مملكةٌ آمنةٌ ومطمئنة ومتقدمة وليس لها أي اتصال بالعالم الخارجي، فلا أحد يأتي إليها من الخارج إلا برغبتها، ولا أحد من أبنائها يتجاوز جبال الإنديز حيث يقيم. وفجأة جاءها دخيل من حضارة مختلفة تمامًا، الحضارة الأوروبية، أو الغزاة الإسبان على وجه التحديد. زعزع هذا الدخيل أمنها، وأخلّ بنظامها واستقرارها، وأسقط أكبر مجتمع في أمريكا الجنوبية: إمبراطورية الإنكا.
من الإنكيون؟ ما الذي مَكّنهم من بناء تلك الإمبراطورية الشاسعة التي كانت قائمة في القرن السادس عشر عندما وصل الأوروبيون إلى أمريكا الجنوبية؟ ما الذي يميز إمبراطورية الإنكا عن غيرها من الثقافات والحضارات الأخرى؟
الإنكا: بين الوثائق والآثار
إمبراطورية الإنكا أسستها شعوب تنتمي إلى سكان أمريكا الأصليين، في مناطق أصبحت الآن ما نعرفه ببيرو وبوليفيا والإكوادور. بلغت المساحة الجغرافية التي امتدت عليها الإنكا أكثر من 990 ألف كيلومتر مربع. وظهرت جمهورية الإنكا قرابة عام 1100، واستمرت حتى الغزو الإسباني عام 1532.
قد يعجبك أيضًا: 5 حضارات قديمة لا يزال اختفاؤها لغزًا
هناك مصدران أساسيان يُتيحان للباحثين إعادة بناء حياة الإنكيين:
- الوثائق التاريخية
- الأركيولوجيا (علم الآثار والفنون القديمة)
بالنسبة إلى الوثائق التاريخية، فلم يكن للإنكيين نظامٌ كتابيٌ خاص بهم، بل كانوا يستخدمون نمطًا لغويًّا يُسمى «كيبو»، ويسمى أحيانًا «الشبكة الناطقة».
كانت كيبو أداة التسجيل لدى إمبراطورية الإنكا، وتتألف من خيوط ملونة مَجدُولة أو خيوط من صوف حيوان اللاما تتكون من حبال قطنية ترمُز إلى قِيَم عددية، وأخرى مشفرة تُعقَد على قاعدة نظام عشري افتراضي. لذا، جاءت المعلومات المتاحة لدينا من الإسبان الأوائل الذين كتبوا وثائق عنهم. وتضمنت هذه الوثائق روايات عن الفتح الإسباني، ومدونات وضعها إسبان سعوا إلى تنظيم الشعب لأغراض جباية الضرائب.
أما علماء الآثار، فحاولوا استخراج أدوات هذا المجتمع الماضي وبقايا الأغذية والبيوت. لكن المشكلة التي واجهها العلماء أن هناك أنشطة لا تُخلِّف بقايا، مثل الأديان واللغات وأشكال الزفاف. المشكلة الأخرى أن الطبيعة تجنح إلى تدمير كثير من المواد التي لا تتحمل البقاء بمرور الزمن، فيندر العثور على أشياء مثل الخشب أو العظام أو القماش.
أثريًّا، يمكن توثيق الإنكيين كمجموعة اجتماعية متميزة منذ عام 1200. واتضح أنهم كانوا واحدة من مجموعات إثنية صغيرة عاشت في المرتفعات الجنوبية في بيرو. ولم تكن مجموعة الإنكا أكبر المجموعات السياسية أو أشدها قوة. لكن بعد غزو أراضيهم على يد مجتمعٍ منافس لهم، بدؤوا يغزون الدول المجاورة في عام 1438. كان هذا هو الحافز الذي دفع إمبراطورية الإنكا إلى التطور، فدامت حتى غزاهم الإسبان في 1532 بقيادة «فرانسيسكو بيزارو».
