سؤال اللغة قديم جدًّا، ربما قِدَم البشرية نفسها. السبب ببساطة أنه من الصعب الإجابة لعدم وجود أحافير بين أيدينا تروي لنا ماذا حدث بالضبط. محاولة البحث عن حقيقة ما يتعلق بهذه المسألة، مجرد تخمينات تستند إلى أبحاث.
هناك مدرستان فكريتان تحاولان الإجابة عن سؤال تعدد اللغات: الأولى تفترض أن اللغات العصرية تتفرع كلها من لغة أصيلة هي اللغة الأم للبشر، والبشرية أجمعها تحدثت بهذه اللغة قبل نحو مئة ألف سنة. أما الأخرى، فترى أن اللغات الحالية ترجع إلى عدة لغات أصلية استُخدمت منذ ستة آلاف سنة تقريبًا.
عناصر مؤسِّسة
اللغة، بغض النظر عن الثقافة، نظام يحدث بغرض التواصل، وعلى اللغة أن تتبع القواعد التي يحددها من يتحدثون بها.
السبب الرئيسي لوجود عدد من اللغات يتعلق بالوقت والمسافة. يتنقل البشر دائمًا للبحث عن فرص جديدة، واللغات تتغير تباعًا مع مرور الوقت.
يحدث الأمر بوضوح داخل اللغة الواحدة نفسها. فعند محاولتنا قراءة الشعر الجاهلي قد نشعر ببعض الغرابة والصعوبة في فهم الأشعار دون وجود حواشٍ تشرح المعنى والمقصود. واختلاف البيئات أثَّر بصورة كبيرة في الشكل الذي أصبحت عليه اللغات. على سبيل المثال، في الغابات الكثيفة والمناخات الحارة من الصعب سماع الحروف الساكنة أكثر من حروف العلة.
لكن مهما تختلف الأسباب، فإن ما يهمنا هو التنوع اللغوي الموجود اليوم، ليس بين اللغات جميعها، وإنما في كل لغة على حدة. فاللغة تتحرك وتتكيف وتتطور مثل الكائنات الحية والمجتمع بشكل عام. اللغة، بغض النظر عن الثقافة، نظام يحدث بغرض التواصل، وعلى اللغة أن تتبع القواعد التي يحددها من يتحدثون بها. وحياة هؤلاء المتحدثين وثقافاتهم المختلفة تُشكِّل اللغة وتحدد كيفية استخدامها.
قد يهمك أيضًا: ما الذي يجعل جملة ما تحفة فنية؟
إسراف لفظي
سافر عالم الأنثروبولوجيا «فرانز بواس» إلى جزيرة بافن شمالي كندا خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، لدراسة حياة شعب «الإنويت» واختبارها بنفسه. وفي إحدى رسائله إلى خطيبته، أخبرها بأنه أصبح مثل الإسكيمو تمامًا، وبات يأكل اللحم نيئًا.
كان بواس مفتونًا بلغتهم كذلك، إذ كان يستخدم مصطلحات تفصيلية لوصف الثلج، يقول: «Aqilokoq» عندما يريد أن يعبر عن تساقط الثلوج بهدوء، بينما: «Piegnartoq» ليصف الثلج المناسب للتزلج. وذكر بواس في مقدمة كتابه «دليل اللغات الهندية الأمريكية» عام 1911، أن الإسكيمو لديهم أكثر من مئة كلمة للتعبير عن الثلج.
تَعدُّد المصطلحات التي تصف شيئًا واحدًا عند شعوب معينة، وتَوفُّر لفظين فقط لنفس المصطلح في لغة شعوب أخرى، يوضح أن الكلمات أكثر من مجرد صفات، بل تعكس العلاقات والمواقف والأفكار والقيم وأمورًا أخرى.
وصف العرب أطوار الحب ودرجاته في ما يقرب من 14 مصطلحًا، بسبب تناولهم الحب والغزل في أشعارهم بكثرة.
لا يقتصر الأمر على شعب الإسكيمو فقط. فقد أطلق العرب على الخيل أسماء مختلفة باختلاف عمرها، ولوصف أصوات الخيل ومشيها وعدوها كذلك.
فوليد الفرس يُسمى «مُهرًا» عند ولادته، ثم «فُلْوًا"، وعندما يصبح عمره سنة واحدة يكون «حَوْلِي»، وفي الثانية يطلقون عليه «جَذْعًا»، ثم في الثالثة «ثِنْيًا»، والرابعة «رَبَاعًا»، والخامسة «قادحًا» حتى يبلغ سنته الثامنة. وعندما يتخطى سنته الرابعة عشرة يكون «مُذَكَّى».
