شاعرية لا غنى عنها: كيف تعامل فيلسوف النفعية مع ألمه؟

الفيلسوف البريطاني «جون ستيوارت مل» - الصورة: National Portrait Gallery

محمد ناصر الشعراوي
نشر في 2018/06/21

في عام 1826، في سن العشرين، غرق «جون ستيوارت مِل» في اكتئاب انتحاري. كان في ذلك سخرية مريرة، فنشأته بأكملها كانت خاضعة لفكرة تحقيق أكبر قدر من السعادة. الكيفية التي تسلَّق بها هذا الفيلسوف خارجًا من يأسه الناجم عن فلسفة عقلانية بحتة يمكنها أن تعلمنا درسًا مهمًّا عن المعاناة.

يعرض لذلك «سكوت صامويلسون»، الأستاذ المساعد في الفلسفة والعلوم الإنسانية، في مقاله على موقع «Aeon»، ويخبرنا ما يمكن أن تقوله لنا الفلسفة عن اللغز الأصعب على الإطلاق: كيف نكون سعداء؟

فيلسوف اليأس

الصورة: pxhere

متأثرًا بأفكار «جيرمي بنثام»، اشتملت تنشئة «جيمس مل» الصارمة لابنه على مواد دراسية مفيدة وفقًا للغاية النفعية: تحقيق أكبر قدر من المصلحة لأكبر عدد من الناس. احتلت الموسيقى جزءًا ضئيلًا من المنهج الدراسي، وكانت ذات طبيعة رياضية بما يَفي بالغرض: «موسيقى موتسارت لتطوير قدرات المخ».

بخلاف ذلك، استُبعِدَت المواد غير اللازمة للتطور المادي. عندما تقدَّم مِل الشاب للدراسة في كامبريدج وسنه 15 عامًا، كان قد نبغ في القانون والتاريخ والفلسفة والاقتصاد والعلوم والرياضيات إلى حد أنهم رفضوه، إذ لم يكن لدى الأساتذة ما هو أكثر ليمنحوه.

واصل مل بمشقة جهوده في الإصلاح الاجتماعي، إلا أن قلبه لم يكن شغوفًا بذلك، كان قد تحول إلى آلة نفعية يسكنها شبح انتحاري.

تفوق الإنسان على الطبيعة في مسابقة إلحاق الأذى بالجنس البشري. هل تجوز المقارنة بين زلزال لشبونة 1755 ومعسكر «أوشفيتز» النازي؟

باستخدام قدراته الحسابية الدقيقة، وضع الفيلسوف اليائس إصبعه على المشكلة: «خطر لي أن أوجه السؤال مباشرة إلى نفسي: تخيل أن كل أهدافك في الحياة تحققت، كل ما تطمح إليه من تغيير في الأعراف والآراء حدث، هل سيسبب لك هذا ابتهاجًا وسعادةً عظيمة؟ وقد أجاب وعي ذاتي جامح إجابة واضحة: لا. عندها شعرت بحزن عميق، لقد انهار الأساس الذي أقمت عليه حياتي».

في رأي صامويلسون، كان مِل يزعم دائمًا أن قدرتنا على إنزال الأذى ضئيلة مقارنةً بقدرة الطبيعة. «ما يفعله الإنسان، مهما يكن عنيفًا وقاسيًا، لا يفوق إعصارًا أو وباءً في الأذى والخراب والموت». لكن يصعب القول بذلك بعد القرن العشرين.

تفوق الإنسان على الطبيعة في مسابقة إلحاق الأذى بالجنس البشري. هل تجوز المقارنة بين زلزال لشبونة 1755، الأكثر تدميرًا في التاريخ، ومعسكر أوشفيتز النازي؟ ما حجم الضرر الذي ألحقه وباء الإنفلونزا مقارنةً بإلقاء القنبلة الذرية مثلًا على هيروشيما؟ كذلك، تبرهن الكوارث الوشيكة التي تحيط بالعالم، مثل الاحتباس الحراري أو الحرب النووية، على أن البشر قادرون على التعجيل بنهاية عالمهم.

لكن المشكلة ليست مقتصرة على كوارث «الإنسانية». فحتى عندما تتحسن الأمور، من الناحية المادية البحتة نتيجةً لالتزامنا بمبادئ النفعية، فإن سعادتنا المتزايدة لا تكون ذات معنى في كثير من الأحيان.

اعترض مِل على أولئك الذين سماهم «المغادرون»، العدد المتنامي من الناس الذين يشتركون، برغم اختلافاتهم العقائدية والفكرية، في نفس رغبة الخروج عن النظام والمعتاد، وما تفرضه عليهم حياتهم «المادية». هذا الاعتراض الذي أطلقه مل كان موجهًا كذلك إلى الحياة الكسولة المتراخية، التي ينتج عنها اضطرابات نفسية مزعجة، يجري إخمادها بجرعات منتظمة من العقاقير والمشتتات، وهو الأمر الذي ما يزال ينطبق على عصرنا هذا.

