رحلة في الجذور العربية للمطبخ الصقلي

ترجمات
نشر في 2016/09/02

كنّا على متن الطائرة، وجزيرة صقليّة (Sicily) تبدو لنا في شكل كرة قدم مثلثة تتجه نحو المغرب العربي. إنها انعكاس لهوية صقلية نفسها، التي تقع بين شمال إفريقيا وأوروبا. هذا التقاطع هو ما أتى بي إلى هنا. لقد جئتُ بحثًا عن فكرة معيّنة، عن تعبير محلّي، عن السر الكامن في روح هذا المكان: mal d'Africa، وترجمتها علّة إفريقيا (مصطلح فرنسي يشير إلى حقيقة أنَّ معظم الناس الذين زاروا إفريقيا أصبحوا مأسورين بجمالها، ودائمًا ما يتوقون للعودة مرة أخرى).

بالنسبة إلى سكان صقليّة، علّة إفريقيا متلازمة قارية وهمية، شعور بالحنين لوطن ضائع، وشوق لوطن، لعب دورًا مهمًّا في تشكيل حياتهم. جميعنا لدينا الرغبة في العودة إلى مكان آخر من المستحيل العودة إليه مرة أخرى، ولكنَّ الناس هنا يتحدّثون عن «علّة إفريقيا» عندما يسافرون بعيدًا عن موطنهم فترة طويلة. إنهم يفتقدون وطنهم، إنهم بحاجة للعودة إلى صقليّة.

sicily_city_italy

في صباح يوم وصولي، اختفى كل شيء خارج نافذة الطائرة وراء السحب البيضاء. من هذه السماء الجيلاتية الملبدة بالسحب، هبطت الطائرة في باليرمو، تلك المدينة الصاخبة التي تحفّها أشجار النخيل، والتي هي أقرب إلى تونس منها إلى نابولي. عندما تدقّ الأجراس في الكاتدرائية الرئيسية بالمدينة (التي تتميّز هندستها المعمارية بالطراز العربي الإسلامي والبيزنطي الأرثوذكسي، والنورماني الكاثوليكي)، فيبدو صوتها مثل موسيقى الغاميلان التي تُعزف على الصنوج.

تخلّصتُ من تعب السفر، واستعدت طاقتي بتناول عصير البرتقال الطازج من مقهى صغير في قلب شارع سوق بالاريو، وهو بازار حيويّ شبه فوضويّ يجعل الحياة اليومية في باليرمو، مفعمة بالنشاط منذ أكثر من ألف عام. تتوافر أشياء كثيرة هنا، لكنَّ مصدر جذب الانتباه الحقيقي هو المنتجات الغذائية، الزيتون الأسود اللامع الكبير بحجم ثمرة الخوخ بجانب الليمون والصوص الحار. كما توجد أكوام من الكوسا الطويلة الجاهزة لأن تتحول إلى منسترا (شوربة خضار إيطالية)، وهناك أيضًا الزبيب والصنوبر والجوز، من ضمن المكونات الأساسية في العديد من الأطباق بجزيرة صقلية.

العرب والمطبخ الصقلي

sicily-man-food italy.jpg

على زاوية أحد الشوارع، هناك رجل يبيع خمسة أنواع من الباذنجان. «La caponata!» هكذا كان يصيح في الصباح. أجرينا محادثة إيطالية إنجليزية غير مفهومة إلى حد ما، أخبرني فيها أنَّ الذين جلبوا الباذنجان أول مرة إلى أوروبا هم العرب الذين حكموا صقلية قبل ألف سنة، وأنَّ الجمع بين الحلاوة والحموضة في طبق «caponata» هو في حد ذاته السمة المميزة للمسة العربية الصقلية.

هناك عدد قليل من البائعين الآخرين الذين يملؤون المكان بصيحاتهم، وهتافهم الجهوريّ، باستخدام طريقة أهل باليرمو للبيع بواسطة الهتاف. هناك بائع يهتف «Babbalucci» مرارًا وتكرارًا، وهي كلمة تعني القواقع البحرية باللغة الصقليّة (على العكس من كلمتي «chiocciole» و«lumache» المستخدمتين في سائر إيطاليا)، وهي كلمة حسنة الوقع على الأذن، ويُعتقد أنها مشتقة من اللغة العربية.

تُباع هذه القواقع البحرية وهي حيّة بكميات هائلة، وأصدافها يرتطم بعضها ببعض مثل صنوج حساسة، وهي تخرج من هياكلها الصدفية. وعندما سألت البائع عن كيفية تناولها، وضع أصابعه على شفتيه، وأصدر صوتًا يشبه التقبيل بصوت عالٍ. وأضاف ضاحكًا بشكل صاخب «قبِّلها!»، وتيقّن من أنني فهمت الطريقة الصقلية لإخراج المحار من الصدفة.

