بداية سبتمبر أو نهاية أغسطس 2013، لا أتذكر تحديدًا متى كانت البداية. أجلس في غرفتي التي تدخلها أشعة الشمس وتوقظني، أفتح اللابتوب أمامي وأبدأ في البحث. في هذه الفترة كنت قد قدمت أوراقي بطلب التحويل من كلية الطب إلى كلية الإعلام، لكن الطلب لم يُقبَل.
أبحث عن أسباب تعيد إليَّ الشغف في دراسة الطب بعد أن فقدته، أحول لوحة المفاتيح إلى الإنجليزية وأكتب: هل يفيد الرقص في علاج الاكتئاب؟
بدت فكرة عبثية في البداية، لكن النتائج فاجأتني.
أُعدل البحث مرة أخرى وأكتب: العلاقة بين الرقص وعلاج الاكتئاب. تُظهر النتائج أنه ثمة علاقة بين الرقص والعلاج النفسي بالفعل.
العلاج بالرقص والحركة، هكذا ظهرت أغلب النتائج أمام عيني: ثمة دراسات تؤكد أنه مفيد للاكتئاب، وأخرى تنفي وجود علاقة، ومجموعة تحكي عن أهمية العلاج بالرقص والحركة في علاج مرض «الشلل الرعاش».
لا أعرف عدد الساعات التي مرت وأنا أبحث، لكني قررت في تلك اللحظة أن هذا هو الشغف الذي سيجعلني أكمل تلك الرحلة التي لم تكن بدأت حينها. علقت على دولاب غرفتي ورقة مكتوبًا عليها مجموعة كلمات، كلها أريد العمل معها يومًا ما، كان ضمنها «الجمعية الأمريكية للعلاج بالرقص».
لم أكن أعرف أي شيء سوى ما قرأته أمامي، غير أني قررت حينها أن هذا هو الذي سأختاره. ربما لأنني أحب الرقص، أو لأن الطب ثقيل والعلاجات كلها تحمل ألمًا في داخلها عدا الرقص.
لا أعلم لماذا اخترت هذا تحديدًا، من قبل التجربة حتى، ظللت أكرر أنني أريد التخصص في هذا المجال دون أي معرفة، حتى قابلت طبيبًا نفسيًّا صديقًا لي، وكررت الكلام على مسامعه، فرد قائلًا إنه يعرف طبيبة مصرية تعمل في نفس التخصص، تُدعى رضوى سعيد عبد العظيم.
نزلت من عيادة صديقي وبحثت على الإنترنت، فوجدت حسابها الشخصي. أرسلت إليها رسالة أنني طالبة في السنة الخامسة من كلية الطب. لم أكن قد انتهيت بعد من امتحانات السنة الرابعة. حددت لي موعدًا، وتقابلنا واتفقنا على تدريبي في عيادتها الشخصية.
فتحَت لي رضوى عالمًا لم أكن أعرفه، ولم أكن أعرف كيف أصل إليه. جعلتني أتعامل مع مرضاها لأتعلم، لم أطلب مقابلًا ماديًّا لأنها هي من تقدم لي خدمة لا أنا. أخبرتني بضرورة حضور محاضرات الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي في مستشفى قصر العيني. تبدأ المحاضرة يوم الأربعاء من كل أسبوع في الساعة السابعة صباحًا. لم أكن أعرف الدكتور يحيى، ذلك الرجل الذي لم يبخل بعلمه قط.
طلبت مني رضوى حضور ورشات العلاج بالرقص والحركة التي تديرها، مشارِكةً وليست ملاحِظة، لأن البداية من داخل الدائرة وليس من خارجها.
أسأل نفسي دائمًا: لماذا العلاج بالرقص والحركة؟ هل بسبب ولعي بالرقص؟ هل ذلك بسبب الرحلة الذي بدأتها مع جسدي؟ تلك المساحات التي لم أكن أصل إليها قط إلا بسبب العلاج بالرقص والحركة؟
لا أعرف الإجابة تحديدًا، لكني أحفظ الحالة المزاجية التي أجرب فيها مشاعر جسدي، أن أعي أن جسدي له مشاعر هو الآخر. ليس التعب هو الشعور الوحيد الذي يعكسه الجسد، لكنه الوحيد الذي اعتدنا عليه. تلك المؤثرات الكيميائية التي تفرزها خلايا مخي، فينتشي جسدي لأنني نجحت في التعبير عنه.
