تدق الساعة الواحدة، وقت الراحة في يوم عمله، فيلتقط هاتفه الذكي ويقلب بأصابعه صفحات الأخبار بحثًا عن جديد. وفي المنزل، تقلب زوجته الطعام قليلًا ثم تسرع نحو التليفزيون لمتابعة المسلسل. لقد أصبح كثيرون منا لا يكادون يفارقون شاشات الهاتف والتليفزيون.
في الماضي كانت ثَمَّة فُسحة للعقل، يسرح فيها بعيدًا ويستغرق في أحلام اليقظة، أما الآن فقد ضاقت الأوقات التي يشرد فيها العقل بحرية دون مادة إعلامية تحوز انتباهه، وهو أمر يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه ربما يحمل آثارًا كبيرة على قدرة الذهن الإبداعية بحسب مقال منشور على موقع «بي بي سي».
وجدتُها: أوقات الراحة تولِّد الأفكار المبتكرة
عندما نعطي عقولنا عطلة من التركيز، تنشط بعض مناطق المخ التي كانت خاملة في أوقات الانتباه، وهذا عكس ما كان يعتقده العلماء قديمًا، إذ ظنوا أن غياب التركيز يعني غياب نشاط المخ. يسمح هذا للدم بالتدفق إلى أماكن مختلفة في الدماغ، ممَّا يجعلنا أكثر سعادةً وإبداعًا ونتمتع بصحة أفضل.
تقول كاتبة المقال إنه في عام 2012، وجد الباحثون أن شرود العقل يمنحنا قدرة أكبر على حل المشكلات بطرق مبتكرة، وهناك كثير من القصص التي توضح الارتباط بين هذا الشرود والقدرة على الابتكار، بدءًا بما يُحكى عن آينشتاين، مرورًا بكيميائيين حاصلين على جائزة نوبل، وصولًا إلى «آرثر فراي» مخترع دفتر الأوراق ذاتية اللصق.
يلح كثير من المفكرين العظماء على أهمية إعطاء العقول قسطًا من الراحة، ولعلك لاحظت أن أفضل الأفكار تأتيك وأنت تستحم أو تتمشى.
عندما تفشل في إيجاد أفكار جديدة، خذ قسطًا وافرًا من النوم ثم استيقظ، ستجد الأفكار تأتيك بسهولة.
عنما يشرد العقل يذهب إلى مطارح جديدة، فيمر على ذكريات ومشاعر ومعلومات عشوائية مختزنة لديه، حسب «إيمي فرايز» مؤلفة كتاب «أيقظ قدراتك الإبداعية»، والكاتبة والمحررة بموقع «سايكولوجي توداي». شرود العقل هو الطريقة التي نرى بها الصورة الكبيرة، ويمكِّننا هذا التخيل الأوسع من رؤية منظور جديد لمشكلة تشغلنا أو ربط فكرتين ظنناهما منفصلتين، للوصول إلى فكرة جديدة.
في أثناء شرودك، ستجد عقلك يعيد عليك محادثات جرت خلال يومك، ويصوِّب لك مواقفك، وستجده يتصور محادثات خيالية ليدرِّبك على الرد على أشخاص تخشى مواجهتهم، أو سيتنقل بك بين مشروعات حياتك المختلفة التي لم تكتمل بعد، وربما غاص معك في ذكريات الطفولة أو حلَّق بك في المستقبل. سيمر عقلك على الإخفاقات، والرغبات، والتجارب الحسية المختلفة التي عشتها.
اقرأ أيضًا: 10 خطوات بسيطة تفتح لك أبواب السعادة
إحدى مراحل التفكير الإبداعي تسمى فترة الحضانة، وتتطلب أن يفكر الشخص في مشكلة ويجمع أفكاره، ثم يأخذ قسطًا من الراحة يتعمد خلاله أن لا يفكر في نفس المشكلة بشكل واعٍ، وبعد ذلك يترك الأفكار لتنساب.
تقول مصممة الغرافيك «ميغان كينغ» إن أعظم لحظاتها الإبداعية تأتي حينما تعطي عقلها راحة، فعندما تفشل في إيجاد أفكار جديدة لأحد مشاريعها، تحرص على أخذ قسط وافر من النوم ليلًا، ثم تستيقظ لتجد الأفكار تأتيها بسهولة، لكنها تعترف بأنها تدمن استخدام هاتفها الذكي رغم ذلك.
فاصل ونواصل: وسائل الإعلام لا تترك للعقل مساحة للراحة
جعلتنا الساعات الطويلة التي نقضيها أمام الشاشات غير مرتاحين حين نجلس لنستمع إلى أصوات عقولنا الداخلية.
يقضي الأمريكيون 10 ساعات ونصف يوميًّا في التعامل مع وسائل الإعلام، بينما يضيع البريطانيون 10 ساعات من يومهم في الشيء نفسه. ويشير إحصاء أصدره مركز «Ipsos» إلى أن المواطن العربي يقضي ثلث عمره في متابعة وسائل الإعلام وتصفح الإنترنت.
في تقرير صدر عام 2017 وشمل أكثر من سبعة آلاف مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي في 18 دولة عربية، تبيَّن أن 89% منهم يستخدمون فيسبوك بصفة يومية، وترتفع نسبة مستخدمي واتساب بشكل يومي إلى 96%، وتكشف هذه النتائج أهمية تلك التطبيقات والوقت الذي تستحوذ عليه على حساب راحة عقولنا.
