كيف أسهم اختراع الورق في تغيير عالمنا؟

 جزء من مخطوطة تمبكتو - الصورة: eurastro

Be Open
نشر في 2018/04/15

ما الطريقة التي كان أفلاطون سيستخدم بها «تويتر»؟ هل كان سيُخبر العالم ماذا تناول على الغداء، أم يتحدث عن حفل جوائز الإيمي، أم يوبخ كيم كارداشيان؟

ربما لن يفعل، لكنه ترك لنا دليلًا إرشاديًّا، فقوله إن «الحكماء يتحدثون لأن لديهم ما يقولونه، أما الحمقى فيتحدثون لأن عليهم قول شيء» يلخص ما سيفعله. وعلى الرغم من أن هذا القول قد يكون منسوبًا إليه زورًا، فإن الشخص المجهول الذي أنشأ حساب «Plato» على تويتر في 2008 أخذ هذه الكلمات على محمل الجد، ولم يغرد بأي كلمة.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، والذي يورده مقال منشور في مجلة «The Atlantic»، هو: كيف غيَّرت صناعة الورق، كوسيط معرفي، طريقة التعامل مع المعرفة وطوَّرتها؟

يبدأ المقال بوصف علاقة أفلاطون المعقدة بالكتابة، أو في الواقع، بالتحولات الزلزالية للتغيرات التقنية التي شكَّلت نواة كتاب جديد مثير للإعجاب هو «Paper: Paging Through History» للمؤلف «مارك كيرلانسكي»، الذي صدر له كتابان قبل ذلك، هما  «Salt» و«Cod».

يستخدم كيرلانسكي في كتابه الجديد التاريخ المختصر للموارد والمواد، لاستكشاف التاريخ العالمي الأوسع للإمبراطورية والرأسمالية، ويلتقط مجددًا سلعة عادية كالورق لفحص ظاهرة أوسع، وهي المواقف التاريخية تجاه التقنيات المُدمَّرة. ويطرح سؤالًا حول كيفية امتصاص البشر المعلومات ونشرها.

إجابته تساعد على كشف التحول في كلٍّ من الجوانب السياسية والاقتصادية لكيفية وصول العالم إلى هذا التنظيم.

الكاتبة كتكنولوجيا جديدة

كتابة على ورق البردي - الصورة: Rijksmuseum van Oudheden

تطورت الكتابة عبر القرون، من الكتابة على الألواح الطينية التي سادت ثلاثة آلاف عام، وهي فترة أطول بشكل ملحوظ مقارنةً بالفترة التي استُعمل فيها الورق إلى يومنا هذا، بحسب كيرلانسكي، وتميزت بأنها غير مكلفة، ومتوفرة، ويسهل استخدامها.

لكن صعوبة حملها ونقلها شكل تحديًا كبيرًا، فتحول البشر إلى استخدام ورق البردي المأخوذ من نبات القصب الذي يكثر في المستنقعات، لكنه كان سريع التفتت والتفسخ. وظهر الشمع كأحد البدائل، فكان الأفضل للكتابة التي ينبغي التخلص منها. بعدئذ ظهرت الرُّقوق (جمع رَقّ)، وهي تُصنع من جلود الحيوانات المُعالجة. وللحصول على كتاب واحد نحتاج إلى جلود نحو مئتي حيوان.

لا يعرف أحد المنشأ الأصلي للورق، ويبدو احتمالًا بعيدًا أن شخصًا عبقريًّا اكتشف الفكرة بمفرده.

كما هو الحال مع جميع الاختراعات الجديدة، رأى بعض الناس أن الرُّقوق تمثل طريق المستقبل، في حين استهان بها آخرون. والأسباب وراء ذلك كانت سياسية بقدر ما كانت اقتصادية. فالرقوق كانت أكثر متانةً من ورق البردي، وبعيدة عن احتكار المصريين، لكنها لا تزال مكلفة نسبيًّا، وتحتاج إلى عمالة كثيرة لإنتاجها. وأثار قلق الحكام أيضًا فكرة أن زيادة التعليم والوصول إلى أفكار جديدة قد يؤثر في شعوبهم.

يوضح كيرلانسكي أن «طريقة تفكير جديدة بدأت في التشكل، وكان لا بد من تدوينها بطريقة جديدة، فظهرت الحاجة لمادة يمكن التخلص منها مثل الشمع، وخفيفة مثل ورق الشجر، ورخيصة كألواح الطين، ومتينة كالرقوق».

