القتل فعل شنيع. أن تسلب حياة أحدهم، هذا من أفظع الأفعال التي يرتكبها الإنسان. ما الذي يحدث؟ هل يتجرَّد الفرد من إنسانيته في تلك اللحظات؟ كيف يُقدِم على هذا الفعل؟ ألا تخيفه الصرخات؟ منظر الدماء؟ نظرات الرعب في عين ضحيته؟ أسئلة مرعبة ربما تسألها في كل مرة تسمع بجريمة قتل.
تضج قاعات المحاكم كل يوم بالقَتَلة من جميع أنحاء العالم. لا يكون الأمر مفاجأة عندما يستقبل القاتل أقصى العقوبات: الإعدام أو السجن مدى الحياة. وسواء تعقدت ملابسات القضية أو لا، هناك دائمًا سؤال واحد يكرره المحققون: ما الذي أدى بهذا الشخص إلى أن يتخذ قرارًا كهذا؟
لكن ربما لم يكن الأمر في الأصل قرارًا، ربما سيق المجرم إلى أفعاله كما يُساق المنوَّم مغناطيسيًّا، يتحرك من دون وعي، ويؤمر بالأفعال، فيأتي بها. ربما للأمر أبعاد أخرى قد تجعلنا، ولو للحظة، ننظر إلى القاتل باعتباره هو الآخر ضحية.
تشارلز ويتمان: لم أقتلهم، لكن ربما عقلي فعل
شعر «تشارلز ويتمان» بأن شيئًا بيولوجيًّا داخله هو ما يسبب له أفكار القتل، فطلب تشريح جثته بعد وفاته.
في يوم مشؤوم من عام 1966، قتل المواطن الأمريكي «تشارلز ويتمان» أمه وزوجته، و16 شخصًا آخرين في ساحة جامعة تكساس.
ربما تبدو لك هذه حادثة كأي حادثة قتل جماعي يرتكبها معتوه، إلى أن تعرف أن القاتل هنا طلب في رسالة انتحاره تشريح جسده بالكامل لبيان السبب الذي جعله يُقدِم على المذبحة.
في التحريات، أشارت تقارير ويتمان الطبية إلى زيارات متعددة لأطباء مختلفين. «لا أفهم نفسي. مؤخرًا أصبحتُ ضحية عدد من الأفكار الغريبة. تتكرر تلك الأفكار داخلي باستمرار، ويتطلب مني الأمر مجهودًا فظيعًا للتركيز على مهمة مفيدة». هكذا كتب ويتمان في رسالة انتحاره الحزينة.
كان الرجل يشعر بأن شيئًا بيولوجيًّا داخله هو ما يسبب له تلك الأفكار، هذا ما أشار إليه في رسالة انتحاره، ولذلك طلب تشريح جثته بعد وفاته. هل كان حِس ويتمان مصيبًا في النهاية؟
في الثاني من أغسطس 1966، وبعد مقتل ويتمان بطلقات نارية على يد الشرطة، شرَّحوا الجثة. هنا يأتي الجزء المثير، فقد كشف التشريح أن ويتمان كان مصابًا بورم خبيث في المخ يضغط على منطقة تُعرَف باللوزة الدماغية (Amygdala)، والتي تتولى مسؤولية تنظيم السلوك العاطفي، وبخاصة ذلك الذي ينشأ عن أحاسيس سلبية مثل العنف والخوف.
ألا يعني كل ذلك أن ويتمان لم يكن يملك اختيارًا في ما ارتكبه من جرائم؟
بعد التشريح بأيام أقرَّت هيئة مكونة من أطباء من مختلف التخصصات أن الورم كان من أسباب عدم قدرته على التحكم في مشاعره وأفعاله. لم يكن لويتمان يد في الورم الذي قرر أن ينشأ في دماغه، لكنه قُتِل على أي حال. المحزن أنه في رسالة انتحاره أوصى بأن تذهب أملاكه إلى مؤسسة أمراض عقلية، ربما أملًا في ألا تتكرر معاناته في حياة شخص آخر.