حكام محليون، وأحلام السيطرة على العالم
يُعرف القليل عن ملوك الإنكا الثمانية الأوائل، حتى أن الروايات عن عهود حكمهم غير مثبتة، سواء من الإسبان أو من الباحثين اللاحقين. إلا أن السجلات الأثرية ترى أنهم كانوا حكامًا محليين تقتصر سُلطاتهم على المنطقة المُحيطة بكوزكو، عاصمة بيرو الآن.
تقول أسطورة أصل الإمبراطورية إن أسلاف حُكام الإنكا خلقهم إله الشمس، وهاجروا من كهف يُدعى «تومبو توكو». كانوا أربعة إخوة وأربع أخوات يرأسهم الأخ «آيار منكو»، الذي حمل صولجانًا ذهبيًّا به إرشادات اكتشاف مكان معين، هناك ستبتلع الأرض الصولجان، وتكشف لهم أكثر المناطق خصوبة. وبعد بحث مكثف، وصل منكو وإخوته إلى وادي كوزكو، حيث غطس الصولجان في الأرض، فطردوا السكان الأصليين وحاربوهم، وأسسوا عاصمتهم، وتحول آيار منكو إلى «منكو كابك»، أول «سابا إنكا» (ملك الإنكا).
يتفق أغلب الباحثين على أن براعة الحكام في التنظيم العسكري بإدارة الشعوب هي ما مَكّن الإنكيين من إنشاء أكبر إمبراطورية في العالم الجديد. لكن على الرغم من أن هذه البراعة تفسر كيف تمكنوا من بناء إمبراطوريتهم، فإنها لا تفسر لماذا فتح الإنكيون منطقة شاسعة كهذه.
لم يعطِ أي أحد سببًا مقنعًا لهذه الفتوحات، إلا أنه من الأسباب المرجحة أن الفرد في مجتمع الإنكا يجب أن يكون شخصًا محاربًا. لذا، كان شغل الفتيان الشاغل تطوير خصائص تنفعهم في أن يكونوا مؤهلين للحرب. سببٌ آخر هو طموحات ملوك الإنكا السياسية، إذ إن «باتشاكوتي»، الحاكم التاسع للإمبراطورية، سيطرت عليه فكرة حكم العالم، فواصل توسعاته بهدف جمع مغانم شخصية.
من المُحتمل كذلك أن معتقدات الإنكيين الدينية المقترنة بالعوامل البيئية هي التي قادتهم إلى هذه الفتوحات. فقد كان نظام حكمهم وراثيًّا، وبموجبه يترك الملك أرضه وثروته لكل العائلة عدا وريث العرش، إذ على الملك الجديد أن يجد بنفسه مصادر ثروته. ويستند هذا إلى ديانتهم، فالإنكيون يعتقدون أن الملوك لا يفنون أبدًا، بل هم إلهيون. لذا، تبقى ثروتهم تحت سلطتهم إلى الأبد.
مميزات حضارة الإنكا
شكّلت آثار الإنكا المعمارية أحد المآثر التي ذاع صيتهم بها، فاشتهروا بأنهم بناة صخور بارعين، إذ تمكنوا من تشييد بنايات من صخور ضخمة تُرصَف مع بعضها بدقة عالية، ودون أن يستخدموا الإسمنت أو الملاط، وحتى بعد مرور أكثر من 400 عام، لم تقدر عليها الزلازل.
أسس الإنكيون نُظمًا انتشارية لحقولهم الزراعية، التي تشبه سلالم تصعد على أكتاف الجبال، ما يسمح بإنتاج كميات كبيرة من الغذاء. وكثير من الحقول التي يستخدمها المزارعون اليوم أُنشئت تحت إشراف الإنكيين.