لا يعرف أحد المنشأ الأصلي للورق، ويبدو أمرًا بعيد الاحتمال أن شخصًا عبقريًّا اكتشف فكرة الورق بمفرده

يظن العلماء المعاصرون أن الصينيين اخترعوا الطريقة العامة لتصنيع الورق، عن طريق تحطيم ألياف السيليلوز ثم نسجه معًا عشوائيًّا، لكن تفاصيل القصة غير واضحة، ربما لأن القصص العظيمة تبدو أفضل بوجود بطل رئيسي.

يتعلم الأطفال الصينيون في المدرسة أن الورق ابتُكر في الصين قبل الميلاد بـ105 أعوام على يد أحد المخصيين في البلاط الملكي في عهد أسرة «هان»، كان يُدعى «تساي لون». فقد تزايد الطلب على مواد للكتابة في عهد أسرة هان، إذ ظهر التاريخ الوطني الصيني الشامل للوجود لأول مرة، وجرى إعادة إصدار الأعمال التقليدية التي دمرتها الأسر الحاكمة السابقة، ودُوِّن الإصدار الرسمي الأول من تعاليم كونفوشيوس.

الورق كمحرك للحضارة البشرية

مصنع للورق في تايوان - الصورة: Bernard Gagnon

 بمرور الوقت، عمل الصينيون على تطوير الورق ليصبح أقوى وأرقَّ وأقل تكلفةً في الإنتاج. وانتقلت هذه الابتكارات إلى العالم الإسلامي، الذي كان يعيش ثورة ثقافية عظيمة خلال القرن التاسع الميلادي.

تخلفت أوروبا عن ركب التطور هذا، ليس معلومًا السبب الذي جعل الأوروبيين يستمرون في استخدام الرقوق لفترة طويلة، لكن بسبب تأخرهم في استخدام الورق، تأخر تطورهم.

وحتى القرن الثالث عشر، كان كثير من ملوك أوروبا وأمرائها لا يجيدون القراءة ولا الكتابة. والسبب الرئيسي لاستخدام الأوروبيين الورق في نهاية المطاف هو رخص ثمنه. استخدموه في البداية لصنع أناجيل أفضل، ثم تعلموا بسرعة الاعتماد عليه في استخدامات أخرى، مثل النقود والمصارف.

نتيجةً لذلك توسعت إمبراطورياتهم، وفي القرن الثالث عشر بدأ الأوروبيون استقاء كثير من العلوم من الحضارات الأخرى، فتغيرت صورة أوروبا، وتوالت الاكتشافات واحدًا تلو الآخر، لكن هناك حدودًا لانتشار المعرفة، فصنع الكتب يستلزم عمالة كبيرة، إذ كانت تُكتَب بخط اليد، وهناك حاجة إلى نسَّاخين ومن يُملي عليهم، وهذا ما جعلها مُكلفة، وزاد على ذلك المَيل إلى ترصيع أغلفة الكتب بالجواهر.

استمر تزايد الطلب على الكتب، وبحلول القرن الرابع عشر كانت صناعة الورق نشاطًا صناعيًّا شائعًا في أوروبا، ما أدى إلى اختراع  الطباعة، وهو تطور عظيم آخر قدم دفعًا كبيرًا لمحركات الحضارة البشرية.

يلاحظ كيرلانسكي أن التغير الأعظم في أوروبا، الذي أدى إلى عصر النهضة، كان «خروج صخب الحياة الفكرية من الأديرة إلى الجامعات وغيرها من الأماكن، ليصبح عامًّا في متناول جميع الناس». 

وتمامًا كأفلاطون، لم يتقبل الجميع هذه الثورة.

يسرد لنا كيرلانسكي في روايته التاريخية كيف بدأ الناس يشتكون من التغيير واستخدام الورق، فيقول: «ككل تقنية جديدة كان هناك من يزدريها. فبعضهم يظنها همجية، وآخرون يرون فيها نهاية الحضارة، وقسم ثالث يرى أنها تُشكل تهديدًا لوظيفته».

وفرة الورق تؤدي إلى مزيد من الكتابة والبيروقراطية

الكتب المطبوعة لم تلغِ الكتب المخطوطة فورًا، فكثير من الناس استمروا في اقتناء المخطوطات.

بالعودة إلى القرن الثامن، اشتكى الشاعر الصيني «توا فو» من أن وفرة الورق تؤدي إلى مزيد من الكتابة، وهذا ما خلق مزيدًا من البيروقراطية.