تاريخ العلاج بالرقص والحركة
يعود تاريخ العلاج بالرقص والحركة إلى «ماريان تشيس»، التي وُلدت في جزيرة أمريكية ثم انتقلت إلى واشنطن مع عائلتها، حيث التحقت بمدرسة للفنون.
تعرضت ماريان لحادث خلال السباحة جعلها تعاني بعض الآلام في ظهرها، فنصحها الطبيب بالالتحاق بدروس الرقص لتقوية ظهرها. كانت الحادثة سببًا في اكتشافها شغفها بالرقص. بعدها التحقت بمدرسة رقص في نيويورك في 1923، وأظهرت تطورًا ملحوظًا في دراسة فلسفة الحركة.
عادت ماريان إلى واشنطن مع زوجها لافتتاح فرع جديد لمدرسة الرقص، وتزامن ذلك مع التقدم اللافت للنظر في المجال الفني، إلا أنها رجعت لنيويورك بسبب بعض المشكلات المالية و النفسية.
بدأت ماريان ممارسة الرقص والتدريس للأطفال والمراهقين، فذاع صيتها، ما أدى إلى زيادة الإقبال على المدرسة.
لم تكن الفتاة معتادة على تلك الحياة، فأصابها بالدهشة تجاوبُ الأطفال والمراهقين في دروس الرقص. لاحظت أن تلك الدروس لاقت استحسانًا منهم، وساعدتهم على تلبية رغبات واحتياجات نفسية. يمكن القول إن التركيز لم يعد حول الرقص كمجرد حركات معينة، بل أصبح يدور حول إمكانية أن يكون وسيلة ناجحة للعلاج.
العلاج بالرقص والحركة من الطرق الحديثة المستخدَمة في العلاجات النفسية. فالبعد عن الأدوية النفسية والاتجاه نحو أساليب علاجية مختلفة هو الصيحة الأحدث في العلاج النفسي. نجد انتشار العلاج السلوكي والعلاج المعرفي واستخدام الدراما والمسرح التفاعلي في العلاج النفسي. هكذا كان الحال مع العلاج بالرقص والحركة، مجالًا بدأ في خمسينيات القرن العشرين.
كان العام 1942 نقطة جديدة في حياة ماريان. لكن قبل ذلك، كان أطباء الأطفال والأطباء النفسيون يرسلون مرضاهم لحضور دروس الرقص. تلقت ماريان في ذلك العام دعوة للعمل في مستشفى نفسي، امتلأت عنابره بمصابي الحرب العالمية الثانية. كان ذلك قبل ظهور الأدوية التي تستخدم في العلاج النفسي، ما سمح لها باكتشاف طرق جديدة للعلاج، منها العلاج بالرقص والحركة.
التواصل بالرقص من الوسائل الأولى التي استُخدمت فى العلاج. تلك كانت البداية لظهور مصطلح «العلاج بالرقص والحركة». وفي عام 1947، سُميت ماريان شانس «أول معالجة بالرقص بدوام كامل».
الحركة كلغة تواصل
استخدام الحركة لتحسين التكامل العاطفي والاجتماعي والمعرفي والجسدي للأفراد من أجل صحة ووجود أفضل، هكذا كان التعريف الذي وضعته «الجمعية الأمريكية للعلاج بالرقص».
يعتمد العلاج بالرقص والحركة على مبدأ أساسي هو العلاقة بين العقل والجسد والروح. العناصر الثلاثة مرتبطة بشكل قوي، ولا يمكن فصلها. نظرية العلاج بالرقص والحركة دائمًا ما يصعب وصفها أو وضع تعريف محدد لها، إلا أنه من الضروري أن تنغمس كليًّا فى التجربة لتضع تعريفك الخاص لهذه النوعية من العلاج.
يرتكز العلاج بالرقص والحركة إلى عدة أساسيات:
- الحركة لغة: يرى المهتمون بالعلاج بالرقص أن الحركة الأولى للجنين في رحم الأم هي أول وسيلة يمكن من خلالها معرفة قدرات التواصل لدى الإنسان، إنها لغة تواصل غير منطوقة. يؤمنون أيضًا بأن ذلك النوع من التواصل لا يقل أهمية عن التواصل الاعتيادي المنطوق، ويمكن أن يُستخدم أيضًا في عملية العلاج النفسي
- الترابط الكامل بين العناصر الثلاثة: الروح والجسد والعقل
- الحركة يمكن أن تكون وظيفة ووسيلة تواصل وتعبيرًا وطريقة للتنمية، لأن المعالج يلاحظ ويتفاعل ويساعد في الحركة، ومن هنا تنشأ العلاقة بين طرفي العلاج
طريقة علاجية جديدة: الرقص والحركة
يعطي المعالج بالرقص الفرصة للناس من أجل مساحة آمنة للتعبير عن ذواتهم.