توقفت لشراء بعض الحلوى المسماة «Cornetti"، وهي عبارة عن عجينة شبيهة بالكرواسون، وقد أكدّ لي صاحب المحل أنَّها مليئة بكريمة الفستق، وليست مجرد حلوى جيّدة المذاق، ولكنها، في الواقع، «مذهلة». تساءلتُ لماذا؟ قال لي لأنهم يستخدمون الفستق من برونتي، من أشجار الفستق الأصلية على جبل إتنا. الفستق كنز آخر جُلب إلى صقلية عندما كانت تحت الحكم الإسلامي، وحشوة الفستق تضع حيلة مثيرة للاهتمام على الحكاية القديمة التي تقول إنّ الكرواسون صُنع ليشبه الهلال العثماني.

الأكشاك القريبة لبيع فطائر«pannelle di ceci» (التي تشبه الفطائر العربية)، وكذلك أرانسيني (arancini)، هذا الخبز الشهير في إيطاليا مع كرات الأرز المقلية التي يقال إنَّ وصفتها الأصلية تعود إلى سلالة الكالبيد (Kalbid) في القرن العاشر.

مدينة مركزية في حياة العرب

corkscrew_pasta_food

لم يمض وقت طويل حتى شعرتُ بأنني غارق بعمق في الجو الشمال إفريقي لهذا المكان، خصوصا إذا كان هذا هو ما جئت للبحث عنه. إنها رحلة كنت آمل أن أقوم بها منذ سنوات، وقد بدأتها بطريقة عَرَضية، فمن خلال تصفح الكتب الموسوعية عن تاريخ فن الطهو في كيبك بكندا، حيث نشأت، قرأت فقرة تشير إلى أنَّ المطبخ الفرنسي الكندي له جذوره في المطبخ الإسلامي في إيطاليا بالقرن التاسع. لقد كانت صقلية آنذاك مدينة مركزية في حياة العرب بالبحر الأبيض المتوسط، والتعاون بين الشرق والغرب والشمال والجنوب وإفريقيا وأوروبا.

المستوطنون المسلمون جلبوا القمح اليابس إلى إيطاليا، لاستخدامه في عمل المكرونة، والأرز لعمل طبق الريزوتو «risotto»، وقصب السكر لعمل الحلوى، والحمضيات، والسبانخ والحمص والخرشوف، وبذور السمسم، إضافة إلى الباذنجان، وعدد لا يحصى من المكونات الأخرى إلى جزيرة صقلية من شمال إفريقيا. لقد أصلح العرب مستعمرتهم بأنظمة جديدة في الزراعة، باستخدام «المُدَرَّج الزراعي» وقنوات الريّ. هذه، جنبًا إلى جنب مع الصوص والأرانسيني (كرات الأرز المقلية) وتقنيات الطبخ المختلفة، وهبت لهذه الأرض ما يعرف أحيانًا باسم مدرسة الطبخ العربية أو Arabo-Siculo.

يتناول العديد من الكتب الممتازة لماري تايلور سيمتي وكليفورد رايت موضوع المساهمات العربية في المطبخ الغربي، لكنها نُشرت في الثمانينيات أو أواخر التسعينيات. وهناك الكثير من الأمور التي تغيّرت خلال 25 عامًا. ما مدى وضوح الرابط بشمال إفريقيا الآن؟ هل لا يزال من الممكن فصل طبقات التأثير؟ هل يمكن فصل الآثار القديمة في النكهات الصقلية الحديثة؟ أنوي قضاء بعض الوقت لمعرفة ذلك من خلال التجوّل في جميع أنحاء الجزيرة، بحثًا عن الروابط المتبقية.

دليلي في هذه الرحلة، ماركو سكاباجنيني، الذي ينطلق بسيارته فورد غالاكسي رباعية الدفع. يعمل سكاباجنيني صحفيًّا وكاتبًا، وهو صاحب شركة «NicheItaly» للرحلات السياحية. ورغم العديد من المناطق التي استكشفها، فإنّه لم يبحث قط عن أدلة التأثير الدائم لشمال إفريقيا في مجال الطهي، ولديه فضول كبير مثلي لاستكشاف ذلك.

