العام هو 1949، الولايات المتحدة الأمريكية خرجت منتصرة من حرب كونية، ألقت بسلاحها الشيطاني الجديد على الجزر اليابانية، الاحتفالات التي ملأت الشوارع انتهت إلى الواقع الجديد، كيف سيكون شكل العالم بعد التغييرات الجذرية الكبيرة؟ وكيف يواجه الشباب عالمًا جديدًا، عرفوا فيه أن البشرية تملك أسباب فنائها؟ النهاية يمكن أن تكون بضغطة زر، هذا السؤال الهاجس هو ما سيطر على الشباب الأمريكي في سنوات ما بعد الحرب، «الحلم الأمريكي» وهو يتحول إلى واقع بسوءاته وكوابيسه.
لم يكن «سال بارادايس»، الشاب الأمريكي من أصل إيطالي مواليد عشرينيات القرن الماضي، مختلفًا عن الشباب في هواجسه وأفكاره بعد الحرب، ابن الطبقة الوسطى المرسومة حياته سلفًا، حتى تتاح له الفرصة مواتيةً للتمرد.
ذلك التمرد تمثل في شاب تعرف إليه سال في نيويورك فأخذ لُبَّه تمامًا، هو «دين موريارتي». شابٌ، على خلاف بارادايس، ابن الطبقة المنسحقة، المتمرد على خضوعها بالترحال. في الوقت الذي كان البقاء في نيويورك أمرًا مرهقًا لسال، حيث يضيق مجال الاستكشاف مع تعاقب الأيام فيها، سيقرر البدء بمغامرة السفر، وكل ما في ذهنه أنه سيكون في هذه «التجربة المجنونة» مع صديقه الجديد.
«سيدبر لي دينْ أموري حين أصل»، هكذا فكر في صديقه باعتباره مثيله في السن ومثله الأعلى في الخطيئة، فهو الذي تعرف إليه ليكتشف في نفسه بذور التمرد، وما فعله معه مورياتي هو النبش في داخله عن موقعها.
كان دين موريارتي هو الأنا الأعلى لسال بارادايس، حظي كل واحد من الاثنين بقسط من الغيرة تجاه الآخر: سال كان يصبو للوصول إلى ما عاشه دين، سلاسة أفعاله، الحرية المطلقة في ارتكاب الأخطاء دون أن يقيده الانتماء القسري إلى تطلعات الطبقة الوسطى، في حين كان دين يحسد سال على درجة الاستقرار التي وفرتها له بشكل ما طبقته الوسطى هذه، ومنزله الهادئ، وإمكانية الالتجاء الدائمة إلى العائلة.
المرور بتجارب إدراكية من أثر المخدرات كان فصلًا من الرحلة، التوغل في عمقها اقتضى على ما يبدو استخدام كل ما أنتجته الأرض الأمريكية.
طلب سال من عمته التي ترعاه سلفة مادية للهروب من البقاء في دائرته التي لا تتوقف عن التكرار، وسافر هو ودين بسيارة من نيويورك مرورًا بأريزونا وتكساس، يسرقان البنزين والغذاء حين يحتاجان إليهما، وحين وصلا سان فرانسيسكو كانت موسيقى الجاز تشتعل في المدينة. لكن عن أي غربٍ كان يبحث؟ غرب صديقه دين موريارتي، رجل الوظائف المتعددة المحاط بالنساء والمخدرات، الذي كانت الكلمة الأولى والأخيرة عنه؟ أم غربًا قديمًا لا يزال يداعب مُخَيَّلة أسر الطبقة المتوسطة، التي تشبعت بنفحات الحلم الأمريكي المسقوف بمنزل وسيارة ووظيفة مستقرة يزيد معها حساب بنكي بإمكان المرء الاستفادة منه في رحلات صيفية إلى البيت الشاطئي على سواحل فلوريدا؟
فكرة السباحة في الطرق الطويلة إلى اللا مكان جذبت شبابًا كانت بلادهم قد خرجت لتوها من حرب مدمرة، وتثيرهم فكرة مفادها أن عليهم، في بعض الأوقات، مواصلة سماع أصوات المدينة كي يشعروا أنهم لا يزالون أحياء، كأنه نوع من الإدمان: السيارات والضجيج والصراخ والهتاف وسارينة مدرعات الشرطة، لكن سرعان ما يحثهم شعور جارف بالتحرك من هذا المكان، حتى لو في قرارة أنفسهم كانوا يعلمون أن العودة إليه حتمية في وقت ما.
اقرأ أيضًا: كيف يساعدك السفر في إعادة النظر للعالم؟
كانت المغامرة محاطة بصحبة لا تنتهي من الإخفاقات والانتصارات، وبالرغبة الملحة في تدوين اللحظات.
كان الاتجاه ناحية الغرب هو المسلك الأول لمستكشفي الأرض الأمريكية الجديدة، الصيحة العارمة التي أعادها سال ودين إلى المشهد الأمريكي، دعوة للعودة إلى الأساسيات، استكشاف الأرض الممتدة غربًا كما فعل أباؤهم.