عدد من الدراسات الأكاديمية يُظهر إمكانية أن يكون للرقص والحركة تأثير في علاج مشكلات الصحة النفسية، مثل اضطرابات الأكل والاكتئاب والقلق.
واحدة من تلك الدراسات نشرتها مجلة «فنون العلاج النفسي»، وأخرى نشرتها المجلة الأمريكية للعلاج بالرقص. في إحداها، شارك 54 طالبًا في برنامج «مكافحة العنف بالرقص»، وأدت تلك الطريقة إلى تقليل العنف المتبادَل بين المشاركين، وزيادة التضامن الاجتماعي بينهم.
الرقص كنظرية للعلاج، مقابل الرقص كمجرد فعل
ينظر الناس إلى الرقص على أنه وسيلة للحصول على مزاج جيد أو تقوية البنيان الجسدي، وأيضًا طريقة فعالة للمرح والتقليل من القلق والاكتئاب، لكن المعالجين بالحركة وجدوا له منفعة أفضل.
يعطي المعالج بالرقص الفرصة للناس من أجل مساحة آمنة للتعبير عن ذواتهم. لذلك، ليست الحركة مجرد تمرينات جسدية، بل لغة، ويستطيع الناس استخدامها للوصول إلى حلول لما يواجهونه من مشكلات نفسية، بدلًا من اللغة التقليدية.
من أشهر التمارين التي تمارَس في الجلسات ما يمكن أن يطلَق عليه «المحاكاة» أو «التمثيل»، حين يؤدي أحد الأفراد حركة معينة ويكون على الآخر محاكاة نفس الحركة، كما لو كان يقف أمام المرآة.
يزعم المعالجون بالرقص أن تلك إحدى وسائل إظهار التعاطف والمشاركة الوجدانية. أيضًا، استخدام الاستعارة الحركية لتوصيل دعم أو معنى ما إلى المتلقي. مثلًا، يُستخدم حبل طوله متر، ويجب أن يبقى مشدودًا من الناحيتين، وعلى الطرفين التحرك بكل حرية، ما يعكس المساحة الشخصية للأفراد، إذ لا بد أن تبقى ثابتة مع الحركة.
انطباع المتلقين عن العلاج بالرقص والحركة
لا تزال هذه المساحة من الطب حديثة بعض الشيء، وما زالت نتائجها في طور التشكُّل. ربما تصلح مع بعضنا ولا تصلح لآخرين.
بشكل شخصي، كطالبة داخل كلية الطب قررتْ التخصص في العلاج بالرقص والحركة، كنت أواجه عددًا من التهكمات وأحيانًا الاستهزاء، لأن كل ما هو متعلق بالرقص يمثل وصمة لا يمكن التبرؤ منها. تحملت تهكم زملائي، وأحيانًا أساتذتي، وأحيانًا أخرى تهكم المتلقين قبل بدء الورش.
في ورش تعليم الرقص الشرقي، أستخدم تمارين العلاج بالرقص والحركة لسبب واحد: السماح لتلك الأجساد بأن تعبر عن نفسها. يندهش المتلقون من القواعد التي أخبرهم بها، أطلب منهم أحيانًا أن يغلقوا أعينهم، ويؤدوا حركات حرة عشوائية مستغلين المكان من حولهم.
أغير الأمر، و أطلب أن يتحركوا في مستويات مختلفة، أن تلمس كل واحدة جسدها كأنها تتعرف إليه كاملًا. ينسحب بعضهن، وتكمل أخريات. لا أحد يدرك لماذا ينسحب أحدهم عندما يُطلب منه أن يلمس جسده، لكني أفهم ذلك. إنها المقاومة، تلك التي مررت بها وسببت لي المعاناة، قبل أن أتخلص منها، ومعها الخوف الذي كان يلازمني عند ملامسة جسدي.
لا تزال تلك المساحة من الطب حديثة بعض الشيء، وما زالت نتائجها في طور التشكُّل. ربما تصلح هذه الطريقة مع بعض الناس ولا تصلح مع آخرين، لكني ببساطة مهتمة، وأنوي الاستثمار في هذا الاهتمام.