قد يهمك أيضًا: العنف الأخلاقي: أعداؤنا بشر مثلنا.. ولهذا نقتلهم
كيف يتحول الإنسان إلى مجرم؟
المتَّفَق عليه أن للعنف سببًا جينيًّا وبيولوجيًّا لا يمكن تجاهله. يُصنَّف القتلة المتسلسلون في الأغلب تحت واحد من اضطرابين أساسيين:
- اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع
- اضطراب الشخصية الحدِّي
في اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، يفقد الشخص قدرته على الإحساس بأي مشاعر تجاه من حوله، ما يُسهِّل عليه ارتكاب أي جرائم دون أن يخلِّف ذلك تبعات في نفسه. أما في اضطراب الشخصية الحدِّي، فإن الشخص يفقد قدرته في التحكم في مشاعره بشكل كامل. الشخص المصاب بالشخصية الحدية قد يرتكب الجرائم ضد من حوله، حتى أفراد عائلته.
تختلف أعراض الاضطرابَيْن بشكل أو بآخر، لكنهما يشتركان في أنهما مرضان عقليان تعتل بهما وظائف الدماغ بشكل واضح. الدراسات تقول إن الأشخاص المصابين بأيٍّ من الاضطرابين يعانون نقصًا في هرمونات معينة أو انكماشًا في مناطق بعينها في المخ أو تشوهًا في مناطق أخرى.
المخ هو المُعتَل، وهو الذي قاد الشخص إلى الصورة التي أصبح عليها.
جين الإجرام: هل تتغير مسارات أحكام الإعدام؟
أقدم المواطن الجزائري عبد الملك بَيُّوت على قتل رجل لأنه سخر من شكله، ثم أثبتت الاختبارات أنه مصاب باعتلال الجين، فخُفف الحكم، ما أثار جدلًا واسعًا.
حين بدأ العلماء يدرسون الدماغ البشري في المجرمين والأشخاص شديدي العنف، توصلوا إلى اكتشاف مثير بعد سلسلة من التجارب: جين «MAOA».
«MAOA» مسؤول عن تكسير أنواع معينة من الناقلات العصبية التي تتولى مهمة توصيل إشارات مختلفة بين خلايا المخ. أدلة علمية متراكمة تشير إلى أن اضطراب أو وقف وظيفة الجين مقرونٌ عند الناس بسلوكيات عنيفة. فأصحاب النسخة المعتلة من الجين، بحسب الدراسات، لديهم تاريخ من الاعتقالات بسبب جرائمهم: اضطرابات سلوكية، وعنف بمختلف أشكاله.
أصبح أول جين يراه الباحثون بشكل رسمي عاملًا يتنبأ بمدى قابليتنا للعنف.
في عام 2009، وفي سابقة هي الأولى من نوعها في المحاكم الأوروبية، خفف قاض إيطالي الحكم على متهم بجريمة قتل، بعد أن بيَّنت تحاليله الطبية أنه يعاني اعتلال الجين «MAOA».
كان المواطن الجزائري عبد الملك بَيُّوت قد أقدم على قتل رجل لأنه سخر من شكله. وفي المحكمة، طالبت محامية بيُّوت بإجراء اختبارات طبية لموكلها لأنه، كما ادَّعت، لم يقتل ضحيته بمحض إرادته. جاءت المفاجأة عندما أثبتت الاختبارات أن بيُّوت بالفعل مصاب باعتلال الجين.
خُفِّف الحكم، لكنه أثار حينها جدلًا واسعًا، وخصوصًا بين العاملين بالقانون، عما إذا كانت ستصبح تلك الاعتلالات المبرر القادم لجميع جرائم المستقبل.
بحسب القانون، كي يُلام المجرم على جريمته يجب أن يؤخذ في الاعتبار الحالة العقلية التي كان عليها في أثناء ارتكاب الجريمة.