خط سير الرحلة يستلزم الذهاب إلى مدينة مختلفة كل يوم. وتهدف الخطة للتوجّه أولًا إلى قلعة إريس الجبلية، ثمّ النزول إلى الساحل الغربي، ثم السير جنوبًا على طول الطريق إلى مدينة سيراكوزا. وسنصل في نهاية المطاف إلى سفوح جبل إتنا في برونتي، بلاد العجائب الشهيرة بالفستق، قبل العودة مجددًا إلى باليرمو على طول الساحل الشمالي. إنها رحلة طموح، فجزيرة صقلية أكبر مما تبدو على شاشة المقعد الخلفي للطائرة. ولكن كلي ثقة لأنَّ هناك قائدًا محنّكًا يقود هذه الرحلة، على الرغم من أنَّها بدأت بشيء غريب، عندما اصطدم سكاباجنيني بنافورة أو تمثال عام أو بعض الحاويات الكبيرة. لا أستطيع التحديد بالضبط، لأنّه استمر في القيادة دون توقف للتحقق من الضرر. «كانت مجرد مزهرية كبيرة، لأشجار النخيل»، هكذا حاول سكاباجنيني طمأنتي، ونحن نبتعد عن باليرمو.

sicily_women_table food

مدينة آريس (Erice) تبعد نصف ساعة بالسيارة في حالة عدم وجود ازدحام مروريّ. ولكن للأسف، هناك دائمًا ازدحام مروريّ. وهناك شائعات تتردد بأنَّ المافيا تُبقي الطرق في مثل هذه الحالة التي يرثى لها. يمكن أن يأخذوا بعض العظة من الفينيقيين، الذين كانوا يحكمون هذا الجزء من الجزيرة، ولا تزال بعض جدرانهم الصخرية التي بُنيت في وقت الحروب البونيقية موجودة في آريس. المدينة نفسها، التي تطفو على قمة جرف، محميّة من الغزو، فالطريق نحو المدينة متعرّج وشديد الانحدار ومرصوف بالحصى، لذا قررنا السير على الأقدام. (هناك أيضًا التليفريك للصعود إلى القمة).

بالتأكيد تستحق الرحلة كل هذا العناء: بالقرب من القمة، نأتي إلى أعظم محل حلويات في العالم. منذ عام 1963، كانت الراهبة السابقة ماريا جراماتيكو تدير هذا المحل الشهير على مستوى العالم، المتخصص في الحلويات الشهية التي تستخدم وصفات قديمة من دير سان كارلو، وكانت منعزلة عن العالم الخارجي في شبابها.

اليوم تدير ماريا جراماتيكو محلها المزدحم بقبضة حديدية، مع مجموعة من الموظفين، يعملون في حالة من الخوف الدائم. أخبرت ماركو أنها تبدو مثل الإمبراطورة التي تهيمن على صناعة الحلويات في آريس. فقال لي إنها «صعبة المراس، ويمكن أن تكون وقحة قليلًا، لكنها تعاملني كحفيدها. وتعطيني نصائح ممتازة بخصوص العلاقات الإنسانية».

قبل أن نخوض في تفاصيل حياته الرومانسية، تحوّل انتباهنا إلى طبق خاص. تصوّرت أنَّه طبق كانولي، فنحن في صقلية رغم كل شيء. يضم الطبق جبن الريكوتا الطازجة وليست المحلاة بشكل مفرط، والحواف مغطاة بالفستق المفروم من برونتي. ربما كان هذا أفضل طبق كانولي تناولته في حياتي.

«والآن جرّب الأشياء الحقيقية»، هكذا كانت جراماتيكو تتمتم، وهي تقدّم لنا طبقًا به كرات الفستق الخضراء. إنها شهيّة جدًّا، لقد شعرت على الفور وكأن أسناني مطليّة بمسحوق السكر. بجانب كرات الفستق توجد قطع الجينوفيسي بالكريم، يليه طبق من البسكويت الحلو تطلق عليه جراماتيكو اسم «ثدي الراهبة»، إضافة إلى بعض الحلويات على شكل القبة والبيض تطلق عليها اسم سوسبيري، أو «تنهيدات». وقد أخبرني سكاباجنيني أنَّ هذه أشهى حلويات تعلّمت جراماتيكو صنعها في الدير.

قاطعته جراماتيكو وقالت إنَّ سرها الوحيد استخدام اللوز المرّ من مدينة أفولا. وأضافت: «إنّه أفضل لوز في العالم»، وكانت تنظر إلى وجهي وكأنها لم تقل شيئًا أكثر أهمية في حياتها من هذه الجملة الأخيرة.

سألتها: «كيف وصل اللوز إلى صقلية؟»

أجابت دون تردد ودون تغيير هذا التعبير الجاد على وجهها: «لقد جلبه العرب معهم".

