لطالما كان البحث عن تنظيم اجتماعي مثالي هدفًا لعديد من المفكرين والفلاسفة والمشتغلين بالسياسة، البحث عن شكل عادل يضمن علاقة متكافئة بين أصحاب القرار السياسي وعامة الشعب.
لم يحظَ نظام سياسي بالاتفاق عليه كما حدث مع الديمقراطية. رأى كثيرون أن مبادئ الديمقراطية وحدها كفيلة بتهيئة البيئة المناسبة التي تحمي حقوق الإنسان، وتضمن عدم إهدار كرامته، وتكفل حقوقه المدنية والسياسية.
على وجه التقريب، تعني الديمقراطية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وهي نظام سياسي يكون للشعب فيه حق المشاركة في إصدار القوانين والأحكام في ما يتعلق بالأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمس حياتهم. ويمكن تقسيمها عموما إلى نوعين:
- الديمقراطية المباشرة
- الديمقراطية التمثيلية/النيابية
في الأنظمة الديمقراطية تكون الأغلبية صاحبة القرار السياسي، فيختار الناس من يرغبون في وصولهم إلى الحكم. لكن، وبعيدًا عن حسنات الأنظمة السياسية وعيوبها، يعرض مقال منشور على موقع «Nautilus» كيف أن هذا المبدأ الديمقراطي البسيط، أي إصدار الأغلبية القرارات التي تَمَسُّ الجماعة، ربما يكون متجذرًا في الطبيعة، ويمكن أن نتتبع أصله في تركيبنا البيولوجي.
العملية الديمقراطية في الطبيعة
تنفصل شغالات النحل (مهمتها البحث عن الغذاء) بصورة دورية عن الخلية الأم. وفي وجود عشرات الآلاف من الشغالات داخل الطائفة الواحدة، فلا مفر من التساؤل عن كيفية الاتفاق على الأماكن التي يجب البحث فيها عن الرحيق وحبوب اللقاح.
الجواب ببساطة أن الإجماع يأتي عبر ممارسة نوع من الديمقراطية.
في البداية، تتحرك مجموعات من النحل للاستكشاف، وبعد عودتها تحاول كل مجموعة أن تكسب إلى صفها مزيدًا من النحل الكشاف، إذ تنقل المعلومات التي جمعتها عن المكان الذي زارته بطرق مختلفة، من بينها إصدار الأصوات وأداء الرقصات.
بعض النحل يكسب تأييدًا أكثر من غيره، وبعد أن تتفق غالبية الكشافة، التي يصل تعدادها إلى مئات، ينطلق السرب بأكمله في اتجاه مصدر الغذاء.
المبادئ السامية للنظام الديمقراطي قد يكون لها أصل بيولوجي، ويمكن أن تظهر دون تخطيط أو تصميم مسبق.
النحل ليس الكائن الوحيد الذي يلجأ إلى هذه الطريقة، أي الاحتكام إلى رأي الأغلبية، فحتى قردة المكاك التبتية تفعل هذا.
يشير المقال إلى تجربة أجريت عام 2014 على 12 قردًا، خلصت إلى أنه بمجرد تجمع ثلاثة قرود أو أكثر لفعل أمر ما، غالبًا ما يحذو باقي أعضاء المجموعة حذوهم. وتصل نسبة النجاح في جعل القردة كلها تؤدي العمل نفسه إلى 100% عندما يرتفع عدد المبادرين إلى سبعة أفراد من المجموعة أو أكثر.
لوحظت هذه العملية الديمقراطية في صنع القرار عند الجواميس الإفريقية والحمام وقردة البابون، بل حتى البكتيريا ذات الخلية الواحدة تتخذ قرارات جماعية، اعتمادًا على عملية تكاد تكون ديمقراطية تُعرف باسم استشعار النصاب، وهي وسيلة تحدد بها البكتيريا مدى اتخاذها سلوكًا معينًا، مثل حركتها ودرجة فتكها، استنادًا إلى عدد البكتيريا التي تنخرط بالفعل في هذا السلوك. وتستخدم الصراصير وغيرها من الحشرات التي تنتمي إلى أسراب عمليات ديمقراطية مماثلة.
على ما يبدو، قد يكون للمبادئ السامية للنظام الديمقراطي أصل بيولوجي، ويمكن أن تظهر دون تخطيط أو تصميم مسبق.
في صورتها المبسطة هذه، تصون الديمقراطية إرادة الأغلبية. وبحكم درجة تواتُرها في الطبيعة، يبدو أنها واحدة من أفضل الوسائل لتسوية المصالح المتضاربة بين الأفراد الذين يجب أن يبقوا معًا، سواء تعلق الأمر بسرب من النحل أو مجموعة من القرود. لذا فليس مستغربًا أن أنواعًا مختلفة من الكائنات الاجتماعية، بما فيها البشر، تطورت في اتجاه استخدام هذه الطريقة في اتخاذ القرارات الجماعية.