جعلتنا هذه الساعات الطوال التي نقضيها أمام الشاشات غير مرتاحين حين نجلس لنستمع إلى أصوات عقولنا الداخلية، حتى أنه حين أعطى الباحثون خلال إحدى الدراسات مجموعة من المشاركين خيارًا بين الجلوس وحدهم دون تسلية لمدة من 6 إلى 15 دقيقة، أو تحمُّل صعقة كهربائية خفيفة، فضَّل كثير منهم الصعق بالكهرباء على الجلوس دون عمل شيء.
البطارية فارغة: لِمَ نستهلك جزءًا من المخ على حساب الباقي؟
التحديق في شاشة الهاتف له تبعات على المدى الطويل.
تقول كاتبة المقال إنه عندما تتجول عيناك بين الأخبار التي تطالعها على شاشة هاتفك الذكي، يكون عقلك في حالة تختلف عن حالته خلال الشرود. فبعد سنوات طويلة، وجد الباحثون أن المخ يحوي نظامَي انتباه منفصلين، أحدهما خارجي والآخر داخلي، والأخير هو الذي يعمل حين يشرد ذهنك، ويسمى «شبكة أحلام اليقظة»، حسب أستاذ علم النفس في جامعة فرجينيا الأمريكية «دانيال ويلينغهام».
تكون شبكة أحلام اليقظة في أَوْج نشاطها حين تفكر في نفسك أو الماضي أو المستقبل، لكن لا يمكن للنظامين الداخي والخارجي أن يعملا معًا في نفس الوقت، لكنهما متصلان بطريقة ما حسب ويلينغهام.
إذا لم يكن ممكنًا لكلا النظامين أن يعمل في الوقت ذاته، وإذا كنا نستخدم أحد النظامين لساعات طويلة يوميًّا، يصبح السؤال ملحًّا عن تأثير ذلك على عقولنا وقدرتنا على أن نأتي بأفكار مبتكرة.
يقول ويلينغهام إن هذا التغيير في سلوكنا ليس بسيطًا، إذ أننا نقضي وقتًا طويلًا أمام الشاشات، خصوصًا المراهقون.
يشير أستاذ علم النفس إلى أن الباحثين النفسيين مشغولون بتأثير ذلك النمط السلوكي بعد سنوات من الآن، فالآثار غير معروفة بالكامل حاليًّا، غير أن التحديق في شاشة الهاتف، وكل ذلك الوقت الذي يستهلك نظامًا واحدًا من أمخاخنا دون الآخر، ستكون له حتمًا تبعات على المدى الطويل.
أطفئ الشاشات، يصفو ذهنك ويبدع
صار الإغراء شديدًا، فالتليفزيون يعِجُّ بمئات القنوات التي تبث برامجها على مدار الساعة دون توقف، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي أماكن نزورها في اليوم الواحد عدة مرات عن طريق هواتفنا الذكية، لذا فقرار مفارقة هذا العالم ولو لساعات قليلة ليس سهلًا.
على مَن يريد التخلص من إدمان الهاتف الذكي أن يؤدي نشاطًا لا يتطلب التركيز.
بدأ بعض الأشخاص الذين لاحظوا إفراطهم في استخدام الهواتف الذكية في تنظيم استهلاكهم، فتقول كينغ إنها لم تعُد تتصفح فيسبوك بعدما لاحظت أنها تضيع كثيرًا من الوقت عليه، لكنها تعترف بصعوبة تقليل استخدامه. تحرص كينغ كذلك على النوم جيدًا، والذهاب إلى المتنزهات حاملةً معها ورقة وقلمًا فقط.
أما ويلينغهام فلم يعُد يستمع إلى الموسيقي وهو يمارس رياضة المشي، وبات يستمتع بدلًا من ذلك بالسكون، وقللت فرايز من الوقت الذي تقضيه أمام شاشة التليفزيون أو بصحبة الهاتف الذكي، وهي على استعداد لتضحيات أكبر، إذ تحلم بالتخلي عن كل تلك الأجهزة لمدة عام، حسب كاتبة المقال.
تنصح فرايز من يريد التخلص من إدمان الهاتف الذكي بأن يثور على نفسه ويتحكم في تصرفاته، وأن يؤدي نشاطًا لا يتطلب التركيز ليوقد شعلة الإبداع، كما تنصح بأن نعطي أنفسنا الإذن والوقت لنشرد بأذهاننا.
اقرأ أيضًا: خبير سابق في غوغل يرصد كواليس هوسنا بوسائل التواصل الاجتماعي
احلم واشرد، تنجح في عملك
تقول فرايز إن الشركات ستستفيد إذا أعطت موظفيها وقتًا للاستغراق في أحلام اليقظة، إذ سيمكِّنهم ذلك من ابتكار حلول أفضل والوصول إلى أفكار جديدة، فالقادة في أي تخصص هم أشخاص اعتادت عقولهم أن تفارق أرض الواقع وتحلق وتحلم.
شرود عقلك سيساعدك في أن تنجز أكثر، وستشعر أن الساعات أطول وأن الأفكار تنساب بسهولة. وعندما تشعر أن عقلك متشبَّع، ومتعثِّر، وأنك صرت تقرأ الكلام بعينيك فلا يفهمه عقلك، خذ خطوة إلى الوراء ودع عقلك يسرح ويطوف، بعدها سترى الصورة أوضح.