وأنا أجلس هناك، أكتب الملاحظات، بدأت جراماتيكو توجيه النصائح لسكاباجنيني. وقال لي: «إنها تقول لي إنَّ السبيل الوحيد للحصول على قلب فتاة صقلية هي أن تكون مثابرًا ولا تستسلم. ماريا دائمًا محقّة».

سألته: «إذًا، أنت في حالة حب مع فتاة صقلية الآن، أليس كذلك؟".

فأجاب: «أنا دائمًا في حالة حب مع فتاة صقلية".

التراث العربي في نسيج الحياة الصقلية

sicily_ocean_beach sea italy

وصلنا إلى وجهتنا المقبلة، فرياتو وينري (Firriato Winery)، وهي مزارع عنب تضم مصنعًا للنبيذ، أقيم منتجع فاخر في تلال تراباني (Trapani)، وهي بلدة ساحلية خلابة حيث يأكل الناس أسماك الأنشوجة (Anchovies) في الهواء الطلق أمام مبانٍ جميلة في الشوارع القديمة. مدير المنتجع البرتو أوليفيرو، وهو رجل أصلع يشبه مارلون براندو، يتميّز بسلوك هادئ جدًّا، انضم إلينا لمشاهدة الغروب. إنّه رجل متّزن حتى إنك تشعر في وجوده وكأنك تمارس رياضة روحية.

سألنا أين سنذهب لتناول العشاء. فكر أوليفيرو لحظات، وأخذ رشفة من النبيذ الأبيض، وقال بصوت خافت «هوستاريا سان بيترو»، إنّه أحد المطاعم المفضلة في تراباني.

عندما وصلنا، في منتصف ليلة الأربعاء، كان المكان مزدحمًا جدًّا. الناس يأكلون على موائد مؤقتة وُضعت في موقف سيارات مزدحم في الخارج. وجدنا مكانًا في نهاية طاولة طويلة مغطاة بالبلاستيك بجانب بعض الصقليين السعداء جدًّا.«هوستاريا سان بيترو»  مطعم صقليّ بامتياز، ولكن الطعام يشبه طعام شمال إفريقيا بوضوح. قدّم لنا الطاهي تونسيّ الأصل فاداوي بدر الدين، بعض المقبلات الإيطالية على أطباق جميلة.

التهمنا الطبق المليء بالكرفس والصنوبر والجوز والصوص الحار الذي يعطي مذاقًا خاصًا للباذنجان. واستمتعنا بالفلفل المحمص الأحمر والأصفر في كسرات الخبز المحمص الذي يعده بدر الدين، وسمك الماكريل المملح، وطبق التونة مع البصل. لكنَّ الطبق المفضّل لديّ هو الحبار بصلصة الطماطم السميكة مع الحبر الخاص به الممزوج بالصوص الحار.

وصنع بدر الدين طبق البريك التونسيّ الرائع، وهي معجنات تونسية كلاسيكية لذيذة، محشوة بالسردين المنقوع في الخل. الأطباق التي تجمع بين الحلاوة والحموضة بشكل مذهل مع زجاجة «زبيبو» المحلية، التي شربها الجميع هنا. يُستخدم العنب في إنتاج نبيذ المارسالا، لكنه يُستخدم في الوقت الحاضر لأغراض أخرى، لإنتاج شراب خفيف وطازج يعرف باسم«al Qasar».هذا الاسم يحكي قصة امتنان صقلية للبستانيين العرب في الأيام الخوالي الذين غرسوا أشجار الفواكه الكثيرة على التلال الخضراء في كل مكان حولنا. أشعر بالنجاح للحصول على مثل هذه التفاصيل التي قد تبدو معلومات تافهة يمكن أن تلقي الضوء على غابات كاملة من التاريخ والشعور الذي نحاول أن نتجاوزه هنا.

المسألة لا تتعلق بصعوبة العثور على دليل على النفوذ العربي في صقلية، بل على العكس تمامًا، في الواقع، في الوقت القصير الذي أمضيته هنا، أصبح من الواضح أنَّ التراث العربي في الجزيرة منتشر، وداخل بشكل أساسي في نسيج الحياة هنا. إنَّ الأمر بسيط: هوستاريا سان بيترو، مطعم إيطالي بقدر ما هو مغربي. في مقاطعة كيبك، لا تحتاج إلى نظرة جادة لتدرك أنَّ المقاطعة فرنسية أكثر من الفرنسيين. شعار المقاطعة هو «أنا أتذكر» رغم أنّه لا أحد يعرف بالضبط ما هو الشيء الذي يجب أن يتذكروه. الشيء نفسه ينطبق هنا في صقلية: تبقى علّة إفريقيا ظاهرة لأنَّ الماضي العربي لجزيرة صقلية لا يزال حاضرًا حتى اليوم.

