وصلت التكنولوجيا والقدرة على محاكاة القدرات الذهنية البشرية إلى اكتشافات مذهلة، وكلما تفوَّق الذكاء الاصطناعي على الإنسان في مزيد من المهام، نجح في استبداله في وظائف أكثر، الأمر الذي سيؤدي إلى ظهور مهن متعددة جديدة مثل تصميم العوالم الافتراضية مثلًا، واندثار الشكل التقليدي للوظائف كما نعرفه اليوم.
لكن مِهَنًا كالتصميم تتطلب قدرًا من الابتكار والمرونة، وليس من المضمون أن يكون الإنسان العادي، الذي يشغل اليوم وظائف آلية وبسيطة، قادرًا على التحول إلى مصمم للعوالم الافتراضية، فتخيَّل مثلًا كيف يكون شكل عالَم افتراضي ابتكره موظف في بنك؟
يمكن لهذه التكنولوجيا نفسها، التي أحال تطورها الإنسان كائنًا عديم القيمة، أن توفر الدخل والدعم المناسبين لهذه الأعداد من العاطلين، وذلك بإعداد خطة لتنظيم الدخل الأساسي العالمي.
ستبقى مشكلة واحدة فقط، هي استحالة أن يشعر شخص عاطل تمامًا بالاكتفاء والرضا. يحتاج المرء إلى ممارسة نشاطات ذات معنًى وإلا أصابه الجنون، ولهذا يتساءل أستاذ التاريخ «يوفال نواه هراري»، في مقال نشره على موقع صحيفة «الغارديان»، عمَّا بمقدور هذه الفئة عديمة الفائدة أن تفعله طوال اليوم حين تكون دون عمل.
تشابهات بين الدين والألعاب الإلكترونية
يبدأ هراري بافتراض أن العاطلين قد يلجؤون إلى ممارسة الألعاب الإلكترونية على سبيل المثال، فربما يبدأ العاطل بقضاء أوقات متزايدة داخل عوالم افتراضية ثلاثية الأبعاد، لأنها ستمده بمتعة وارتباط شعوري أكبر ممَّا يقدمه له «العالم الواقعي» خارجها.
يرى الكاتب أن هذا حل قديم للغاية وليس مستحدثًا كما قد يبدو، لأن «مليارات الناس وجدوا معنى الحياة لآلاف السنين في ألعاب افتراضية، كنا نطلق عليها في الماضي اسم الدين».
الشخص المتدين لاعب يسعى لحصد أكبر عدد من النقاط، فلو صلَّى كل يوم يجني نقاطًا، لكنه لو نسي يخسر.
الدين في رأي هراري لا يعدو كونه لعبة واقع افتراضي كبيرة تمارسها جماعات كبيرة من الناس معًا، فالأديان من وجهة نظره «تختلق قوانين خيالية، مثل تحريم لحم الخنزير، وتأمر بأداء عدد من الصلوات كل يوم، وتُحرِّم المثلية الجنسية، وغير ذلك من القواعد».
ليست تلك القوانين في رأي الكاتب إلا منتَجًا لخيال الإنسان، وبغض النظر عن قناعاتك الدينية الشخصية، فلا يوجد بالتأكيد أي «قانون طبيعي» يطالب بأداء هذه الصلوات مثلًا، أو يُحرِّم المثلية الجنسية ولحم الخنزير خارج إطار الدين.
بهذا المنطق، يصبح الشخص المتدين لاعبًا يسعى لحصد أكبر عدد من النقاط في لعبته، فلو صلَّى كل يوم يجني نقاطًا، أمَّا لو نسي فإنه يخسر. ولو حصد اللاعب نقاطًا كافية على مدار حياته، ينتقل بعد مماته إلى المستوى التالي من اللعبة، أو بمعنًى آخر: يذهب إلى «الجنة».
قد يعجبك أيضًا: أين الجنة؟ ربما تفصلك عنها 5 خطوات وحسب
الحياة لعبة كبيرة
يلفت الكاتب نظرنا إلى أن فكرة إيجاد معنًى للحياة بممارسة «ألعاب» الواقع الافتراضي شائعة بالتأكيد، ولا تقتصر فقط على الأديان، بل تشمل الأيديولوجيات وأنماط الحياة العلمانية، إذ تُعد «النزعة الاستهلاكية» لعبة واقع افتراضي كذلك، فأنت تكسب نقاطًا بشراء سيارات جديدة وماركات باهظة وقضاء عطلاتك بالخارج، ولو حصدت نقاطًا أكثر من أي شخص آخر تظن أنك كسبت اللعبة.
بإمكان القارئ أن يحتجَّ قائلًا إن الناس يستمتعون فعلًا بعطلاتهم وسياراتهم، وسيكون محقًّا، غير أن الكاتب يرى أن المتدين يستمتع بالصلاة وأداء مناسكه الدينية، تمامًا كما يستمتع بعض الناس بممارسة الألعاب الإلكترونية.