من الروائع الهندسية الإنكية أيضًا نظام الطُرُق المتسع. وعلى الرغم من أن الطرق لم تكن مُعبّدة على النحو الذي نراه اليوم، فإنها كانت مُعدّة بعناية تناسب تضاريس المنطقة التي تمُر بها.
عُرف الإنكيون أيضًا بصناعة الأواني الفخارية، ولعل القِدْر الإنكي الأكثر نموذجيةً هو «الأريبالو»، وكانوا يزخرفون القدور بأشكال مثلثة أو تشبه الريش. ويُعزَى اتساق تصميماتهم الفخارية إلى أنهم كانوا يصممون الأواني والمباني كرمز للرِّفعة على الرعايا، فكانت هذه المصنوعات أشبه بكناية عن سلطة الإمبراطورية لكل من يراها.
اقرأ أيضًا: المدن الضائعة في التاريخ: ماذا نعرف عن هشاشة الوجود الإنساني؟
سيطرة رجال الدين
أكبر 3 آلهة عند شعوب الإنكا: «إنتي» أي الشمس، و«إلّابا» أي الرعد، و«ماما كيلا» أي القمر.
كانت ديانة شعوب الإنكا معقدة للغاية، وتشدد على الالتزام بالرسميات والطقوس، وتركِّز معظم الأنشطة على الممارسات الزراعية وعبادة الرب أو شفاء المرض. ولهذا، كان عدد الكهنة الإنكيين كبيرًا، فكانوا يديرون ممارسات الدولة الدينية الرسمية، ومنهم من تخصص في تقديم الاستشارات الشخصية للعوام. ولم يكن هناك أي إجراء حكومي يُتخذ دون استشارة الأرباب، فكلما زادت أهمية النشاط، زادت أهمية الطقوس الدينية التي تُجرى لإتمامه.
تعددت الآلهة في الإمبراطورية، فلكل إله مجال معين من النفوذ والسلطة. كان أشد الآلهة سطوةً «فيراكوتشا» الخالق، لم يكن ذكرًا ولا أنثى، وهو من أعطى الآلهة الآخرين ما لديهم من سلطة، لذلك رأى الإنكيون فيه أعظم سطوة. لكن لمّا كانت الآلهة الأخرى أكثر قربًا وأثرًا وتحكُّمًا في أفعال البشر، انشغل الشعب بإقامة طقوس لها أكثر من «فيراكوتشا».
أكبر ثلاثة آلهة كانوا «إنتي» أي الشمس، و«إلّابا» أي الرعد، و«ماما كيلا» أي القمر.
إنتي هو إله الزراعة، وكان أقواهم، ويمثّله قرص ذهبي تخرج منه أشعة، وفي وسطه وجه بشري. أما إلّابا، وهو الثاني في القوة، فكان المتحكم في المطر، ويُصوّر كرجل في السماء يرتدي ملابس مشعة وفي يده هراوة حرب، وفي الأخرى مقلاع. أما ماما كيلا فكانت زوجة الشمس، ولم يبدُ أن لها وظيفة خاصة، غير أن دورة القمر كانت أساس التقويم الإنكي.
أين نحن من حضارة الإنكا الآن؟
تعرض كثير من المواقع الأثرية الإنكية للدمار بسبب التطور ونمو عدد سكان منطقة الأنديز، إذ يبلغ عدد سكان كوزكو الآن 300 ألف نسمة، وهذا يزيد عن حجمها في عهد الإنكيين بـ10 أو 20 ضعفًا، لذلك دُفنت كوزكو القديمة تحت التوسع الحضاري وآثار الحداثة.
أيضًا، شكّلت عمليات السلب والنهب سببًا رئيسيًّا لهذا الدمار، فمع بداية الغزو الإسباني، أخذ الأوربيون يحفرون في أي شيء يبدو لهم أنه يحتوي على كنوز الإنكا أو من سبقوهم، وبهذا اندثر معظم آثار واحدة من أعظم الإمبراطوريات في أمريكا الجنوبية.