ينتمي المؤلف الأمريكي «مارك مانسون» إلى ما يُعرف الآن بالتيار الجديد للتنمية الذاتية. ففي الوقت الذي كان التيار القديم يدفع في اتجاه «إيقاظ المارد بداخلك» أو مطاردة الشغف والسعادة والبحث عنهما، ينحو مانسون وغيره اتجاهًا آخر، يتعلق بالعيش في اللحظة الحالية والانتباه إلى تفاصيل ما يحدث حولنا، واستمداد سعادتنا مما نفعله، لا ما نرغب في فعله.
كتب مانسون هذا المقال، ونشره على موقعه الشخصي، وترجمه لـ«منشور» أندرو محسن.
هل تذكر عندما كنت طفلًا؟ كنت تفعل الأشياء وحسب، دون أن يشغلك سؤال مثل «ما مزايا تعلم كرة القدم مقارنةً بكرة السلة؟»، كنت فقط تجري وتلعب اللعبتين. بنيتَ قصورًا من الرمال ولعبت ألعابًا جماعية وسألت أسئلة ساذجة، وبالإضافة لهذا، بحثت عن الحشرات بين الحشائش واختبأت لتلعب دور الوحش.
لم يخبرك أحد أبدًا أن تفعل هذا أو ذاك، كنت تقوم بكل هذا بمفردك مدفوعًا في الأغلب بالفضول والإثارة. الجميل في الأمر أنه كان بإمكانك التوقف عن اللعب لو سئمت كرة القدم، هكذا دون الشعور بالذنب أو الدخول في مناقشة مع أحد. كان الخيار بسيطًا: إما أنك تحبها أو لا.
يمكنك تأمُّل الحشرات إذا أحببت دون الاضطرار لخوض مناقشة مثل: «هل تأمُّل الحشرات هو ما يجب أن أفعله في مرحلة طفولتي؟ لا أرى أي شخص آخر يراقب الحشرات، هل يعني هذا أن لديَّ مشكلة؟ وكيف ستؤثر هذه الهواية على خططي المستقبلية؟».
لم يكن أيٌّ من هذه الحماقات يدور في رأسك، فقط تحب هذا فتفعله.
كيف تبحث عن شغفك؟
تلقيت اليوم الرسالة رقم 11,504 تقريبًا في هذا العام التي يخبرني فيها شخص بأنه لا يعرف ما يفعله في حياته. ومثله مثل كل من سألني هذا السؤال، استفسر المُرسل إذا كانت لدي أي أفكار بشأن ما يجب أن يفعله، من أين يبدأ و«أين يجد شغفه؟».
بالتأكيد لم أرد على الرسالة، والسبب؟ لأني لا أملك أي شيء لمساعدته. إذا كنت لا تعرف ما يجب أن تفعله بنفسك، فلماذا تظن أن أحد الأغبياء على موقعٍ ما يملك الإجابة؟ أنا كاتب ولست قارئ طالع.
لكن الأهم من هذا، ما أريد إضافته بالنسبة لمثل هؤلاء أن «عدم المعرفة» أهم ما في الموضوع. الحياة كلها تعتمد على عدم المعرفة، ومن ثَمَّ القيام بأي فعل. الحياة كلها تسير بهذه الطريقة، كلها كذلك، ولن تصبح أكثر سهولة لأنك بدأت تحب عملك في تنظيف الخزانات القذرة أو حققت حلمك بكتابة الأفلام.
الشكوى الدائمة لهذه النوعية من الأشخاص هي «حاجتهم إلى إيجاد شغفهم الخاص».
اقرأ أيضًا: هل ينبغي أن يكون العمل الغاية الأساسية من حياتنا؟
ما الذي تفعله خلال 16 ساعة في اليوم؟
أنا أُسمِّي هذا «هراء». بالتأكيد وجدتَ شغفك ولكنك تتجاهله. في الواقع، ما الذي تفعله خلال الست عشرة ساعة التي تكون فيها مستيقظًا يوميًّا؟ بالتأكيد تفعل شيئًا أو تفكر في أي أمر، بالتأكيد تسيطر فكرة معينة أو نشاط على الجزء الأكبر من وقت فراغك، وحواراتك، وحتى الوقت الذي تقضيه على الإنترنت.