عندما نرى بعضنا من ناحية المنفعة، مثلما أدرك «جان بول سارتر» قبل فيسبوك وتويتر بزمن، نجد أنفسنا في مواجهة حقيقة أن «الآخَر هو الجحيم».

الاعتقاد النفعي في ما يتعلق بمشكلة الشر لا يخلو من الصحة. فالمعاناة في النهاية تتجاوز غاياتنا ومعتقداتنا، ومن القسوة ادعاء خلاف ذلك، لكن من الخطأ كذلك الاعتقاد بأن مشكلة الشر تطرح جانبًا قضية الإله أو خيرية الطبيعة. عندما لا نتقبل بُعدًا جوهريًّا للمعاناة، نعاني أكثر. ثَمَّة غموض هائل في قلب كينونة الإنسان: التناقض بين مقاومة المعاناة وتَقبُّلِها، فالتخلي عن أيٍّ من طرفي هذه المفارقة هو مشكلة الشر الحقيقية.

ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟

الصورة: DanaTentis

وفقًا لصامويلسون، أفضل الأشياء في الحياة تدلنا نحو الغموض، لا الوضوح.

فكِّر في الفن الذي يغمرنا بالسرور عبر استدعاء مآسينا، فكِّر في السخرية التي تجعلنا نَضُجُّ بالضحك والتعبير عما يُخزينا. فكِّر في العفو الذي يسمح لنا بأن ننقد ونُنتقَد دون تدمير علاقاتنا. فكِّر في الحرية التي تمنح حياتنا ثقلًا حين تجعلنا عرضة للخطأ.

هذه الأشياء التي قد تُسخِّر جُل طاقاتنا من أجل تحقيقها قد لا تكون ذات نفع من الناحية المادية في غالبية الأحيان، إلا أن عدم جدواها مفيد للغاية من أجل الحصول على حياة ذات معنى.

إليك مفارقة أخرى: ما انتشل مِل أولًا من اكتئابه الناجم عن النفعية كان فعلًا من أفعال المعاناة. حين قرأ قصة أحد المؤرخين عن فقدانه والده في صغره، أخذ مِل يبكي، وحقيقة أنه يبكي غمرته بالسعادة: «حينها لم أعد يائسًا، لم أعد جذع شجرة أو حجرًا».

بعد ذلك، أبحر مِل في الشعر الرومانسي الذي غذَّى عالَمه الداخلي. وبإضافة جانب وجداني إلى حياته، كشف الأدب أفقًا جديدًا للقيمة، أفقًا شكَّلته مفارقة المعاناة.

الأكثر أهمية أن مِل وقع في حب امرأة متزوجة، وبعد وفاة زوجها قال في سخرية مريرة: «لقد كان مقدرًا أن أستخلص من هذا الشر الخير الأعظم لي». لم تكن زوجته (لبقية حياته) تمتلك القوة الذهنية التي احترمها في والده فحسب، بل جسَّدت أيضًا الشِّعر الذي لم يتلقَّه خلال نشأته: «كان لديَّ ما هو نظري وعلمي بحت، أما المُكَوِّن الإنساني اللائق، فأتى منها».

دون الفضائل التي تنسف النفعية وتجعلنا منفتحين على المعاناة، حتى الحياة في منتهى السعادة ستكون بائسة.

حاول مل فلسفيًّا أن يجد حلًّا لإشكالية المعاناة بالقول إن الخير الأسمى، كالحب والأدب، أكثر إرضاءً من أنواع المسرات الأولية. هذا صحيح إلى حد ما، فمتطلبات الإشباع لم تعد نفعية، بل صارت أقرب إلى المغامرة والجمال، وحتى القداسة.

يقول الفيلسوف السياسي «مايكل ساندل» في كتابه «العدالة: ما الصواب الواجب فعله؟»: «أنقذ مِل النفعية من تهمة أنها تختزل كل شيء في عملية حسابية جافة للذة والألم، فقط حين استحضر القيمة الأخلاقية للكرامة الإنسانية واستقلالية الشخصية عن المنفعة نفسها».

ينبغي أن نكون متيقظين تجاه دين الإنسانية، لأن تسخير حياتنا للمنفعة يجعلها فارغة ولا معنى أصيلًا لها. لدينا كثير من الأمور لنتعلمه من رغبة مل الشديدة في إضفاء لمحة شاعرية إنسانية على الإيقاع السريع للحياة اليومية.

دون الفضائل التي تنسف النفعية وتجعلنا متقبلين للمعاناة، حتى الحياة في منتهى السعادة ستكون بائسة.

مواضيع مشابهة