إلى ذلك، أورد السيوطي في «التبري من معرة النعمان» أن أبا العلاء المعري دخل يومًا على الشريف المرتضي، فعثر برجل، فقال الرجل: مَن هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا.
وقد تتبع السيوطي كتب اللغة، فحصل فيها على أكثر من ستين اسمًا، فنظمها في أرجوزة.
كذلك، وصف العرب أطوار الحب ودرجاته في ما يقرب من 14 مصطلحًا، بسبب تناولهم الحب والغزل في أشعارهم بكثرة. إذ يمر بمراحل الهوى، والصَّبْوة، والشغف، والوَجد، والكَلَف، والعشق، والنجوى، والشوق، والوَصَب، والاستكانة، والود، والعِشرة، والولَه، والهيام الذي هو أعلى درجات الحب.
اقرأ أيضًا: بحثًا في أصل اللغة العربية: مصدرها وأقرب أقربائها من اللغات
أما «اللابيون»، وهم سكان إحدى مناطق شمال أوروبا التي تقع بين أربعة دول، هي النرويج والسويد وفينلندا وروسيا، فلديهم ما يصل إلى 1000 كلمة للإشارة إلى حيوان «الرنة». وتشير المصطلحات المختلفة إلى أشياء مثل لياقة الرنة: «Leami» تعني رنة أنثى قصيرة وجميلة. أو شخصيته: «Njirru» تعني أنثى لا يمكن السيطرة عليها. وهكذا، تمامًا مثل هيام العرب بالخيل.
هذا النوع من الوفرة اللغوية لا ينبغي أن يُفاجئنا، لأنه من الطبيعي أن تتطور اللغات لتناسب أفكار متحدثيها واحتياجاتهم. يقول اللغوي «وليم دي ريوز» إن «الإسكيمو مثلًا يحتاجون إلى معرفة ما إذا كان الجليد مناسبًا للمشي أو من الممكن أن يؤدي المشي فيه إلى الغرق»، إذ تصبح اللغة حينها مسألة حياة أو موت.
مشاعر متحركة
ما سبق مثال واحد فقط لما يُحدِثه اختلاف الثقافات في اللغة. لكن هناك ما هو أكثر إثارة، مثل احتكار كل لغة كلمات تصف مشاعر معينة أو موقفًا ما، ولا توجد في اللغات الأخرى. وهذه الألفاظ لا يمكن ترجمتها إلا من خلال شرح طويل لمعانيها.
الكلمات تزودنا بإطار للتعبير، ولا يمكن لإطارين مختلفين أن يعبِّرا عن نفس الأفكار بالضبط. لهذا السبب تحديدًا يرى بعض العلماء أنه من المستحيل، بصورة ما، ترجمة أي نص، لأن اللغات ترتبط بشكل وثيق بثقافتها الأصلية. وهذا ما أوضحته عالمة دراسات الترجمة «سوزان باسنيت» بالمثال البسيط لكلمة «زبدة» في اللغتين الإنجليزية والإيطالية، إذ تكون بالإنجليزية «Butter»، وبالإيطالية «Burro»، وكلاهما يحمل دلالات اجتماعية مختلفة في ثقافات اللغتين، لكنهما في الوقت نفسه يشيران إلى الشيء نفسه.
حتى إذ تداخل إطاران بنجاح، فسيظل هناك دومًا منطقة رمادية لا يتقاطعان فيها. قد نعرف ما يقصدون قوله، لكن لا توجد كلمة مكافئة للكلمة الأصلية بشكلٍ كافٍ.
قد يعجبك أيضًا: لماذا قرر أب أن يعلم ابنه لغتين؟
في عام 1912، عرَّف الشاعر البرتغالي «تيكسيرا دو باسكويز» الكلمة البرتغالية «Saudade» بأنها «حنين لما ليس هنا، وألم ناتج عن إدراك تلك الحقيقة». إنه شعور قاسٍ، إذ ينتشر بين البرتغاليين تعبيرات مثل «قتل سودايد» أو «الموت من سودايد».
الأمر الذي، رغم المبالغة، قد يعكس قسوة الشعور بحضور ما هو غائب دائمًا. إنها حالة عاطفية تجمع بين الحنين والألم، ويمكن وصف هذا الشعور أيضًا بأنه «الحب الذي يبقى» رغم رحيل المحبوب. قد يكون هناك أحد ما من غير البرتغاليين جرب هذا الشعور، لكن مع ذلك، لا توجد ترجمة صادقة له في أي لغة أخرى.
