يُدرك كل شخص ناضج مدى الصعوبة والحيرة التي يمر بها خلال تعلمه لغة جديدة. لكن ماذا عن طفل ولد في بيت ثنائي اللغة؟ أب يتحدث اللغة العربية وأم لا تعرف غير الإنجليزية، على سبيل المثال. هل إذا دَمجَ الطفل في حديثه بين اللغتين فهذه علامة على حيرته بينهما؟ افتراضٌ معقول، لكن بحثًا علميًّا أثبت العكس. وهذا ما يستعرضه موقع كوارتز» في واحد من مقالاته، كتبته «ناجا فيرجان راميريز» الباحثة في جامعة واشنطن.
تعامل الباحثون لفترة طويلة مع الطفولة المبكرة على أساس أنها أفضل الأوقات المتاحة لاكتساب لغة ثانية، فالطفل المولود في بيئة ثنائية اللغة يصبح من أصحابها الأصليين، بمعنى أنه لن تصبح إحدى اللغتين «لغة ثانية»، بل إن كلتيهما ستكون لغته الأم. بينما يعاني الشخص البالغ خلال تعلمه لغة ثانية، ونادرًا ما يتمكن أحدهم من أن يكون طليقًا كأصحاب اللغة الأصليين.
متى يتعلم البشر اللغة؟
تبدأ رحلتك لتعلم اللغة قبل أن تبدأ حياتك فعليًّا. يتعلم الطفل أصوات اللغة وهو في رحم أمه عبر صوتها، الصوت الوحيد الذي يسمعه بشكل أساسي في هذه المرحلة من تكوينه. وعند خروجه إلى الحياة ودخوله مرحلة الطفولة المبكرة، يستطيع التفرقة بين لغة أمه وأي لغة أخرى، بل إن لديه قدرة على التفرقة بين اللغات المختلفة.
تُظهر دراسة أجرتها جامعة واشنطن ويعرضها المقال أن لدى الأطفال قدرة مبكرة على التفريق بين أصوات أمهاتهم، والأصوات الأخرى التي يسمعونها في البيئة المحيطة، بل تتكون لديهم مع الوقت قدرة على تمييز اللغات الأساسية في محيطهم الأقرب، واللغات الأخرى الأجنبية.
يعتمد تعلم أي لغة على معالجة الأصوات. يمكن حصر أصوات اللغات كلها في نحو 800 صوت، تنفرد كل لغة بنحو 40 صوتًا من هذه المجموعة.
ما يميز الطفل حديث الولادة قدرته غير العادية على التفريق بين الأصوات الـ800 كلها. وهذا يعني أنه قادر على تعلم واكتساب أي لغة يتعرض لها، وتدريجيًّا يفرز هذه المجموعة ويحتفظ بالأصوات التي يسمعها على الدوام، أصوات لغته.
يتجه إدراك الرضيع الناشئ في بيت أُحادي اللغة منذ شهره السادس إلى الثاني عشر إلى المجموعة الفرعية من الأصوات التي تكوِّن لغته المحيطة، فيتخصص فيها وتصبح لغته الأم. ثم بحلول عيد ميلاده الأول، يفقد قدرته على التفرقة بين أصوات باقي اللغات الأجنبية.
اقرأ أيضًا: هل يفتح لنا تعلم لغة جديدة تصورًا آخر عن الزمن؟
دماغ ثنائية اللغة
آباء الأطفال ثنائيي اللغة يقلقون عادةً من أن أبناءهم لن يكونوا على القدر ذاته من المعرفة، مقارنةً بنظرائهم الناشئين في بيئة أحادية اللغة.
السؤال هنا: هل يمكن لدماغ رضيع ناشئ في بيت ثنائي اللغة أن يتخصص في كلتا اللغتين؟ وكيف تختلف العملية عن التخصص في لغة واحدة؟
تكمُن أهمية إجابة هذه الأسئلة في فهم الأساسيات التطورية في تعلم الكلام، إذ غالبًا ما يقع الأبوان من ذوي اللغات المختلفة في حيرة من أمرهم عما يجب ولا يجب فعله، وكيف سيختلف طفلهم عن بقية الأطفال الناشئين في بيوت أحادية اللغة.