وأنا أدوّن ملاحظاتي على منديل ورقي، عرفت أن العرب أوّل مَن صنع الورق في هذا الجزء من العالم. وُقّعت أقدم وثيقة ورقية أوروبية مؤرخة في عام 1102 في صقلية، وها أنا بعد ألف عام أسجل أفكارك بهذه الطريقة البدائية: هل كان من الممكن أن تكون لدينا مناديل ورقية دون وجود العرب في صقلية؟ هل هناك شيء واحد لا ندين به للعرب هنا؟ هل نحن جميعًا صقليون عرب دون أن ندرك ذلك؟

تعطّل هذا الخط من التحقيق الحالم فور وصول المعكرونة المصنوعة في تراباني مع اللوز بالثوم والطماطم. نالت هذه المعكرونة إعجاب الجميع على الطاولة. «نخبك!» هكذا صاح سكاباجنيني. أنا سعيد جدًّا. إنها الساعات الأولى من ليلة بداية الأسبوع، ونحن نتقاسم النبيذ الجميل والرخيص، الأمر الذي يحمل رسالة من الشمولية والاحترام. ومهمتنا تبدو ناجحة حتى الآن.

scaccia-food italy

في اليوم التالي، تجوّلنا في بلدة مارسالا (من «مرسى الله»)، ورأينا أحواض الملح منقّطة بأشكال هرمية رائعة من بلورات ملح البحر، جنوبًا على طول الساحل. وتوقفنا في مدينة مازر ديل فالو، الممتلئة بالشوارع الجميلة الضيقة، ويطلق على الحيّ المركزي بالمدية اسم«La Casbah». أنهينا اليوم في فندق منفي في لا فروستيرا، تديره بلانيتا واينري. هنا يرسم الطهاة صورة توضيحية للتكامل العربي-الصقلي في الطعام، تتمثل في معكرونة دو لو ساردي. الطبق، الذي يجمع بين السردين الطازج والزبيب والصنوبر والجوز، والزعفران، يُعدّ النموذج الأصلي للطريقة التي كان يأكل بها الناس هنا من ألف سنة مضت، والطريقة التي ستظل دائمًا.

ثمة شيء بدأت أدركه عن هذا الطبق الأساسي، وهو أنه من المستحيل لمسافر مثلي تحليل الأشياء بأي طريقة نهائية. لقد كان هناك العديد من الغزاة لجزيرة صقلية، وببساطة ليس هناك أي وسيلة لتمزيق الروابط الثقافية المتداخلة من أجل التأكّد مما هو«إيطالي» وما هو«عربي» وما هو غير ذلك. في مرحلة معينة، تحديدًا في وقت ما بعد تناول المأكولات البحرية في جزيرة أورتيجيا وتذوق الآيس كريم بالفستق في كافتيريا لوكا في برونتي، عليك أن تتخلّى عن محاولة عزل التأثيرات المختلفة، وقبول فكرة أنَّ الجوانب التي لا حصر لها من الحياة في صقلية نابعة من الثقافة العربية بطريقة أو بأخرى. إنها تأثيرات عميقة وواضحة وذات مغزى، لكنها أيضًا سحابة تأثير كثيفة وغامضة مثل السماء الجيلاتية التي استقبلتني عند وصولي.

ربما ما يجعل المزيج العربي والإيطالي مقنعًا، هو ببساطة الطريقة التي يعكس بها الطبيعة المتداخلة والمختلطة للحياة هنا اليوم. هناك أفكار تدور في ذهني بشأن طبق «caponata» ونحن نتجول في مدينة راغوزا، التي تشبه مبانيها الحجرية المباني الليبية. هذا المجتمع الجبليّ المذهل هو أيضًا موطن لمخبز«Giummarra»، الذي يُعدّ أفضل بيتزا تناولتها في حياتي. يطلق عليها اسم«scaccia»، وهي بيتزا مليئة بالطماطم، وجبن كاتشوكافالو. ويوضح سكاباجنيني كيف أنها تشبه طبق البريك التونسيّ، مع أنها مخبوزة في الفرن وليست مقلية. في اللحظة التي تناولتها فقدت الاهتمام بمعرفة من أين جاءت أو ما أصولها. كل ما أعرفه أنها تجسّد السحر الذي أتصوّره عندما أفكر في الأرض الخالدة لجزيرة صقلية. 

sicily-fish-church_italy_food

المصدر: Saveur

مواضيع مشابهة