الحضور الأكبر لكلمة «سودايد» في الثقافة البرتغالية، كان يشير دائمًا إلى الشعور بالمسافات الكبيرة بين البحَّارة خلال عصر الاكتشافات البرتغالية والخسارات التي عانت منها عائلات هؤلاء الرجال. أما الحضور الأول لها، فيعود إلى القرن الثالث عشر، حين كانت تعني «مأساة المحبين البعيدين عن بعضهما».
يقترح معظم اللغويين أن الكلمة مُستمَدة في الأصل من الكلمة اللاتينية «Solitate»، أي العزلة والوَحشة، وأنها تأثرت بعد ذلك بالكلمة البرتغالية «Saudar» أي التحية، قبل أن تصل إلى شكلها الحالي.
بينما عرض علماء آخرون أصولًا بديلة للكلمة، بما في ذلك افتراض يقارن بين الكلمة العربية «سوداء» بكلمة «Saudade»، لأن الاثنين يحملان شعور الحزن والمِزاج الكئيب. إن أصل الكلمة يمكنه أن يدل على حقائق مفاجئة بالنسبة إلى العرق والهوية البرتغالية.
هل المشاعر التي توصف بكلمات لا تقبل الترجمة هي مشاعر تتفرد بها ثقافات معينة؟
مثال آخر على ذلك، هو الكلمة الروسية «Toska» التي يصفها الروائي «فلاديمير نابوكوف» بأنه لا مثيل لها في اللغة الإنجليزية، لأن للكلمة أكثر من بُعد. في أعمق أبعادها تعبر عن الألم الروحي الهائل الذي يأتي وحده دون أسباب ندركها.
أما بُعدها السطحي، فيصف آلام الروح الأقل حدة، شعور شوقٍ لا يعرف وجهته، نوستالجيا، تعب الحب. في حضورها الأكثر بساطة تعبر عن الملل، لذلك من المستحيل أن تكون هناك ترجمة دقيقة لكلمة «Toska» لأنها تعبير روسي أصيل يعكس حالة ما بعد السوفييتية، وترتبط بالحنين إلى الشيوعية.
بالمثل، نجد أن المفهوم الكوري «Han» سمة ثقافية مميزة. يشرح اللاهوتي «سوه نامدونج» معناه بأنه: «شعور بالاستياء من الظلم الذي لا يزول أبدًا، وشعور بالعجز بسبب الاحتمالات السيئة الكثيرة أمام الاحتمال الواحد الجيد، والشعور بالألم الحاد في الجسد، ما يجعله يتشنج. وكذلك الرغبة الشديدة في الانتقام وتصحيح الأخطاء مصحوبةً بالحزن والاستياء والألم». يفترض العلماء أن هذا المفهوم يتطور من تاريخ كوريا المليء بالغزو والحروب أو من نظامها الطبقي الصارم.
التعبير الأسباني «Duene» كان يصف في الأصل مخلوقًا أسطوريًّا شبيهًا بالشبح، ويمكنه السيطرة على البشر. إلا أنه تطور بعد ذلك ليشير إلى «القوة الغامضة التي يُحركها الفن في شخص ما». شرح الشاعر «فيدريكو غارسيا لوركا» هذا المفهوم لأول مرة في محاضرة ألقاها في الأرجنتين عام 1933، موضحًا أنه يعني اللاعقلانية والوعي المتزايد بالموت واندفاعًا شيطانيًّا.
هل هناك مشاعر محتكَرة ثقافيًّا؟ يدور النقاش حول ما إذا كانت المشاعر التي توصف بكلمات لا تقبل الترجمة هي مشاعر تتفرد بها ثقافات معينة، أو ما إذا كان البشر في كل مكان يمكن أن يجربوا المشاعر نفسها، لكن بشكلٍ مختلف حسب ما توفره لهم ثقافاتهم من مفاهيم معينة.
تشير دراسة أجراها علماء نفس إلى أن «المشاعر التي تحمل أسماء معينة في لغة بعينها، قد تعمل كمغناطيس للاختبار العاطفي، جاذبةً مشاعر بعينها لتناسب مصطلحات معروفة سلفًا».
المصطلحات المتعددة للشيء ذاته، والمصطلحات التي لا تقبل الترجمة، تمثل فجوات بين الثقافات، لكنها فجوات مقبولة ومفهومة. لأن وجودها يزودنا بمعلومات قيمة حول الثقافات الأصلية لتلك اللغات المختلفة.