تناول البحث، الذي اشتركت فيه الكاتبة، دراسة المعالجة الدماغية لأصوات اللغة لأطفال يبلغون من العمر 11 شهرًا، قُسِّموا إلى مجموعتين: الأولى نشأت في بيوت أحادية اللغة (الإنجليزية)، والأخرى في بيوت ثنائية اللغة (الإنجليزية والإسبانية). استخدم الباحثون تقنية التخطيط الدماغي المغناطيسي دون تدخل جراحي، التي تحدد بدقة توقيت ومكان النشاط في الدماغ حين يسمع الأطفال مقاطع إسبانية وإنجليزية.
ورغم أن الأطفال في هذا العمر لم ينطقوا أولى كلماتهم بعد، فقد عُثر على اختلافات جوهرية بين المجموعتين. كشف الاستماع إلى التسجيلات أن الأطفال الناشئين في بيئة أحادية اللغة (الإنجليزية) تخصصت أدمغتهم لمعالجة وإدراك الأصوات الإنجليزية فقط، وظهرت الإسبانية كلغة غير مألوفة بالمرة، بينما تخصصت أدمغة أطفال المجموعة الأخرى (الإنجليزية والإسبانية) في كلتا اللغتين.
هذه النتيجة تثبت أن أدمغة الأطفال، حديثي الولادة بالذات، تنحاز إلى أي لغة أو لغات يسمعونها من آبائهم، أي أن أدمغتهم تُضبَط كالساعة. وعند حلول شهرهم الحادي عشر، يعكس نشاطهم الدماغي اللغة أو اللغات التي تعرضوا لها.
ما ضَيْرُ تعلُّم أكثر من لغة في آن واحد إذًا؟
هناك دائما قلق من أن يسبب التعدد اللغوي تشتتًا للطفل، لكن الأبحاث أظهرت أن الطفل ثنائي اللغة يتنقل بين اللغات لأن الكبار من حوله يفعلون ذلك.
كل الآباء يتوقون لسماع كلمات صغارهم الأولى، إنه الوقت الشيق لمعرفة في ما تفكر هذه الكائنات الصغيرة. هناك مخاوف مشتركة بخصوص اللغة: «هل سرعة تعلم طفلي معقولة؟»، هكذا يتساءل كثير من الآباء.
وجد الباحثون أن رد الفعلٍ الدماغي على الأصوات الإنجليزية كان قويًّا عند الأطفال ثنائيي اللغة كما هو عند أحاديي اللغة على السواء، أي أن كلهم في المستوى التعليمي ذاته. لكن آباء الأطفال ثنائيي اللغة عادةً ما يعبِّرون عن مخاوف تتعلق بأن أطفالهم لن يكونوا على ذات القدر من المعرفة، مقارنةً بنظرائهم الناشئين في بيئة أحادية اللغة.
بالطبع يبدو هذا القلق منطقيًّا إلى حد ما، إذ يقسِّم الرضيع وقته بين لغتين، لذا فإن معدل الكلمات التي يسمعها في كل لغة يكون أقل من المعدل العادي للطفل الذي يقضي أيامه كلها مستمعًا إلى لغة واحدة.
لكن الدراسات الحديثة، التي تنقلها كاتبة المقال، تُظهر عكس ذلك، فالطفل ثنائي اللغة لا يتأخر عن أقرانه في أيٍّ من اللغتين كما هو متوقع. وعندما نقارن كمية المفردات اللغوية لدى طفل ثنائي اللغة (بجمع مفردات اللغتين)، سنجد أنها مساوية أو أكبر من المفردات اللغوية لدى طفل أحادي.
هناك قلق آخر من أن يسبب التعدد اللغوي تشتتًا للطفل. نشأ هذا الخوف من اتجاه بعض الأطفال إلى تقنية «ملء الفراغات/الانتقال بين اللغات»، أي عندما يدمج الطفل كلتا لغتيه خلال حديثه. أخذت الكاتبة طفلها ذا الأربعة أعوام كمثال، فهو يتحدث الإنجليزية والإسبانية والسلوفينية، لكنه بقدرٍ ما يميل إلى استخدام النهايات السلوفينية في كلماته الإسبانية والإنجليزية.