هذا النشاط يحتل الحيِّز الأكبر دون تدخل أو شعور منك، يكون دائمًا أمام عينيك ولكنك تتحاشاه، لسبب ما تتحاشاه، تقول لنفسك: «حسنٌ، أنا أحب القصص المصورة ولكن لا يمكن أن نعدَّ هذا شغفًا، لا أحد يستطيع كسب النقود من وراء القصص المصورة».
فعلًا؟ هل حاولت من الأساس؟
المشكلة ليست في غياب الشغف بشيء ما، المشكلة هي الإنتاج والإدراك، المشكلة هي أن تقبل الفكرة. المشكلة هي عبارات مثل «هذا ليس خيارًا واقعيًّا»، أو «أبي وأمي سيقتلانني إن حاولت أن أفعل هذا، ينتظران أن أصبح طبيبًا»، وربما «هذا جنون، لن تنجح في شراء سيارة (BMW) بالمال الذي تجنيه من هذا الشيء».
لهذا، فالمشكلة ليست ولم تكن أبدًا في الشغف؛ إنها الأولويات.
لا تصدق الأفلام الرخيصة
لو تصورت أنك ستعشق كل ثانية في العمل، فغالبًا تم غسل دماغك.
مَن قال إن عليك أن تجني النقود من فِعلِ الأشياء التي تحبها؟ منذ متى كان الجميع يحبون كل ثانية يقضونها في أعمالهم؟ ما المشكلة في أن تمارس عملًا عاديًا مع شخصيات لطيفة تحبها، ثم تلاحق شغفك في أوقات فراغك؟ هل انقلب العالم؟ فكرة جديدة، أليس كذلك؟
الآن إليك ضربة أخرى: أي وظيفة ستكون مزعجة في بعض الأوقات، لا يوجد ما تعتقد أنه سيكون نشاطًا على هواك لا تملُّ منه أبدًا، أو لن تتعب أو تشكو بسببه. أنا أعمل في وظيفة أحلامي (وهو ما حدث مصادفةً بالمناسبة، لم أخطط لسنوات طوال كي يحدث هذا؛ بل مثلما ذكرتُ عن ألعاب الطفولة، جرَّبتُ أن أفعله ببساطة)، وعلى هذا فإني أكره نحو 30% منها، وأحيانًا أكثر. مرة أخرى، هذه هي الحياة.
القضية هنا هي الآمال والتوقعات الكبيرة. إذا كنت تظن أنك ستعمل في وظيفة لمدة 14 ساعة في اليوم، وتنام في مقر عملك مثل «ستيف جوبز»، وتعشق كل ثانية في العمل، إذًا فأنت تشاهد الكثير من الأفلام الرخيصة. إذا كنت تتخيل أنك ستستيقظ صباح كل يوم وترقص بملابس النوم لأنك متجه إلى العمل، فغالبًا تم غسل دماغك. الحياة لا تسير بهذا الشكل، هذا غير واقعي، هناك شيء يُدعى «التوازن»، وجميعنا نحتاج إليه.
شغفك قد يجدك دون أن تبحث عنه
أحد أصدقائي أمضى السنوات الثلاثة الأخيرة في محاولة تأسيس عمل تجاري على الإنترنت لكنه لم ينجح. وبقولي «لم ينجح»، أعني أنه لم يشرَع حتى في أي شيء، رغم سنوات «العمل» وتأكيده أنه سيقوم بهذا أو ذاك، لم يحصل أي شيء.
ولكن ماذا يحدث عندما يأتي أحد أصدقائه القدامى ويطلب منه أن يصمِّم له رسمًا لشعار أو مادة دعائية؟ يهجم صديقي على العمل مثلما يجتمع النمل على قطعة سكر. يؤدي عملًا رائعًا، ينسى نفسه حتى الرابعة صباحًا، يعمل ويعشق كل لحظة من هذا العمل، لكن لا يمرُّ يومان حتى يعود إلى «لا أعلم ما الذي عليَّ أن أفعله».