في النهاية، يتعلق الأمر بطريقة استقبال عقولنا لهذه الأمور. يتساءل هراري: «ما الفارق إذا كانت خلايانا العصبية تُستثار بمراقبة شاشة كمبيوتر، أو بالنظر عبر النافذة إلى أمواج البحر الكاريبي، أو برؤية الجنة بعيون قلوبنا؟ في جميع الأحوال، تختلق عقولنا هذا المعنى الذي ننسبه إلى ما نراه، رغم أنه ليس موجودًا في الواقع».
مصارعة الديوك وكرة القدم «ألعاب عميقة»
يعطي رجال الحريديم في إسرائيل مثالًا للطريقة التي يمكن أن نعيش بها حياة هانئة دون عمل.
في مقاله الرائد «اللعب العميق: ملاحظات حول صراع الديوك في بالي» الذي نُشر عام 1973، يصف عالم الأنثروبولوجيا «كليفورد غيرتز» كيف يبذل الناس في جزيرة بالي الإندونيسية هذا الكَمِّ من المال والوقت في رهاناتهم على صراعات الديوك.
كانت صراعات الديوك شديدة الأهمية لشعب بالي، حتى أنه حين أعلنت الحكومة أن ممارسة هذه اللعبة أمر غير قانوني تجاهلها الناس، وخاطروا بالقبض عليهم ودفع غرامات باهظة. اعتبر شعب بالي صراع الديوك «لعبًا عميقًا»، ورغم أنها لم تبدأ سوى كلعبة مرتجلة، لكن مع الوقت أسقطوا عليها معانٍ كبيرة، إلى أن أصبحت جزءًا أساسيًّا من واقعهم، ويرى هراري أن الشيء نفسه يسري على كرة القدم في الأرجنتين، أو اليهودية في إسرائيل.
يشير كاتب المقال إلى أن اليهودية في إسرائيل تحديدًا تعطي مثالًا واضحًا للطريقة التي قد توفر حياة هانئة لشخص يعيش في عالم دون عمل، فهناك نسبة كبيرة من رجال الحريديم الإسرائيليين لا يعملون، ويمضون حيواتهم في دراسة الكتب المقدسة وأداء الطقوس الدينية، لكنهم يضمنون حياة معقولة رغم ذلك، أحيانًا بسبب عمل زوجاتهم، أو لأن الحكومة تمنحهم مساعدات مالية، ممَّا يعني أنهم لا يفتقرون أبدًا إلى الضروريات الأساسية للحياة.
ورغم أنهم فقراء ولا يعملون أبدًا، تشير الدراسات الاستقصائية إلى أن رجال الحريديم راضون عن حياتهم أكثر من أي فئة أخرى في المجتمع الإسرائيلي. وحتى في الإحصاءات العالمية لدراسة مدى رضا الناس عن حيواتهم، كثيرًا ما تحتل إسرائيل المرتبة الأولى بفضل مساهمات هؤلاء اللاعبين «العميقين» العاطلين.
قد يهمك أيضًا: التدين ومعضلة «الدولة اليهودية» في إسرائيل
معنى الحياة في التخيُّل
اندثار العمل لا يساوي بالضرورة انتهاء المعنى، لأن المعنى ينشأ بالتخيُّل، لا الانشغال بشيء ما.
لستَ بحاجة للذهاب إلى إسرائيل لترى عالم ما بعد العمل، فلو كان ابنك لا يزال مراهقًا ويحب ألعاب الكمبيوتر، بإمكانك إجراء تجربتك الخاصة في المنزل. وفِّر له المشروبات الغازية والبيتزا ولا تزعجه بمطالب العمل أو الدراسة، والنتيجة المحتملة هي أنه سيمكث في غرفته لأيام، ناسيًا واجباته المدرسية والمنزلية ووجباته الغذائية، وحتى نظافته الشخصية ونومه.
لكن ابنك لن يعاني أبدًا من الملل أو أي إحساس بانعدام الهدف، ليس على المدى القريب على الأقل.
يرى هراري أن الواقع الافتراضي سيكون في الأغلب مفتاح إضفاء المعنى على حياة الفئة العاطلة في عالم ما بعد العمل. قد تتولد هذه الحيوات الافتراضية داخل شاشات الكمبيوتر، أو خارجها على شكل ديانات وأيديولوجيات جديدة، أو في هيئة خليط بين الاثنين. الاحتمالات لا نهائية، ولا أحد يعلم ما نوع «الألعاب العميقة» التي سنجد أنفسنا منخرطين فيها عام 2050.
في جميع الأحوال، لا يساوي اندثار العمل بالضرورة انتهاء المعنى، لأن المعنى ينشأ في رأي هراري بالتخيُّل، لا الانشغال بشيء ما. العمل مهم لاستخلاص المعنى في بعض الأيديولوجيات وأنماط الحياة فقط.
اقرأ أيضًا: يبدو أن هناك معنًى لحياتنا بعيدًا عن العمل
تمكن الناس من استخلاص معنى الحياة بطرق مختلفة، وربما يكون الإنسان مع مرور السنين قادرًا على ممارسة ألعاب أعمق، وبناء عوالم افتراضية أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى لشغل وقته، لكن هل سيكون هذا فقط على حساب «العالم الواقعي»؟ وهل نوَدُّ حقًّا أن نضحي بـ«الحقيقة» من أجل خيالات تمنحنا المعنى في عالم لا نجد ما يشغلنا فيه؟