أظهر البحث أن هذا ليس تشتتًا بالمرة، بل أن الطفل ثنائي اللغة يتنقل بين اللغات لأن الكبار مِن حوله يفعلون أيضًا. أي أن التنقل بين اللغات لدى الصغار، وحتى الكبار، ليس مصادفة، بل مَنُوط بما يفعله المجتمع.
على عكس أحاديي اللغة، لدى ثنائيي اللغة ميزة امتلاك لغة أخرى يمكنهم ببساطة استعارة كلمات منها عندما لا يتذكرون الكلمات المناسبة من اللغة التي يتحدثون بها. وبمجرد بلوغ الطفل عامه الثاني، يتعلم كيف يبدِّل بين لغاته وفقًا للغة مُحاوره.
وضّح البحث أيضًا أن التنقل بين اللغات جزء طبيعي من تطور اللغة لدى الطفل ثنائي اللغة، بل ربما تكون بداية تهبه مزيدًا من البراعة المعرفية كأفضلية تخصه وحده.
الخبر الجيد أن كل أطفال العالم في مقدورهم تعلم لغتين في الوقت ذاته، بل إن مناطق عديدة في العالم يُعتَبَر فيها تعلم لغتين شيئًا عاديًّا، وليس الاستثناء.
اقرأ أيضًا: بحثًا في أصل اللغة العربية: مصدرها وأقرب أقربائها من اللغات
كيف تحمينا اللغة من الخرافة؟
اللغات المزدوجة لها آثار وقائية ضد الانحدار المعرفي في الشيخوخة أو في بدايات مرض ألزهايمر.
من المفهوم الآن أن الحاجة المستمرة إلى تبديل التركيز بين اللغات يؤدي إلى مزايا معرفية عديدة.
وجد البحث أن ثنائيي اللغة من الكبار أو الأطفال يُظهرون أداء وظيفيًّا متقدمًا في الدماغ، مثل قدرتهم على تبديل انتباههم، والتغيير بين اللغات والمهام، وكفاءتهم في حل المشاكل بسلاسة. هذا بالإضافة إلى زيادة مهاراتهم اللغوية، أي قدرتهم على التفكير في اللغة ذاتها وفهم كيفية عملها.
كَوْن الشخص ثنائي اللغة، هذا سيجعل من تعلمه لغةً ثالثةً أمرًا أهون. بجانب أن استخدام لغة غير اللغة الأم له عديد من الآثار النفسية المثيرة للاهتمام.
ثنائي اللغة يستطيع أن يسب وأن يتناقش في ما هو مُحرِج له في لغته الأم بحرية أكبر، وهو أقل عُرضةً للتحيزات المعرفية. هذا ما أثبته عالم النفس «كونستانتينوس هاجيكريستيديس» وزملاؤه في جامعة تورينتو الإيطالية في ورقة بحثية.
وبما أن تفكيرنا دائمًا ما يتأثر بما هو بديهي لدينا، فإن ما يحدث هو أن الحدس يعتمد على الطرق المختصرة للوصول، والتي قد تكون خاطئة في كثير من الأحيان. فمثلًا، مصطلح «مرآة محطمة» يوحي في الغالب بعدم الراحة أو الفزع. هذه الارتباطات تُبنَى في عمر مبكر وترتبط بشكل وثيق باللغة الأم. فعندما يسمع ثنائ اللغة شيئًا محملًا برمزية خرافية بلغته الثانية، يفهم معناه الحرفي، لكن ما يرتبط بالمعنى عاطفيًّا لا يأتي بصورة أوتوماتيكية.
يبقى الأثر بعيد المدى، بالطبع، في تجربة اللغات المزدوجة هو الآثار الوقائية الناتجة/الظاهرة ضد الانحدار المعرفي في الشيخوخة أو في بدايات مرض ألزهايمر.
لذا، إن رغبتَ في أن يتعلم طفلك أكثر من لغة، فالوقت المثالي للبدء في الطفولة، حتى قبل أن يبدأ في التحدث بلغته الأم. لن يكون الأمر مُربكًا له، بالعكس، ستعطيه اللغات عونًا أكثر في أشكال معرفية أخرى.