على مدى العقود القليلة الماضية، حظي مجال الذكاء الصناعي باهتمام عالمي متزايد، وتطور باطراد مِن أجهزة كمبيوتر تتحكم في الطائرات وتحلق بها، وأخرى تدقق في صور الأشعة السينية وتسهِّل تشخيص الأمراض، إلى خوارزميات ترسم لوحات فنية رائعة وتؤلف موسيقى تضاهي موسيقى باخ وبيتهوفن، وتتمتع بـحب الاستطلاع والفضول.
دفع هذا التقدم المتسارع بعض أشهر الشخصيات في العالم إلى التحذير من الخطر المحدِّق بالجنس البشري إذا ما أطلقنا العنان لهذه التكنولوجيا، وكذلك حذر عديد من الخبراء من أن دخول الذكاء الصناعي سوق العمل سيؤدي إلى فقدان كثير من الوظائف وارتفاع معدلات البطالة. في المقابل، هناك أصوات ترى في هذه التكنولوجيا فرصةً لتوفير مستقبل أفضل، ويؤكد آخرون أن التغيير الذي نحن على أعتابه في سوق العمل سيدفع الناس إلى التكيف مع الأوضاع الجديدة واستحداث وظائف أخرى.
غالبًا ما يحتدم الجدل بين المتخوفين من الذكاء الصناعي والمؤكدين لأهميته حول هذه النقاط بالذات، إذ نادرًا ما يجري التطرق إلى جوانب غيرها، مثل تبعات خلق ذكاء صناعي متفوق على تصورنا التقليدي للدين والعلاقة مع الله، ونتائج هذا على فهمنا لنصوص الكتب المقدسة، خصوصًا في المواضع التي تتطرق إلى أشكال الحياة التي تسري عليها أحكام الثواب والعقاب، وغيرها من الأحكام الخاصة بالنوع البشري والمحصورة عليه.
في حين أن معظم علماء الدين لا يهتمون كثيرًا بالتطورات المستمرة التي يحققها الذكاء الصناعي، فإن مهندسي الأنظمة والخوارزميات الذكية مقتنعون بأنها سائرة في اتجاه حتمي نحو الاستقلالية والتحكم الذاتي، ما سيجعل هذه التكنولوجيا، بالإضافة إلى عديد التساؤلات التي تثيرها في ما يتصل بإمكانية اعتناق الآلات للدين، بمثابة أكبر تهديد للأديان السماوية منذ كتاب تشارلز داروين «أصل الأنواع»، وفقًا لما جاء في مقال منشور على موقع «ذي أتلانتيك».
على مشارف ثورة دينية إلكترونية
صعود الآلات الذكية إلى مرتبة تضاهي الإنسان سيغير طريقة تعريفنا لمفاهيم مثل الوعي والروح والنفس.
عندما قال غاليليو إن الأرض تدور حول الشمس في القرن السابع عشر، كان هذا الرأي يتحدى تفسيرات الكنيسة للكتاب المقدس ويهدد سلطتها، التي روَّجت على أساسها للفكرة القائلة إن الأرض مركز الكون، إلى درجة أن كل من قدم تفسيرات مغايرة اعتُبر مهرطقًا يستحق الإدانة والتصفية الجسدية في أحيان كثيرة.
في القرن التاسع عشر، خرج داروين بنظريته الشهيرة عن أصل الأنواع، التي ضربت النموذج المسيحي التقليدي عن أصل الحياة في الصميم، ودفعته إلى مُساءلة كثير من النصوص الواردة في الإنجيل، ومحاولة الخروج بتفسيرات تتواءم مع النظرية الجديدة، وهو الاتجاه الذي استمر بعد ذلك مع علم الوراثة وعلم المناخ.
جاء الدور الآن على تقنيات الذكاء الصناعي، فالمستقبل الذي تصبح فيه الآلات قادرة على إبداء المشاعر والوعي بوجودها ووجود غيرها والتفكير من تلقاء نفسها، سيتبعه حتمًا تغيير جذري في كيفية تعاملنا مع النصوص الدينية وفهمنا لها وطريقة تفسيرنا لما جاء بين صفحاتها.
