تبدو العلاقة بين العمر والوقت مضحكة، فرغم أن كليهما يمضي في الاتجاه نفسه بالخطى ذاتها، فإننا كلما تقدمنا في العمر، نقص الوقت المتاح أمامنا، وابتلعت مسؤوليات العمل والأسرة جزءًا كبيرًا من وقتنا، فتنسحب صداقات العمر إلى خلفية المشهد.
يُكوِّن الرجال والنساء أكبر عدد من الروابط الاجتماعية عند سن الخامسة والعشرين، وفق دراسة حديثة، ولكن مع استقرار كل شخص في وظيفته، وتقديمه للعلاقات العاطفية على ما سواها، تنكمش هذه الدوائر الاجتماعية بوتيرة سريعة، وتتراجع الصداقات إلى مرتبة أقل أهمية في الحياة.
وقد يكون لفقدان تلك العلاقات الاجتماعية آثار اجتماعية ونفسية، إذ تُظهِر الأبحاث أن روابط الصداقة حيوية للحفاظ على الصحة الجسمانية والنفسية، فالعلاقات الاجتماعية القوية تساعد على تعزيز أداء الجهاز المناعي وإطالة العمر، إضافةً إلى خفض احتمالات الإصابة ببعض الأمراض المزمنة، ورفع قدرتنا على التعامل مع الآلام المزمنة.
الوحدة قاتلة، بالمعنى الحرفي للكلمة. لكن هذا لا يعني أن نقضي كل الأوقات مع الأصدقاء، فأهمية الأصدقاء تكمن في الدعم الذي يقدمونه لبعضهم بعضًا، فالصداقة الحقة هي التي تغذي أرواحنا وتجعلنا أكثر صلابة وقوة. أحد الباحثين اعتبر أن وباء الوحدة يشكل خطرًا أكبر على صحة الإنسان من السمنة المفرطة.
معظم الناس لا يدركون أن الصداقة مفيدة للغاية، فهم يفكرون فيها باعتبارها رفاهية، دون أن يدركوا أنها يمكن أن تضيف سنوات إلى عمرهم فعلًا. لكن لا يتطلب الحفاظ على الصداقات المهمة في حياتنا التضحية بوقت طويل، فثَمّة أمور يمكننا أن نؤديها للحفاظ على تلك الروابط متينةً وسط ازدحام مسؤولياتنا، وهذا ما يستعرضه مقال منشور على موقع نيويورك تايمز.
1. صارح صديقك بما تتوقعه من علاقتكما
تنصح «ميريام كيرماير»، وهي باحثة في شؤون الصداقة ومعالِجة نفسية، بأن يوضح أطراف الصداقة أنهم مشغولون متى كانت جداولهم وأوقاتهم ضيقة: «إذا كنت تعلم أنك لن تكون متاحًا بالقدر نفسه في أيام أو أسابيع بعينها، أبلغ صديقك، لأن هذا سيقلل فرص حدوث سوء تفاهم أو خلافات تؤدي إلى شعور أحد الطرفين بأنه متجاهَل».
صارِح أصدقاءك بكَمْ ستطول مدة غيابك، وكيف يمكنهم أن يتواصلوا معك في تلك الفترة. فمثلًا، يمكنك أن تقول: «لديّ إيميلات لا حصر لها، فتواصلوا معي عبر فيسبوك». أخبِرهم كذلك متى ستعود إلى حياتك الطبيعية. دعك من جملة «أنا مشغول جدًّا» دون توضيح كافٍ.
قد تكون مشغولًا من أول اليوم إلى آخره، لكن الحديث عن الانشغال التام دون إعطاء توضيحات أكثر ربما ينفِّر الأصدقاء.
حين يقول شخص ما: «أنا مشغول للغاية»، لا ندري إن كان يقصد أنه مشغول في الوقت الحالي فقط، أم أن تلك هي طريقته في رفض قضاء وقته معنا، أو التعبير عن عدم الاهتمام بعلاقته بنا، وفق «شاستا نيلسون»، مؤلفة كتاب «Frientimacy».
كثيرًا ما تنتهي الصداقة لا لشيء سوى لأن حياتنا صارت فوضوية، ولأن المسافات بيننا تباعدت، وفق نيلسون.
بدلًا من الأعذار المائعة عن انشغالك وازدحام أوقاتك، تنصح نيلسون بأن تكون محددًا، قل: «أنا مشغول حتى آخر الشهر»، وقَدِّم فرصة لتعويض ذلك الغياب، فإذا كنت لا تستطيع أن تقابل صديقك وجهًا لوجه في وقت قريب، اقترح أن تتحدثا على الهاتف أو عبر سكايب أو بأي طريقة أخرى حتى لا يشعر صديقك أنك أهملته.
