من بين 30 ألف نوع نباتي صالح للأكل، تشير منظمة الأغذية والزراعة إلى أن 30 نوعًا فقط هي المحاصيل الزراعية التي تُغذي العالم. ومن بين الثلاثين نوعًا، يوفر الأرز والقمح والذرة والدُّخن والذرة الرفيعة 60% من الطاقة الغذائية لكل سكان كوكبنا.
يختلف النظام الغذائي بين منطقة وأخرى، كما أن نسبة استهلاك نوع محدد من الحبوب تتغير من بلد إلى آخر، ويرجع هذا إلى تضافر عوامل صحية واقتصادية واجتماعية تُعلي من شأن نوع غذائي دون غيره. كما تتعرض هذه النسب لتحولات كبيرة كذلك، ربما نشهد واحدة منها في الوقت الحالي.
وبينما يعود تراجع بعض الأنواع إلى أسباب تتعلق بالتكنولوجيا الزراعية وطبيعة العمل اليومي والظروف الصحية والتطلعات الاجتماعية، تتزايد في المقابل أعداد الذين يستهلكون حبوبًا بعينها محاكاةً لنمط غذاء الفئات المنعَّمة والغنية، بينما يحدث العكس بالضبط في البلدان المتقدمة.
ويحاول مقال على موقع «The Economist» أن يستكشف الأسباب التي تؤثر في تحول التفضيلات الغذائية على مستوى العالم.
الغرب الإفريقي يتجه إلى الأرز
في حقول غرب إفريقيا، وبالتحديد في ساحل العاج التي تشتهر بإنتاج الكاكاو، أصبح الجميع يتجه إلى زراعة الأرز، عكس ما كان عليه الأمر في تسعينيات القرن العشرين، بحسب أحد مزارعي منطقة تياسالي القريبة من العاصمة أبيدجان.
استهلاك الفرد في بلدان جنوب الصحراء الإفريقية للأرز هو الأسرع زيادةً على مستوى العالم.
تختلف ظروف زراعة الأرز في إفريقيا عن آسيا، فنوع التربة والأمراض والميكروبات التي تصيب المحاصيل الزراعية كلها مختلفة، لكن هذا لم يقف في وجه الإنتاج المتزايد للأرز في غرب إفريقيا، الذي قفز من 7.1 مليون طن عام 2000 إلى 16.8 مليون في 2014، كما يورد المقال.
أدى الطلب المتزايد على الأرز إلى جعله عنصرًا أساسيًّا في النمط الغذائي الحالي لمنطقة غرب إفريقيا كلها، وهو شيء جديد على إقليم اشتهر طويلًا بمحصوله من الذرة الرفيعة، ويرجع هذا في رأي باحث الأمن الغذائي «توماس ريردون» إلى التوسع الحضري الذي تشهده المنطقة، ورغبة أعداد كبيرة من الناس في تناول الأطعمة التي تميز الطبقات الأغنى، بالإضافة إلى أن سهولة تحضير الأرز، مقارنةً بالذرة والدُّخن، وضعته على قمة لائحة الأغذية المفضلة لدى عمال المدن.
حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فإن استهلاك الفرد الواحد في بلدان جنوب الصحراء للأرز هو الأسرع زيادةً على مستوى العالم، ومن المرجح أن يستمر هذا نظرًا للتزايد السريع في عدد سكان المدن الإفريقية بمعدل 3% سنويًّا.
إندونيسيا تأكل المعجنات الإيطالية
قلَّ استهلاك دول جنوب شرق آسيا من القمح بمقدار 7 ملايين طن خلال 4 أعوام.
يشكل الأرز تقليدًا غذائيًّا عريقًا في كثير من الدول الآسيوية، فـنحو 90% من الأرز في العالم يُستهلَك في آسيا، من بينها 60% تُستهلك في الصين والهند وإندونيسيا، وقد ارتفع الاستهلاك الفردي للأرز بين أوائل الستينيات والتسعينيات من 85 كيلوغرامًا إلى 103 كيلوغرامات للفرد في العام، مع خروج آسيا تدريجيًّا من حالة الفقر التي كانت ترزح تحتها.
أصبح الأرز متاحًا وميسرًا في تلك الفترة، لكن استهلاكه بدأ في الانخفاض مجددًا، خصوصًا في البلدان الآسيوية الغنية. وحسب الأرقام التي سجلتها وزارة الزراعة الأمريكية، انخفض استهلاك الأرز للفرد الواحد في الصين وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة على نحو ملحوظ منذ عام 2000.