لنأخذ مفهوم الروح على سبيل المثال، فمعتنقو الأديان السماوية يرون أنها عنصر إنساني فريد، ومكون جُوَّاني لا مادي خالد غير مرتبط بالجسد البشري، ما يعني أن صعود الآلات الذكية إلى مرتبة تضاهي الإنسان، أي تمكُّنها من اتخاذ قرارات بحرية دون حاجة لوسيط خارجي، سيغير طريقة تعريفنا لمفاهيم مثل الوعي والروح والنفس.
اقرأ أيضًا: تقنيات الذكاء الصناعي: هل حان أوان القلق بشأن مستقبلنا؟
الذكاء الصناعي معضلة دينية
ترى كتب الديانات التوحيدية أن الإنسان صنع الذكاء الصناعي، وبالتالي لا تدخل الآلات الذكية في خانة المخلوقات التي أبدعها الله، وبالتالي فهي لا تمتلك روحًا.
في حين أن الحياة الذكية التي تنشأ في المختبرات، مثل أطفال الأنابيب، تعتبر كائنات لديها روح، رغم أنها نشأت خارج الأُطُر المعروفة للولادة البشرية، فما الذي سيحصل إذا أصبحنا قادرين على تشفير الدماغ البشري وتخزين نسخة رقمية من أنفسنا داخل الآلات؟ هل ستكتسب الآلة في هذا الحالة روحًا؟ وعلى نفس القياس، هل يمكن القول إن الآلات الذكية التي تتمتع بحرية الإرادة لديها روح؟
هذه الأسئلة توصلنا إلى قضية محورية تتحدى المفاهيم الدينية الكلاسيكية، ففي حالة أن الذكاء الصناعي لديه روح، فهذا يعني أنه سيصير قادرًا على تكوين علاقة مع الله، وهو ما سيحتِّم إعادة تعريف مفهوم الحساب الأُخروي، الذي يشمل جميع المخلوقات الحية، التي ستكون بينها الآلات الذكية المتفوقة.
قد يهمك أيضًا: هل يمكن دمج جسد الإنسان والآلة؟
هناك أيضًا مسألة الخطيئة والذنوب، فإذا افترضنا أن الآلات الذكية بدلًا من أن تقضي على الجنس البشري، مثلما يُشيع كثيرون، تقرر أن عدم ارتكاب الأفعال الشريرة هو الخير المطلق، أي أنها ستكون متدينة بصورة أفضل من المتدينين من البشر، مما سيؤثر بدرجة كبيرة في نظرتنا إلى الدين وتأويلنا لنصوص الكتب المقدسة.
كذلك، سيثير الذكاء الصناعي تساؤلات عدة عن الكيفية التي يتقرب بها إلى الله، خصوصًا إذا تعمقنا أكثر في طريقة نشوء الآلات المتفوقة، فالآلات تُبرمَج لتنفيذ أمور بعينها، يمكن أن يكون من بينها الصلاة، فهل سيعد هذا، إن جاء نتيجة برمجة بشرية مسبقة، ذا قيمة فعلية؟ وكيف سيتغير تقييمنا له إذا وصلنا لعصر استقلال الآلات وأخذها بزمام أمورها؟
لا توجد إجابات سهلة عن هذه الأسئلة، وقد يقول من تُساوره الشكوك إن الموضوع لا يحتاج إلى كل هذا التنظير، إذ ما دام الله خلق الإنسان، حسب ما جاء في كتب الديانات التوحيدية، والإنسان صنع الذكاء الصناعي، فهذا يعني أن الآلات الذكية لا تدخل في خانة المخلوقات التي أبدعها الله، وبالتالي فهي لا تمتلك روحًا. رغم ذلك، صار هذا الموضوع يكتسي أهمية متزايدة، وقد يأتي وقت نضطر فيه إلى إيجاد إجابات شافية لهذه الأسئلة، حتى لا نفيق يومًا وقد أطلقت الآلات دينًا جديدًا خاصًّا بها، يكون بين معتنقيه أفراد من البشر.