عراقيل تواجه الديمقراطية
هل جهل الناخبين ونقص أهليتهم يهدد الديمقراطية؟
في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، ليس كل الناخبين مطلعين على ما يجري في مجتمعاتهم بالدرجة نفسها، فقد يكون بعضهم جاهلًا بالصالح العام، أو غير كفء لاتخاذ قرار بخصوص ما يجري حوله، أو قد يكون غير مهتم بما يحصل في المجال العام. في هذه الحالة، كيف يمكن للأغلبية أن تصنع القرار بكفاءة؟
هذه القضية شغلت كثيرًا من المفكرين على مر العصور، في مقدمتهم أفلاطون، الذي تخوّف من أن تتيح الديمقراطية انتخاب الحمقى ووصولهم إلى السلطة واستغلالها لمنفعتهم الشخصية، لذا اعتبرها نظامًا يسمح بحكم الغوغاء، وبدلًا منها، وضع نموذجه الخاص الذي يحتل قمة هرمه ملوك فلاسفة يتمتعون بالحكمة.
لكن، هل جهل الناخبين ونقص أهليتهم يهدد الديمقراطية في صيغتها هذه حقًّا؟
بالعودة إلى ملاحظة عالم الحيوان نحصل على تلميح بالجواب، ففي تجربة أُجريت في جامعة برنستون ويستعرضها المقال، استخدم الباحثون الغذاء لتدريب مجموعتين من الأسماك للسباحة من أحد طرفي خزان مائي صوب بقعتين، واحدة صفراء والأخرى زرقاء، وُضعتا على الطرف الآخر من الخزان.
بعد ذلك، أطلق الباحثون مجموعتي الأسماك تلك في حوض به أسماك لم تخضع لأي نوع من التدريب.
مالت الأسماك غير المدربة إلى اتباع أي جماعة كان عدد أفرادها أكبر، أي الأغلبية. فلو كانت هناك أسماك مدربة أكثر تتجه صوب الهدف الأصفر، تتبعها الأسماك التي لم تتدرب على تلك السلوكيات. بل أكثر من ذلك، كلما زاد عدد الأسماك غير المدربة، كان هذا المَيل أكبر. وبالتالي، فوجود أفراد لا يعلمون ما يجري لم يقوِّض تصويت الفئة المدربة، بل عززه وحصّن قراراتها أكثر.
فشل الديمقراطية في عصر التلاعب بالعقول
المشكلة التي تواجه هذا النموذج أن الأسماك تنقسم إلى فئتين:
- أسماك مدربة تعلمت ما ينبغي أن تعمله
- أسماك لا عِلم لها بما يجري
تتبدى متانة المنظومة الديمقراطية في عالم الطبيعة، إذ طورت حيوانات عديدة وسائل مختلفة للحكم على جودة المعلومات التي تتلقاها. فعلى سبيل المثال، تأخذ قرود المكاك الرسائل التي تصلها من رفقائها الأقرب إليها على محمل الجد، أكثر من الرسائل التي تتلقاها من أقارب بعيدين. وكذلك، يستطيع حيوان المرموط أن يميز بين نداءات الإنذار الموثوقة وغير الموثوقة.
القواسم المشتركة بين هذه الأمثلة أنها تعمل بكفاءة داخل جماعات صغيرة ومتماسكة، إذ يعرف جميع أعضاء المجموعة بعضهم، لكن داخل جماعة نطاقها أكبر، جماعات مكونة من عدد كبير من الغرباء، مثل البشر، هل سنرى النتيجة ذاتها؟
لو ضربنا مثلًا بالأسماك والنحل ونظامها الديمقراطي البسيط وطبقناه على مجتمعاتنا، فالناخبون غير المطّلعين سيتبعون آراء المجموعة التي تعرف أكثر، مما يمثل خلفية مثالية لقاعدة حكم الأغلبية في هذا النظام الديمقراطي البسيط. لكن ماذا يحدث إذا أعطيت مجموعة من الناخبين المطلعين أدوات تمكنهم من التأثير في آراء عامة الشعب؟
هذه القدرة على صياغة الآراء وتوجيهها هي ما تكفله وسائل الإعلام بمختلف أشكالها. الآن، وربما أكثر من أي وقت مضى، تحولت السلطة من أيدي الناخبين إلى الشركات التي تتحكم في وسائل الإعلام، مما يزيد من التشكيك في نظام الحكم الذي يستند إلى رأي الأغلبية، الذي بإمكانه أن يوصل أشخاصًا إلى الحكم حتى لو أظهروا مرةً بعد أخرى أنه لا مكان لهم في العمل السياسي.
على مدى قرون، شكّك مفكرون كثر في سخرية أفلاطون اللاذعة من الديمقراطية، غير أن وصول أشخاص مثل الرئيس الأمريكي ترامب وممثلين لأحزاب يمينية متطرفة إلى مناصب سياسية مؤثرة يدفعنا إلى القول بأن نقد أفلاطون للديمقراطية ربما كان ببساطة سابقًا لعصره، وأن أمامنا الكثير حتى نصل إلى الشكل الأمثل من الحكم.