الفارق هنا أن الأمر تجاوز الاعتبارات التقليدية، أن يكون المتهم مجنونًا أو معتوهًا مثلًا، إلى البحث عن اعتلالات خفية تمامًا عن الأنظار قد تكون دفعته إلى ذلك الفعل بعينه. الجينات تعطي الإشارات للدماغ، والدماغ يأمرنا بالفعل. المتهم لم يقتل أحدًا، لكن جسده هو من قتل. هل الأمر بتلك البساطة حقًّا؟
الإرادة الحرة للأشياء: هل يعنينا فعلًا سبب الإجرام؟
تتفق كل الأطراف على أن هناك اعتلالات معينة في أجساد بعض الأشخاص تجعلهم «أكثر عرضةً» لارتكاب الجرائم.
لم يكن حديثنا هنا عن اضطراب السلوك الاجتماعي للإنسان بشكل عام. لم نناقش ميل الإنسان العادي إلى العنف إذا وُضِعَ تحت ظروف معينة مثلًا. الاضطرابات السلوكية موضوع واسع جدًّا، ويندرج تحته عدد لا حصر له من النظريات والتفسيرات. الإنسان قد يرتكب جريمة مدفوعًا بالخوف. الإنسان قد يستسيغ القتل في ظروف الحرب. لكن الحديث هنا عن الاعتلالات البيولوجية الملموسة التي تُولد عن أشخاص معينين، فتدير دفة أفعالهم.
قد يهمك أيضًا: من أين نأتي بكل هذه القسوة؟
«هل يكون ابني قاتلًا يومًا؟»، سؤال مرعب ربما خطر بعقلك الآن.
المعضلة عميقة في البحث عما إذا كانت البيولوجيا هي المتحكم الرئيسي في كل شيء، أم أننا ما زلنا بطريقة ما قادرين على التحكم في أفعالنا. المصاب باضطراب الشخصية الحدِّي مثلًا قد يرتكب جريمة في نوبة غضب، لكنه أيضًا قد يذهب إلى طبيب نفسي لطلب المساعدة. ليس كل المصابين باضطراب الشخصية الحدي قَتَلة. اعتلال الجين «MAOA» مثلًا أمر سائد لدى نحو 40% من الناس، لكن لم ينقلب كل هؤلاء ليصبحوا مجرمين.
ما يؤكده العلم وتتفق عليه كل الأطراف أن هناك اعتلالات معينة بأجساد بعض الأشخاص تجعلهم «أكثر عرضةً» لارتكاب الجرائم. طبيعتنا الداخلية (الجزيئية بشكل أدق) والظروف البيئية المحيطة تتشابك بشكل معقد جدًّا للتأثير في أفعالنا. ربما نتفق إذًا في كون الأشخاص الذين تحدثنا عنهم هنا سيئو الحظ، لسبب لا دخل لهم به أصابهم اعتلال، لا في أي جزء من أجسادهم، بل في الأجزاء المتحكمة في إدراكهم وتعاملهم مع العالم. ولسبب لا دخل لهم به أيضًا، وُجِدوا في ظروف بيئية اتَّحدت مع تلك الاعتلالات.
ينادي العلماء الآن بإدخال علم الأعصاب بشكل رسمي في قاعات المحكمة تحت ما يُسمى «Neurolaw». وفي الطرف المقابل، يعارض العاملون بالقانون الفكرة بسخط لأنها، وفق رأيهم، قد تكون مدخلًا لأبواب من التبريرات للقتلة والمجرمين. ويحاول طرف ثالث فض النزاع بأن يخبرنا بأنه حتى لو أُجبِرَ المجرم بسبب اعتلالات إصابته، فإنه ما زال، بطبيعة الحال، نفسه. من ارتكب الجريمة كانت يداه، ومن أعطى الأمر كان دماغه.
نتفق في كل ذلك أو نختلف، لكننا في النهاية يمكننا القول إن القاتل والمقتول معًا ضحايا سوء الحظ.