لم يكن الشاب الأفغاني يتحرك. يتذكر أنه منذ فترة ليست بعيدة كان من تطأ قدماه ملعب «غازي» يعلم أنه على مشارف نهايته، محكوم عليه بالموت، والآن هو بنفسه هناك. يحرك عينيه، يحاول إدراك ما تريانه من أرض خضراء ممتدة. يقطع خطوات ثقيلة ومرتبكة في البداية، ثم يبدأ في الركض. يركض كما اعتاد أن يفعل طَوَال حياته، فالمرء هنا يركض بمجرد أن يهتز المشهد من حوله، والمشهد هنا يهتز بغتةً وبعنف كحجر ثقيل أُلقي على سطح ماء راكد.
الحجر قد يتمثل في صورة قصف جوي أو سيارة مفخخة أو لغم زُرع في جثة أحد الجنود، لا وقت للأسئلة، فأنت لا تعرف موقعك تحديدًا من ضربة الحجر، لذا، بمجرد أن يلامس صفحة الماء ويبدأ المشهد في الاهتزاز عليك أن تركض. مرحبًا بك في أفغانستان.
رغم شعبيتها: تاريخ قصير للكرة الأفغانية
صمدت كرة القدم في أفغانستان في وجه محاولات بترها من الجذور، وبقيت حتى عادت والتفَّ حولها الجميع.
«عندما يلعب رجال من قبائل مختلفة في نفس الفريق فهذا يعني الكثير. هذا الدوري يوجه رسالة بوحدة الشعب، خصوصًا في بلد لم يعرف أبدًا ذلك الشعور».
- «كريس ماكدونالد»، أحد مؤسسي الدوري الأفغاني.
كرة القدم هي اللعبة الشعبية في أفغانستان، أو هي اللعبة المتاحة للفقراء أكثر من أي شيء آخر. ويكفي للتوضيح تلك الصورة التي التُقطت للطفل الأفغاني مرتضى أحمدي، الذي ارتدى قميصًا مصنوعًا يدويًّا من كيس بلاستيكي باللونين الأبيض والسماوي المميزين لمنتخب الأرجنتين، وكتب على ظهره اسم لاعبه المفضل ليونيل ميسي.
لكن كرة القدم في أفغانستان لعبت دورًا أكثر دراميةً حتى من صورة مرتضى، فقد صمدت في وجه محاولات بترها من الجذور، وبقيت حتى عادت والتفَّ حولها الجميع.
بدأت ممارسة كرة القدم بصورة رسمية عام 1933 حين أُنشئ الاتحاد الأفغاني لكرة القدم، الذي التحق بالاتحاد الدولي «فيفا» بعد 15 سنة، وفي نفس العام لعب منتخب أفغانستان مباراته الوحيدة في أولمبياد لندن 1948 أمام لوكسمبورج.
تعود آخر مشاركات أفغانستان الدولية إلى سبتمبر 1984، ثم توقف نشاط كرة القدم حين احتلت الحرب السوفييتية المشهد، تلتها جاءت الحرب الأهلية الأفغانية، انتهاءً إلى حكم طالبان الذي منع ممارسة كرة القدم في بعض المناطق، وفي مناطق أخرى صارت الكرة أمرًا غير محبب على الإطلاق.
اقرأ أيضًا: هل يتكرر سيناريو الأفغان العرب مع مسلحي «الدولة الإسلامية»؟
طالبان: عندما يرتوي ملعب كرة القدم بالدم
كانت ملاعب كرة القدم تضج بصيحات الانبهار والإعجاب، بينما كان الأفغان يتخوفون من مجرد ذكر الاستاد، فكثير من الدماء أريقت هناك.
«كنت أنظر إلى الملعب وأفكر: في هذه البقعة تحديدًا قتلت طالبان امرأة أو أكثر. من الصعب أن تلعب كرة القدم في مكان تعرف أنه شهد كثيرًا من القتل».
- إسلام أميري، كابتن منتخب أفغانستان.
رؤية حركة طالبان لكرة القدم تتضح جليةً في ملعب غازي، أو استاد أفغانستان الوطني، فالملعب، الذي بُني عام 1923 في عهد أمان الله خان لممارسة كرة القدم، كان يُستَخدم لتنفيذ عقوبات الإعدام وبحضور إلزامي.
كان ذلك أحد أقسى الأشياء التي شهدتها كرة القدم، فبينما كانت الملاعب في البلدان الأخرى تضج بصيحات الانبهار والإعجاب، كان الأفغان يتخوفون من مجرد ذكر الملعب، حتى أن أحدًا لم يجرؤ على دخوله ليلًا بعد انتهاء حكم طالبان، فكثير من الدماء أريقت هناك، وكثير من المعارف كانت آخر صورة لهم على الأرضية الخضراء.