2. تأكد أن ما يشغلك مهم حقًّا
لو كنت لا تستطيع أن تجد وقتًا كافيًا لتناول وجبة خفيفة مع أصدقائك، فربما عليك إعادة تقييم أوضاعك.
إذا وجدت أنك مشغول عن أصدقائك المقربين، فربما عليك أن تراجع الطريقة التي تُمضي بها أوقاتك.
لو كنت تجد الوقت لمشاهدة التلفزيون فترات طويلة، وتصفح فيسبوك ملايين المرات في اليوم الواحد، فيمكنك أن تجد الوقت كي تكون مع أصدقائك.
تتفق كاتبة المقال مع هذا الرأي، فترى أنك لو كنت لا تستطيع أن تجد مساحة كافية من الوقت لتناول وجبة خفيفة مع الأصدقاء مثلًا، فربما عليك إعادة تقييم أوضاعك. اسأل نفسك: «كيف أقضي وقتي؟ هل ثَمّة وقت للتنزه مع أحد زملائي في العمل الذين أحبهم؟».
أما الكاتبة «لورا فاندركام» فجربت أن تتتبع الكيفية التي تقضي بها أوقاتها، وساعدها ذلك على التخلص من وهم الانشغال المستمر. فقد سجلت بالتفصيل كيف قضت وقتها طوال عام كامل، فوجدت أن القصص التي كانت تؤلفها حول انشغالها لم تكن دائمًا صحيحة. وتقترح استخدام برنامج «إكسيل» لتتبع الأنشطة التي نفعلها كل نصف ساعة، وكذلك تطبيق «Toggl».
تقول كاتبة المقال إنه حين تتضح الطريقة التي نمضي بها أوقاتنا، سنتمكن من تعديل أنشطتنا بطريقة أكثر إيجابية.
اقرأ أيضًا: 3 خطوات لتجاوز الخلافات السياسية مع أصدقائك
3. استخدم الرسائل القصيرة واللفتات الشخصية
تَذَكُّر الأحداث المهمة، مثل أعياد الميلاد، أمر مفروغ منه بين الأصدقاء، والتفاصيل الأصغر، مثل السؤال عنه بعد زيارة الطبيب، لا تقل أهمية.
اللجوء إلى الرسائل القصيرة قد يعكس اهتمامًا شخصيًّا بأصدقائنا وتفكيرنا فيهم، فهي وسيلة سهلة للحفاظ على العلاقات حين تضيق الأوقات. شارك أصدقاءك بعض تفاصيل يومك التي لا يمكنهم استنباطها من منشوراتك وصورك على إنستغرام أو سناب شات أو غيرها من التطبيقات.
تقترح ميريام كيرماير أن تكون تلك الرسائل شخصية للغاية، وتُظهِر للطرف الآخر أنك تفكر فيه حقًّا. فتَذَكُّر الأحداث المهمة، مثل أعياد الميلاد، أمر مفروغ منه بين الأصدقاء، ولكن الاهتمام بتفاصيل أصغر، مثل السؤال عنه بعد زيارة الطبيب أو بعد يوم عمل صعب، أمر لا يقل أهمية: «رسالة سريعة قد تؤدي الغرض».
تنصح الكاتبة بتوجيه أسئلة تسمح باسترسال الحديث، وتعطي الطرف الآخر فرصة لكشف بعض تفاصيل يومه، مثل: كيف كانت إجازتك؟ كيف وجدت عملك الجديد؟ وتنصح باجتناب عبارات مثل: أتمنى أن تقضي يومًا سعيدًا، التي لا تسمح بإجراء حوار.
4. حدد موعدًا ثابتًا للقاء أصدقائك
إذا كنت تريد الابتعاد عن حيرة ترتيب موعد للقاء أصدقائك، حدد وقتًا دوريًّا لذلك.
قد لا يبدو هدفًا طموحًا أن تقابل مجموعة معينة من أصدقائك مرة كل عدة أشهر، لكن ترتيب حفل سنوي، أو أي مناسبة دورية للاجتماع ورؤيتهم، قد يكون أفضل بكثير من ترك الأمر رهن ظروف كل شخص.
وقد يكون البديل محاولة فعل أمور كثيرة، مثل أن تطلب من صديقك حضور حفل موسيقي معك. كلما زادت الأشياء التي تفعلونها معًا، ارتفعت احتمالات لقائكم، فهذه التفاعلات مهمة للإبقاء على الصداقة.