قابلتُ مثل هذه الشخصية كثيرًا، لا يحتاج للبحث عن شغفه لأن شغفه وجدَه بالفعل، ولكنه يتجاهله، ويرفض أن يصدق أنه موجود، بل لا يحاول حتى أن يُقدِم على محاولة حقيقية.
إن هذا يشبه أن يفكر طفل وهو يلعب أنَّ «الحشرات ممتعة فعلًا، ولكن لاعبي كرة القدم المحترفين يَجنون نقودًا أكثر، لهذا يجب أن أجبر نفسي على ممارسة كرة القدم يوميًّا»، وبعد هذا يذهب إلى المنزل ويقول إنه لا يحب «الفُسحة».
هذه حماقة أخرى، فكلنا نحب فترات الراحة، لكن المشكلة هنا أنه قرر بعشوائية أن يقيِّد نفسه في ظل أفكار سخيفة ملأت رأسه عن النجاح وما يجب فعله.
قد يهمك أيضًا: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟
إن بحثت عن شغفك، فاعلم أنه ليس موجودًا
رسالة أخرى تصلني مرارًا من أشخاص يطلبون نصيحة عن «كيف يمكن أن يصبحوا كُتَّابًا؟»، وإجابتي تكون دائمًا واحدة: ليس عندي أدنى فكرة.
في مرحلة الطفولة، اعتدت أن أكتب قصصًا قصيرة من باب التسلية. وخلال المراهقة، كتبت مراجعات عن الموسيقى ومقالات عن الفرق الموسيقية التي أحبها، دون أن أُطلع عليها أحدًا. ومع ظهور الإنترنت أمضيت الساعات وراء الساعات على المنتديات أكتب منشورات مكونة من عدة صفحات عن موضوعات تافهة؛ بدايةً من التقنيات الدقيقة للغيتار الكهربائي حتى أسباب الحرب على العراق.
لم أفكر أبدًا في الكتابة كعمل، بل حتى لم أعتبرها شغفًا أو هواية. بالنسبة لي، الموضوعات التي أكتب عنها كانت هي الشغف: الموسيقى، السياسة، الفلسفة. كنت أكتب لأني أحب ذلك.
عندما بدأت أبحث عن وظيفة أستطيع أن أحبها، لم أقضِ وقتًا طويلًا في التفتيش. في الحقيقة، لم أبحث على الإطلاق، الوظيفة هي التي اختارتني بشكل ما، كانت هناك تنتظرني، شيء أحبه وأفعله منذ كنت طفلًا دون تفكير.
إليكم أمرًا آخر سيضايق البعض: إن كنتَ تبحث عن شيء يكون محل شغفك، ففي الأغلب لستَ شغوفًا به على الإطلاق. إن كنتَ تحب شيئًا فستجده متأصِّلًا داخلك، وربما تحتاج إلى أن يخبرك مَنْ حولك أنه ليس عاديًا، وأن بقية الناس لا يفعلونه بمثل هذه الصورة.
لم يخطر في بالي أبدًا أن كتابة مقال يبلغ طوله ألفي كلمة على أحد المنتديات لن يكون مسليًا بالنسبة للآخرين، وكذلك لم يخطر ببال صديقي أن تصميم شعار لا يعتبر شيئًا سهلًا أو ممتعًا لمعظم الناس. بالنسبة إليه، هذا أمر طبيعي تمامًا ولا يمكن أن يكون غير ذلك، ولذلك فهو غالبًا ما يجب أن يفعله.
لن تجد صبيًّا يتساءل في ملعبٍ للأطفال: «كيف أستمتع بوقتي هنا؟». الأطفال يستمتعون ببساطة ودون أسئلة.
إذا قررتَ أن تبحث عمَّا تحبه في حياتك فعلى الأغلب لن تستمتع بأي شيء على الإطلاق. أنت في حقيقة الأمر تستمتع بشيء ما، بل بعدة أشياء، لكنك تختار أن تتجاهلها وتتجاهل شغفك.