أما المرور بتجارب إدراكية جديدة من أثر المخدرات فكان فصلًا من الرحلة، التوغل في عمقها اقتضى على ما يبدو استخدام كل ما أنتجته الأرض الأمريكية. وعليه، فكانت أبواب الإدراك التي فتحها من قبل السكان الأصليين، الذين أُطلق عليهم الهنود الحمر، باستخدام المخدرات المهلوسة هي الأبواب التي سعى جيلَيِ الخمسينيات والستينيات لطرقها سعيًا لاستكشاف جديد لأرضهم، كانت التجربة مزجًا بين هدف المستوطنين الأُوَل في أمريكا، ونمط الحياة لسكانها الأصليين.
يتقدم دين موريارني مسرعًا نحو سان فرانسيسكو، ساعيًا نحو عاطفة ما تحثه على الرحيل، الرحيل من المكان والأفراد، ولهذا تعددت زيجاته وعلاقاته في خط زمني واحد. هي ذات العاطفة التي لم يتمكن بسببها سال من الاستقرار في مكان واحد فحمل حياته من حافلة إلى مقطورة إلى عربة إلى قطار، ومن مدينة إلى قرية باحثًا عن شعور بالمغامرة. خيار العودة إلى بيت العائلة كان موجودًا دئمًا، لكن شهوة الرحيل كانت الأقوى في معظم الأوقات.
قد يهمك أيضًا: كيف غيرت رحلة إلى الخليج أفكار أمريكي عن العرب؟
المغامرة كانت محاطة بصحبة لا تنتهي من الإخفاقات والانتصارات، وبرغبة مُلِحَّة في تدوين اللحظات. في سان فرانسيسكو يتعرفان إلى رجل يكبرهما سنًّا يُدعى «لي»، محبٌ للتمرد مثلهما لكن على طريقته، مدرس يحب الأسلحة وشكسبير والهيروين، الذي يتعاطى منه العديد من الغرامات حَقْنًا حتى تفقد الكلمات اتزانها في رأسه وتتساقط على الورق، بينما يصيح بجنون في من يجلسون حوله ويتكهن بمستقبلهم، الذي يكون على الأغلب «أسود» بحسب تنبؤاته.
لكن الرحلة ما كانت لتكتمل بدون هذه العوامل على كل حال، التزم سال بمبدأ الاستكشاف طَوَال الرحلة، لم تنتهِ الأسئلة، ظل يدون في رأسه ما يشاهده كما لو كان يتعلم المهمة عِوضًا عن الاندماج فيها.
بعد الرحلة غير المرتبة، كانت العودة دون شك ضرورية حين انتهى العالم بسال ودين في المكسيك. لم يأخذ سال نصائح من نصحوه بأن دين مسَّه الجنون وسيحظى بنهاية سيئة، لكن هذه النهاية ما كان سال ودين ليعرفاها في المكسيك بين هذا الكم من التيكيلا وهذه اللحظات العديدة من النشوة الجنسية إذ بدت النهاية بعيدة، غير أن الحُمَّى كانت في انتظار سال.
كانت الرحلة شرارة إلهام لجيل كامل عاش حياته مع المخدرات والحياة على الطريق بين المدن والقرى.
رغم كل ما في الرحلة من تعثر ومعوقات، فإن سال لم يتمكن من تحقيق الانتصار والتجربة إلا بعيدًا عن مسقط رأسه، حيث يتجرد المرء من الاندهاش وتتعادل الاحتمالات في محيطه المغرِق في التكرار، وتبدأ مرحلة النسيان، تتلاشى التفاصيل والأحداث السابقة واليومية من الذاكرة، ثم تقتل الأحداث الراهنة ما تبقى، ويعيد تشكيل الوعي مرةً أخرى التأرجحُ بين الجنون والاكتئاب.
حتى حين عاد سال إلى نيويورك، كان لا زال دين موريارتي رابضًا في ذاكرته، أما مُخَيَّلته عن الأيام القادمة فقد تشبعت بتجارب شديدة التأثير، جعلته يدرك أنه افتتح مشروعًا سيشارك فيه جيل كامل من شباب الستينيات، أُطلق عليهم لاحقًا «الهيبيز»، بدأه هو بتوثيق رحلاته المجنونة، التي تحولت، في وقت لاحق، إلى مانيفستو شباب الستينيات.
أما موت سال فجاء بعد سنوات صارت فيها الهيبيز هي العلامة المميزة للستينيات، في نهايتها تحديدًا عام 1969، وهو بعدُ لم يكمل الخمسين، بنزيف من الإفراط في شرب الكحوليات.
قد يعجبك أيضًا: الكنز في الرحلة: ﻻ تشترِ السلعة، اشترِ التجربة
لم يمُت سال في سياق رواية «على الطريق» التي ألَّفها «جاك كيرواك»، والتي تحولت في ما بعد إلى فيلم بالاسم ذاته، لكن كيرواك هو سال، هو «أناه» المتخيَّلة التي استطاع عبرها توثيق ما كان المجتمع الأمريكي لا يقبل تخليده إبداعيًّا، رحلته ودين موروياتي، أو «نيل كاسيدي»، في الواقع هي التي صارت شرارة إلهام جيل كامل عاش حياته على نَسَقِه، المخدرات والحياة على الطريق بين المدن والقرى. مات واحد من رموز التمرد الشبابي بالطريقة التي عاش بها، وكأن رحلة المكسيك المجنونة كانت نبوءة لنهايته المستقبلية، وكأن الفارق بين الخيالي والواقعي هو محض فكرة في ذهن «سال بارادايس كيرواك».