ولأن الكتب كانت نادرة، فقد منحها ذلك قوة فريدة، أما الطابعات الجديدة، فقد كان يُظَن أنها تخفي أجندات سياسية خائنة، نظرًا لقدرتها على إنتاج الكتب بكميات هائلة. وعندما ذهب «جوهان فوست»، وهو مساعد الناشر الألماني «جوهانز غوتنبيرغ»، إلى باريس لبيع الكتب، طردوه من المدينة لأنهم عدُّوه عميلًا للشيطان. ورأى النساخون في انتشار الكتب والطباعة تهديدًا لوظائفهم، في حين نظر عدد من الأرستقراطيين إلى هذه البدائل على أنها تقليد رخيص، وشعروا بالخوف من فكرة قضاء النمط الجديد على القديم نهائيًّا.

لكن الكتب المطبوعة لم تلغِ الكتب المخطوطة فورًا، فكثير من الناس استمروا في اقتناء الكتب المخطوطة، تمامًا كما يفضل كثير من الناس اليوم الكتب المطبوعة على البدائل الرقمية الأرخص، أو يفضل بعضهم حياكة الملابس عند الخياط على الملابس المنتجة في المصانع. تنشأ هذه المخاوف عادةً بسبب مغالطات حول التقنية، وحالما تُختَرع تقنية جديدة، لا يمكن إيقاف عجلة التطور.

يكتب كيرلانسكي: «يطور المجتمع التقنيات ليواكب التغيرات التي تجري بداخله». فعلى خلاف ما كان «توا فو» يعتقده، فإن الكتابة لم تَخلق البيروقراطية الصينية، بل البيروقراطية هي التي استدعت تطور الكتابة. فمع تطور المجتمع الصيني وزيادة تعقيدات الحياة، نشأت الحاجة إلى الكتابة، ثم ظهرت ضرورة البحث عن مواد أفضل لاستخدامها في الكتابة.

يوضح كيرلانسكي وجهة نظره عبر مثال الصحافة، فهي صناعة يرتبط مصيرها بتاريخ الورق أكثر من أي شيء آخر. «بنجامين فرانكلين»، بارون الصحافة الأمريكية الأول، لم يُصدِر الصحف فقط، بل كانت لديه أيضًا استثمارات في 13 مصنعًا للورق. وفي عام 1753، أصبح مدير مكتب البريد العام، فازدادت المراسلات بين المستعمرات الأمريكية، وكان هذا الأمر مفيدًا لتجارة الصحف. وفي العقود التالية، أدى الحصول على ورق أرخص إلى الانتقال من الهجوم الصحفي الحاد إلى المنشورات، التي كانت أطول وأكثر تأملية.

الورق في مواجهة الإنترنت؟

الصورة: coyot

اليوم تصارع الصحف في معركة البقاء، ويتحول القراء إلى المنصات الرقمية، ليس لأن الناس لا يرغبون في قراءتها، وإنما، بحسب ما يراه كيرلانسكي، لأنها «تأسست منذ البداية وفق نظام اقتصادي لم يعد صالحًا للعمل». فوفق النظام القديم، تُحزَم أخبار الصحيفة كلها مع إعلاناتها، منشئةً اقتصادًا على مستوى يمكن أن يؤدي خدمة صحفية أفضل. واليوم تنتظم المنصات الرقمية حول نموذج أكثر تطورًا، فالإعلان مرتبط بشكل أقرب بالمتطلبات الفردية للمستخدم. وبالاقتران بفضاء الإنترنت الرحب، فإن هذا يخلق شكلًا يقدم الكمية على النوعية.

ليست التقنية هي الملومة على الحالة الحالية، فهي مجرد استجابة لمتطلباتنا بالحصول على اتصال أسرع وأرخص. هذه المطالب أوصلتنا إلى وضعنا اليوم، فلا يكمن التحدي في نقص المعلومات، بل ربما في وجود كثير منها. لا ينبغي تجاهل من ينتقد هذه الحالة كما تجاهلنا جماعة محطمي الآلات في القرن التاسع عشر، ففي كثير من الأحيان تكون شكواهم في محلها.

لا تدع ذلك يربكك، فحل هذه المعضلة حتمًا سيأتي مع ابتكار جديد، ربما مواقع أو برامج تقدم ترشيحات أفضل، أو بوابات موثوقًا بها أكثر، أو نماذج اقتصادية فعالة، وذلك لأن «التغيير ومقاومة التغيير يعملان معًا يدًا بيد»، بحسب كيرلانسكي.

مواضيع مشابهة