اقرأ أيضًا: تعريف الحب والصداقة.. وما بينهما
5. احرص على حضور المناسبات المفصلية
طريقة أخرى للحفاظ على أواصر الصداقة حين تنكمش أوقات فراغنا، هي الحرص على حضور الأحداث المحورية في حياة صديقنا، مثل «سُبوع» ابنه، أو عيد ميلاده، أو حفل تقاعده. قد لا تكون هناك فرص كثيرة لكي نؤثر في حياة أشخاص نهتم بأمرهم، فإذا بذلت جهدًا وأفسحت وقتًا، سيمتن لك صديقك.
ينصح المقال كذلك بأن نبادر بفعل لفتات لطيفة مع الأصدقاء الذين نحرص عليهم فعلًا، إذ سيبثُّ هذا التصرف الروح في الصداقة لفترة من الوقت، حتى لو كنتما مشغولَيْن عن اللقاء. ظهورك في الأوقات المهمة سيجعل صديقك يشعر بالحب والاهتمام، حتى لو لم تكونا على اتصال دائم.
مهمٌّ أن نعرف ما الذي ينعش صداقاتنا، لأن المعرفة تساعدنا على أن نُبقِي على فعاليتها حين يتضاءل الوقت.
تقول نيلسون إن علينا أن نعي أن تقييم الصداقات ومتانتها يتوقف على ثلاثة عوامل:
- الإيجابية: الضحك معًا، والعرفان بالجميل، وتوفير الدعم والتأييد، وتقديم الخدمات
- الاتساق/الثبات: التواصل بشكل مستمر، فهو يعطي شعورًا بالأمان والقرب
- إظهار الضعف الإنساني: مشاركة صديقك بعض أمور حياتك بقدر من المكاشفة
«أي علاقة لا تتضمن هذه الأمور الثلاثة ليست صداقة صحية» وفق نيلسون، «فإذا لاحظت فتورًا مع أحد الأصدقاء، عادةً ما تكون واحدة من هذه المناطق في حاجة إلى اهتمام خاص».
مهمٌّ أن نعرف ما الذي ينعش صداقاتنا، لأن المعرفة تساعدنا على أن نُبقِي على فعاليتها حين تتضاءل مساحة الوقت.
تقول نيلسون: «لا نريد للصداقة أن تعيش على الرسائل القصيرة، لكنها بالتأكيد تستطيع تجاوز الأوقات المحمومة إذا عرفنا أين نستثمر وقتنا».
6. اعترف بالجهد الذي يبذله صديقك
يجب أن نقول لأصدقائنا إننا آسفون لعجزنا عن الرد عليهم متى سألوا، في حال شعرنا بأنهم يتفقّدون أحوالنا بوتيرة لا نستطيع التجاوب معها بالسرعة الكافية.
قد لا يبذل طرفا علاقة الصداقة الجهد ذاته لإبقاء صداقتهما حية، لكن عليك أن تقدِّر الجهود التي يبذلونها على كل حال، لا تترك مجالًا لزرع الكراهية.
إذا كان أحد الطرفين يبذل جهدًا أكبر باستمرار، قد تحدث مشاكل، لذا يجب أن نُعلم أصدقاءنا أننا نقدِّر جهدهم وسعيهم إلى الاطمئنان علينا.
علينا أن نُخبر أصدقاءنا أننا آسفون لعجزنا عن الرد عليهم متى سألوا، في حال شعرنا بأنهم يتفقّدون أحوالنا بوتيرة لا نستطيع التجاوب معها بالسرعة الكافية.
معظم الناس يريدون فقط أن يعرفوا أنهم محبوبون ويشغلون حيزًا من تفكيرنا، فإذا استطعنا أن نُطَمئنهم بدلًا من مجرد تجاهلهم والاعتذار بالانشغال، سيتفَهّم معظمهم الوضع، وسيظلون يشعرون بالمحبة خلال تلك الأوقات التي ننشغل فيها عنهم.
تَذكّر دائمًا كيف يغسل الحديث مع الأصدقاء أرواحنا، ويزيح الأعباء والأحزان الجاثمة على قلوبنا. نحتاج إلى تكرار ذلك الشعور كثيرًا، وإلى تصيُّد فرصة لقائهم. تُنسينا مشاغل الحياة والاستغراق في الروتين اليومي أهمية الأصدقاء، إلا أن الأصدقاء ليسوا رفاهية، حضورهم في حياتنا ضرورة، ولا يجب أن يُرغِمنا تثاقل الأعباء على زحزحتهم إلى هامش الحياة، فتصبح تمضية الأوقات معهم اختيارًا مؤجلًا «إلى حين».