لكن شيئًا ما قد يجعلك تعود مرة أخرى إلي هذا الملعب، خصوصًا إذا تغير شكله كثيرًا وعاد كما كان قديمًا، أرضيته خضراء وتحوطه الأعلام. نعم، قد تعود إذا كنت من محبي كرة القدم.
لطالما كانت كرة القدم نشاطًا يجد فيه الإنسان حريته، فلا سبيل لأحد أن يمنع محبي الكرة من ممارستها. لو مُنِعت الكرة في الاستادات ستُلعب في الشوارع، ولو مُنِعت في الشوارع ففي المنازل، وحتى لو أُجبِرتَ على مشاهدة عمليات الإعدام في المكان المخصص لكرة القدم، فلن تكره الكرة ولكن ستكره من حرمك منها. لذا، بمجرد انتهاء حكم طالبان عادت كرة القدم إلى الحياة والتفَّ حولها الجميع.
قد يهمك أيضًا: كلاسيكو المتعة والصناعة: من يفوز بـ«كرة القدم»؟
يشهد عام 2017 الموسم السادس من الدوري الأفغاني لكرة القدم، المكون من ثمانية فرق. تُلعب جميع المباريات صباحًا، وهو أمر معتاد في بلاد قضت سنوات من حظر التجوال ليلًا. تُلعب كل المباريات أيضًا في العاصمة كابول لأسباب أمنية.
الخطر يبدأ من مجرد التفكير في تأسيس فريق لكرة القدم، فكثير من الفرق التي تنتسب إلى قبائل في أنحاء أفغانستان تعرضت لتهديدات بالاختطاف والقتل، إلا أنهم اكتفوا من محاولات القمع وقرروا أن يصبحوا لاعبي كرة قدم، خصوصًا أن المباريات تُذاع جميعها على التليفزيون.
ما بعد طالبان: النساء يحترفن كرة القدم
لم يكن للنساء حق ممارسة أي رياضة في عهد طالبان، ولعل حديث نادية نديم، الفتاة الدنماركية أفغانية الأصل، عن كرة القدم يوضح الكثير.
نديم، لاعبة الكرة المحترفة في نادي بورتلاند ثورنز الأمريكي، لم تمارس كرة القدم أبدًا إلا في حديقة منزلها. هكذا كان الوضع في كل أفغانستان، لكن التهديدات تصبح أكبر بالطبع إذا داعبت الكرةَ أقدامُ سيدات، والكراهية تزداد من مجموعة كانت تفرض على نساء بلد بأكمله الالتزام بالمنزل، والآن تلك المجموعة تشاهد النساء يلعبن كرة القدم على شاشات التليفزيون، في دوري مكون من أربعة فرق ويمثله منتخب وطني.
قد يعجبك أيضًا: هل تحارب كرة القدم العنصرية أم تدعمها؟
في بلد شهد من الحرب أكثر ممَّا شهد سلامًا، كان الفوز في كرة القدم تحت علم أفغانستان أثمن من أن يُشرح لأحد.
قليلًا ما يقترن اسم أفغانستان بالإنجازات الرياضية، خصوصًا أن البلاد ما زالت تعاني تصدعًا سياسيًّا ووضعًا اقتصاديًّا صعبًا للغاية، لكن بمرور الوقت تظهر بعض الإنجازات، لعل أبرزها الميدالية البرونزية التي حققها لاعب التايكوندو روح الله نيكبا في أولمبياد بكين 2008، كأول ميدالية أولمبية أفغانية في التاريخ.
لم يكن أحد يتوقع أن الأمر سيكون مهمًّا لهذه الدرجة، لكن في بلد شهد من الحرب أكثر ممَّا شهد سلامًا، كان الفوز تحت علم أفغانستان أثمن من أن يُشرح لأحد، فالقبائل التي تناحرت لعقود كانت تقف جنبًا إلى جنب في ظل نفس العلم، وتهتف للاعبين لا يعلم أحد إلى أي عِرق ينتمون. صرخ بها أحد المحتفلين: «اليوم أنا فخور بأني أفغاني». ربما لم يسمع أحد تلك الجملة بهذا الصدق منذ عشرات السنين.
نعم، لا يزال الشاب يركض، لكن الأمر تغير كثيرًا الآن، فصرخات الفزع التي كانت تلاحقه في الاستاد اختفت، تبدلت إلى صيحات تنادي اسمه. أصبح يدرك تحديدًا مَن حوله ومن هو، كان يركض دون هدف، واليوم يركض نحو هدفه مباشرة. بالطبع لا يمكن أن ينسى الماضي، خصوصًا أن الوضع ما زال مضطربًا والاقتصاد متردٍّ، لكنه علي الأقل يؤمن أنه، وكرة القدم وأفغانستان، سيكونون أفضل في المستقبل.