وليس ذلك مستغربًا، فكما يقر «قانون بينيت»، كلما تحسن مستوى دخل الأفراد، تركوا استهلاك الحبوب الخشنة (ذرة وبطاطا ودخن) واتجهوا نحو استهلاك الخضراوات والفواكه واللحوم لتحصيل السعرات الحرارية الضرورية للجسم.
حدث هذا فعلًا في آسيا، التي انخفض استهلاكها للأرز مع ازدياد الطلب على القمح، وهو العنصر الرئيسي في صناعة المعجنات الأوروبية التقليدية.
هذه الثورة التي شهدها نمط الغذاء الآسيوي فتحت الباب أمام انتشار شركات استثمرت في هذا المجال، مثل سلسلة مخابز «BreadTalk» و«The Bread Table» السنغافورية، التي توفر أصنافًا متنوعة من الكعك والمعجنات التقليدية، إلى جانب ابتكاراتها ذات النكهة الآسيوية المميزة، استجابةً للطلب المتزايد على هذه الأصناف من السكان.
بين عامي 2016 و2017، استهلكت دول جنوب شرق آسيا 23.4 مليون طن من القمح، في مقابل 16.5 مليون طن استهلكتها بين 2012 و2013، حسب تقديرات وزارة الزراعة الأمريكية، أما في بلدان جنوب آسيا فمن المتوقع أن يتزايد الاستهلاك من 121 مليون طن إلى 139 مليونًا في نفس الفترة.
يتزايد استيراد آسيا للقمح رغم الارتفاع الذي تشهده الأسعار، ومع أن استهلاك سكان دول جنوب شرق آسيا من القمح يمثل 26 كيلوغرامًا فقط للفرد سنويًّا، أي أقل بكثير من المتوسط العالمي الذي يبلغ 78 كيلوغرامًا، فلا يبدو أن الطلب عليه سيتناقص قريبًا، حسب المقال.
قد يهمك أيضًا: كيف أصبح الإفطار أهم وجبة في اليوم؟
الولايات المتحدة تعود إلى الجذور
بينما يملأ سكان دول غرب إفريقيا أطباقهم بالأرز، ويسارع سكان بلدان جنوب شرق آسيا لتغطية موائدهم بالخبز الإيطالي وأصناف الكعك الأوروبي، يبتعد الأمريكيون تدريجيًّا عن هذه الأنماط الغذائية، لأن القمح صار له منافس جديد، أو بالأحرى منافس قديم جديد، لا سيما في الأوساط الأمريكية الغنية.
أفلت القمح وحيد الحبة وقمح الكاموت من تدخل المزارعين، ومن التهجين الذي تعرضت له الحبوب الأخرى، كما يُسوَّق لحبوب الكينوا، وهي نبتة تنمو في أمريكا الوسطى والجنوبية، تحت اسم «الحبوب القديمة»، وتعتبر هذه الحبوب صحية ومفيدة أكثر من الحبوب التقليدية مثل الأرز والقمح، حسبما يقول مروِّجوها، ويزداد الطلب على الحبوب القديمة تدريجيًّا.
يعني هذا ظهور منتجات جديدة تحتوي على أنواع الحبوب هذه، كما بدأت المطاعم الراقية في الاتجاه إلى إدراج الحبوب القديمة على لائحة الطعام المقدم إلى زبنائها، سيرًا مع النمط الغذائي الجديد.
يبقى المستهلِك هو المحرك الرئيسي للتغيرات التي تطرأ على الأنظمة الغذائية.
مع ذلك، يبقى من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت الحبوب القديمة مجرد موضة عابرة. فرغم أن الإنتاج العالمي للكينوا ارتفع من 58 ألف طن عام 2008 إلى 193 ألف طن في 2014، إلا أن حجم هذا المحصول يبقى متواضعًا مقارنةً بالإنتاج العالمي للحبوب التقليدية مثل الأرز والقمح والذرة.
اقرأ أيضًا: الأكل كبطاقة هوية: كيف تحولنا إلى وصفات مطبوخة في قدور العالم؟
في النهاية، يبقى المستهلِك هو المحرك الرئيسي للتغيرات التي تطرأ على الأنظمة الغذائية، فتَوْقَهُ لتجريب كل ما هو جديد يجعل بعض الأصناف الغذائية التقليدية تختفي، ويساعد على ظهور أصناف جديدة.