفكير السحري، إذ يدعو القارئ إلى الاعتقاد بأن أفكاره لها قوة خارقة، وأن الكون سيستجيب لرغباته.
يقول كاتب المقال إن الطقوس الدينية وكتب تطوير الذات تتشابه، إذا اعتبرنا أن الهدف من الطقوس الدينية هو ترجمة معتقداتنا إلى أفعال من أجل إشباع مشاعر معينة هي نفسها التي تحثنا على الاعتقاد في الدين. تأتي عناوين تلك الكتب جاذبة دومًا وبسيطة، وتحاول تعليمنا كيف نهدِّئ صوت عقولنا ونجد السعادة بكل سهولة، وتعدنا بتحقيق الكثير ممَّا نتمناه.
هل التنمية البشرية خرافة؟
تروِّج كتب تطوير الذات للخرافة، بينما لا تقبل الدوائر الأكاديمية سوى الإثباتات العلمية.
تحثُّنا كتب تطوير الذات باستمرار على التحلي بالتفاؤل والتخلي عن اليأس، وترسم لنا وعودًا بقهر الصعاب إذا تمتعنا بإرادة حرة، وهي بذلك تبدو انعكاسًا لثقافة الفردية والنرجسية السائدة في عصرنا الحالي، وفق جابرييل.
تتشارك كل تلك الكتب في ادِّعائها مساعدة الأشخاص على بسط سيطرتهم على عقولهم وحياتهم المهنية، فهي تركز بشكل حصري على دور الأشخاص في التحكم في أنفسهم، لكنها تتجاهل عوامل أخرى تقرر مصائرهم، مثل الفقر والظروف العائلية والسياسية.
يوضح كاتب المقال أنه، باعتباره عالمًا، يعرف تمامًا أن تجاهل الحقائق والتاريخ والإحصاءات يدخل في إطار الشعوذة والخرافة، ويضرب بمكتسبات العلم الحديث من أدوات تحليلية عرض الحائط. وفي رأيه، تروِّج كتب تطوير الذات للخرافة، لأن الدوائر الأكاديمية لا تقبل سوى الإثبات العلمي ختمًا لجودة الأفكار.
في دراسته لكتب تطوير الذات، وجد الكاتب فروقًا طفيفة بينها، فبينما تركز كتب إدارة الأعمال على تطوير العلاقات المهنية وتحقيق الطموحات المالية، تبشر تلك التي تتناول موضوع الحب قارئها بإنهاء حالة الوحدة التي يعيشها وتعده بالعثور على الحب الحالم.
قد يعجبك أيضًا: حب إيه؟ الرومانسية الحالمة قد تفسد صحتك
ويعمل النوع الإلهامي من تلك الكتب على تعزيز الثقة بالنفس في مواجهة مشاعر التشكيك في القدرات والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، فيما تقدم الكتب ذات الطبيعة العلمية نصائح خاصة في مجالات شتى، مثل الحب والأعمال والثقة بالنفس، ويفترض كُتَّاب هذا الصنف الأخير على وجه الخصوص أن يصدقهم القارئ فقط لأنهم يعتمدون مظهرًا علميًّا في الكتابة.
تدَّعي كتب تطوير الذات أن الأمنيات والأحلام، التي قد تكون فرصة عمل أو شريكًا مُحبًّا أو صفاءً روحيًّا، يمكن استجلابها إذا جعلنا عقولنا تفكر كما لو كانت هذه الأشياء التي نتمناها موجودة بالفعل، وهو أمر يبدو ضربًا من السحر في رأي الكاتب.
جواب نهائي.. هكذا يمكن استخدام كتب التنمية البشرية
إن الخطط والمبادئ العملية لكتب تطوير الذات تُشبع احتياجنا إلى الأمل والتمكين أمام الإخفاقات، وقد يكون هذا هو ما نجحت فيه هذه الكتب، فماذا يمكننا أن نفعل بدلًا من الاعتماد عليها؟
الاعتماد على الأمل والتفاؤل وحدهما لن يجلب لك سوى نشوة مؤقتة.
ينصح الكاتب بأهمية بذل الجهد وإعمال الخيال والتدريب وطلب النصيحة قبل استشارة كتب تطوير الذات، التي يراها مناسبةً فقط بعد استنفاد كافة الحلول وبذل أقصى مجهود، ويشير إلى أنه يمكن اعتبار علم النفس الشعبي شكلًا من أشكال «علاج الروح الذاتي»، إذا اعتبرنا أن الإنسان لديه انحياز طبيعي إلى أن يشعر بأن إرادته وحدها قد تحقق ما تعجز عنه الإمكانيات الجسمانية.
قد يهمك أيضًا: 5 أسئلة ستجعلك تدور حول ذاتك.. لحظة، ما هي ذاتك؟
من حقكِ أن تحلمي بقوام رشيق وقصة حب هائمة، ومن حقكَ أن تحلم بسعادة خالصة ورصيد كبير في البنك، ولكن كُن على يقين أن الاعتماد على الأمل والتفاؤل وحدهما لن يجلب لك سوى نشوة مؤقتة، فـلن يتغير مصيرك ولا الكون من حولك إلا بمزيد من الجهد والبحث عن الأسباب، ولن يأتيك المال إذا رددت عبارة «أنا غني» بينما أنت مستلق على السرير.