أنتَ شديد الانشغال، تقضي تسع ساعات في العمل، ثم تُهرَع هنا وهناك، تحضر مسرحية جديدة، وتتناول كوبًا من القهوة مع أصدقائك القدامى، وتضع صورك لحظة بلحظة على إنستغرام، وتعود إلى بيتك قبل ميعاد «عرب آيدول» لمشاهدة الحلقة النهائية.
الانشغال لن ينجيك من التعاسة
في القرن التاسع عشر، توقع الفيلسوف الوجودي الدنماركي سورين كيركغارد (Søren Kierkegaard) الحال التعس الذي سيصل إليه بعض البشر بعد 150 عامًا، كما أطلعنا مقال نشره موقع «Quartz».
الأفراد الذين يكتظُّ جدول أعمالهم بكثير من الأنشطة هم أكثر الناس حزنًا في نظر كيركغارد، فهم يجدون دومًا شيئًا ليفعلوه، يقومون بأي شيء وكل شيء للهروب من اللحظة الحالية التي يعيشون فيها، سعيًا منهم لتجاهل أهم الأسئلة التي أرهقت البشرية منذ الأزل: من أنا؟ ما سبب وجودي في هذا العالم؟
قد يعجبك أيضًا: كيف يفتح الوعي بوابة الرعب؟
القلق حول المستقبل مجرد حيلة يلجأ إليها العقل ليفصلنا عن الواقع.
المنشغلون، حسب ما يرى الفيلسوف الدنماركي، يمرون بأزمة هُوية حقيقة، فهم يعمدون إلى تشتيت أنفسهم عن التساؤلات المصيريَّة بتكديس أيامهم بالأعمال، كي لا يعطُوا عقولهم فرصةً لتهدأ وتبدأ في السعي وراء إجابات لأسئلة شائكة ليس من السهل الوصول إليها، ومِن ثَمَّ يفقدون شيئًا ثمينًا للغاية هو الهُوية الشخصية التي تميزهم من الآخرين، ولا يستطيعون معرفة هدفهم الحقيقي في الحياة.
توقف عن التفكير في المستقبل
«إذا كنت بلا هوية، فإنك في داخلك لا ترغب في معرفة ذلك، وتجبر نفسك على أن تظلَّ دائم الانشغال».
‒ ستيفن إيفانز
وضَّح أستاذ الفلسفة في جامعة بايلور (Baylor) الأمريكية، «ستيفن إيفانز» (Stephen Evans)، نظرية كيركغارد عن الانشغال وارتباطها الوثيق بنظرته إلى الوقت الحاضر.
القلق حول المستقبل ووضع خطط بعيدة المدى تشغل الفرد لفترات طويلة، كما يفسر إيفانز، مجرد حِيَل يلجأ إليها العقل ليفصل صاحبه عن الواقع الذي يحيا فيه، ويلهيه عن حقيقة عدم إدراكه هُويتَه الخاصة.
يستثني سورين كيركغارد الشقَّ الروحي من هذه المعادلة، لأن انشغالك بالتواصل مع الله يجعلك تعيش في اللحظة الراهنة، ومن أجل هدف واضح هو التعبد للإله الذي تستمد منه حقيقتك.
قد يهمك أيضًا: كيف تجتمع المبالاة مع اللامبالاة في البوذية؟
إذا رفضَ الأشخاص المنشغلين التوقف لمواجهة الأسئلة الوجودية التي تنبت في عقل كل إنسان عند ولادته، وتجاههلوا الحاضر، ووضعوا ما ينتظرهم في السنوات القادمة صوب أعينهم وحسب، فإن هذا لن يُفقِدهم هُويتهم فقط، بل سيُفقِدهم كثيرًا من الفرص كذلك.
سيخشى هؤلاء الارتباط بشخص ما أو الانتماء إلى قضية محددة، لعلَّهم يجدون شيئًا أفضل في المستقبل، وسينتهي بهم الحال كمن ينوي في منتصف كل أسبوع أن يلتزم بنظام صحي ليقلل وزنه منذ السبت المقبل، ولكن هذا السبت لا يأتي أبدًا.
توقف عن التفكير في الماضي
«يغيب الإنسان التعِس عن ذاته دائمًا ولا يعيها مطلقًا، ويمكن للمرء أن يغيب في المستقبل أو في الماضي».
‒ كيركغارد
لا يدلُّنا التعلق بالمستقبل وحده على التعاسة، في رأي كيركغارد، بل الانشغال بالماضي أيضًا، لأن المتعلقين بالماضي يحاولون كذلك نسيان أنفسهم وسط كومة من الذكريات لن تفيدهم بشيء، والغرض الوحيد منها أن تبقيهم منشغلين عن ذواتهم.
البؤساء نوعان في نظر الفيلسوف الوجودي الدنماركي: شخص مليء بالأمل ينصبُّ اهتمامه كله على المستقبل، وشخص غارق في الذكريات يعيش في الماضي ولا يجتازه أبدًا، وكلاهما يرغب في الهروب من الوقت الحاضر لتجنُّب إدراك تعاسته الناتجة عن «أزمة الهوية» التي يواجهها.
على الناحية الأخرى، لا يرى سورين كيركغارد أن بإمكانه الحكم بتعاسة الشخص المتعلق بالماضي أو بالمستقبل، في حالة إدراكه حقيقة ذاته بالفعل.
الانشغال المتعمَّد لا يختلف عن الكسل، كلاهما تطبيق لعدم اكتراث العقل أو الروح بما يدور حولها.
أما أكثر الأشخاص بؤسًا فهم المنخرطون وسط ذكريات وأحلام ليست ملكهم، فما الأسوأ من أن تتعلق بذكرى لم تكُن يومًا لك، من أن تغرق وسط ماضي الآخرين وتعيد ذكرياتهم مرارًا وتكرارًا في عقلك كأنك عشتها يومًا؟ ما الأسوأ من أن تأمل الوصول إلى أشياء لن تحققها أبدًا لأنها لا تخصُّك، وتسعى لتحقيق أحلام الآخرين لنفسك رغم أنها لا تنتمي إليك؟
اقرأ أيضًا: لماذا يجب عليك التخلص من معظم أصدقائك؟
الانشغال والكسل سواء
سيُدهَش سورين كيركغارد لو كان بمقدوره العيش معنا في هذه الأيام، بسبب كمية الأنشطة المتداوَلة التي تشغل الناس عن الحاضر إلى حدٍّ كبير: المسلسلات التركية ذات مئات الحلقات، تويتر الذي يُمضِي عليه البعض ساعات في قراءة آراء لا تهمه لأناس لا يعرفهم، فيسبوك الذي يعطي الناس فرصةً للانشغال بمطالعة حياة الآخرين بدلًا من النظر في حياتهم.
حسب كيركغارد، فإن الانشغال المتعمَّد لا يختلف كثيرًا عن الكسل، وكلاهما تطبيق لفكرة عدم اكتراث العقل أو الروح بما يدور حولها الآن، ورفضٌ لأداء فعل حقيقي ذي معنى يساعدنا على عيش حاضرنا والتوصل إلى هويتنا، حتى نجد إجابات عن الأسئلة الوجودية التي تسكن في عقولنا أينما ذهبنا.
عِش اللحظة الحالية، لا تسمح لقلقك ممَّا سيحمله إليك المستقبل، أو لذكرياتك المتعلقة بما حصل في الماضي، بأن تشغلك عن التفكير في علَّة وجودك. شغِّل عقلك، قد يوصلك هذا إلى معرفة هُويتك، ويريحك من الاضطرار الدائم إلى الهروب من نفسك.