- إنت ليه بتعمل في مراتك كده؟ دي تستاهل تُقلها دهب
- دهبَ مع الريح، هاهاهاهاها
ربما ليست هذه أقدم «قلشة» في تاريخ السينما المصرية كما يقول عنوان المقطع على يوتيوب، لكنها على كل حال تصلح مقدمة لهذا الموضوع بشكل اعتباطي تمامًا.
في كتابه العلامة «Laughter» (الضحك)، يَخلُص الفيلسوف «هنري برغسون» إلى أن تحول الحياة إلى نظام آلي هو أصل الإضحاك في كل أنواعه مهما تتعدد طرائقه ومواقفه. ما يحدث في مقطع الفيديو السابق هو أن الفنان محمد رضا يُحوِّل مجرى الكلام اتكاءً على تشابه كلمتين هما «دهب» بمعنى الذهب (المعدن النفيس) و«ذهب» الفعل الماضي.
من الطبيعي أن يتصف الكلام بالحيوية والانسياب والتلقائية تبعًا للموقف، وهو ما يحدث في المشهد حتى تقول نيللي الجملة الأخيرة، ثم نكتشف مع جملة «دهب مع الريح» لمحمد رضا أن هناك آلية كامنة في الكلام كانت تنتظر من يكشف عنها. هذه الآلية تعبِّر عن نفسها من خلال فقدان الكلام وظيفته الاتصالية، وكأن «آلة» الكلام (لا الكائن الحي المسمى «كلامًا») تعطلت في هذه اللحظة.
هكذا تتحدد طبيعة القلش: عطلٌ يحدث في ماكينة الكلام يلفت انتباهنا إلى أنها ماكينة، وليست كائنًا حيًّا كما ظنناه.
بهذا يصبح القلش نوعًا شديد الخصوصية من النكتة. فالنكتة المعتادة تستخدم الكلام وسيطًا لنقل مشهد (يمكن أن ينقله المسرح أو السينما أو غيرها)، ينبع فيه الإضحاك من آلية نكتشفها في تيار الحياة عبر موقف محدد، مثل موقف «الغبي اللي دخل امتحان لوحده، فطلع التاني»، إذ ينكسر المنطق وتتعطل طبيعة الأمور في تآمر غريب لإثبات غباء بطل النكتة».
أما في القلشة، فلا يوجد مشهد يحاول «القلَّاش» أن يستحضره أمام خيالنا، وبهذا يصبح الكلام مادة القلشة، لا مجرد وسيط لنقل موقف متخيَّل.
لهذا قد تطول النكتة وقد تقصر حسب الموقف المتخيَّل فيها، أما القلشة، فمن المألوف أن تكون شديدة القصر، إذ يحدث العطل في وظيفة الكلمة الواحدة داخل الجملة.
بالطبع يوجد شكل هجين من مادة الإضحاك يجمع النكتة التقليدية والقلشة، مثل النكتة القديمة البايخة: «مرة واحد جه يقعد على قهوة قعد على شاي». وفي الغالب تميل مثل هذه النكات إلى القِصَر الشديد، ولا تتمتع بقوة الإضحاك التلقائية التي يتمتع بها القلش. ويلحق بهذه المواد الهجينة نمط خاص من النكات المحملة بالتساؤلات اللغوية، مثل النكات التي ظهرت في تسعينيات القرن العشرين بين شباب الجامعة في مصر، ومنها:
- شايف الـsubstitution اللي واقفة في البلكونة؟
- يعني إيه بلكونة؟
اقرأ أيضًا: سينما الكوميديا الشبابية: عشرة أعوام من المجد
القلش: مرونة الكلمات
عودًا إلى برغسون، يقترح كتابه المشار إليه دورًا أخلاقيًّا للضحك، ففي تلقِّي مسرحية كوميدية مثل «البخيل» لـ«موليير» مثلًا، نضحك من فقدان «آرباجون» بطل المسرحية مرونة الحياة، وتحوله ضمنيًّا إلى آلة مهمتها الحفاظ على المال بكل الطرق، وفي هذا الضحك عقاب افتراضي لخصلة البخل، وبهذا يصبح الضحك وسيلة المجتمع للحفاظ على حيويته ككل وحيوية أفراده.
إذا قفزنا من هذا الاقتراح إلى طبيعة القلش كما بسَّطناها منذ قليل، فسنشعر بالحيرة أمام ظاهرة الضحك من القلش. القلَّاش يقف على الكلمات ويجردها من مرونتها بمحض إرادته ليضحكنا، فأي عقاب في الضحك هنا؟ وما مردود الضحك في إعادة الحيوية إلى الكلمات؟
ينقذنا من مأزق هذا السؤال فيلسوف آخر هو «جان بول سارتر».
في كتابه «ما الأدب؟»، يبسِّط سارتر عقيدته بخصوص الفرق بين الأنواع الأدبية السردية (رواية وقصة ومسرح) من ناحية، والشعر من ناحية أخرى.
يرى سارتر أن السرد بالضرورة ملتزم، ووثيق الصلة بالسياقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية لكاتبه، ولذلك هو «دالٌّ على شيء»، بينما في الشعر (كما في الفن التشكيلي والموسيقى الخالصة) يصبح العمل نفسه هو «الشيء» محل التأمل والتأويل الجمالي. ويصف الشاعر بأنه يعيش خارج اللغة، ولا يستخدمها بالطرق التي اصطلح الآخرون على استخدامها بها، وإنما ينتزع المفردات من سياقها المتعارَف عليه ليبدع لها سياقات بديلة جديدة، وهو بهذا «يخدم» اللغة في مقابل الروائي الذي «يستخدمها».
في هذه العقيدة الفلسفية، نجد عند سارتر أصداءً من الفيلسوف المثالي الإيطالي «بندتو كروتشه»، الذي اعتقد أن الشعر أسبق في الوجود من النثر، على اعتبار أن النشاط الإنساني الأول في إطلاق أسماء جديدة على الموجودات أَدخَلُ في الشعر منه في النثر.
صحيحٌ أن هذه النقطة عند سارتر انتُقِدَت كثيرًا، لأن المثال الشعري الذي تأمله ليخرج بهذه التعميمات كان شعر الرمزيين الفرنسيين من «فيرلان» إلى «فاليري» خاصة، وهم المشهورون بانتزاع المفردات من سياقاتها اللغوية المعتادة، إلا أن للتعميم وجاهته رغم ذلك. فحتى في أكثر النصوص الشعرية تماسكًا من ناحية المشهدية، تظل مقاومة الشاعر لإغراء الإخلاص لجمال اللغة المحض أضعف من مقاومة الروائي والكاتب المسرحي.
الشاهد من تأمل هذه التفرقة بين الشعر والسرد عند سارتر أن ما يحدث في القلش أقرب ما يكون إلى ما يحدث في الشعر. حين يرد محمد رضا على نيللي في مقطع الفيديو قائلًا: «دهب مع الريح»، لا يجسد أمام عين خيالنا مشهدًا بعينه، وإنما يُخلِص للغة في ذاتها، ويُخلِّصها من حالة الوسيطية لتصبح هدفه الوحيد. لا يعود هناك شكل ومضمون لمادة الإضحاك، فالشكل هو المضمون، تمامًا كما في الموسيقى الخالصة، وفي الشعر كذلك عند سارتر ومن قال برأيه.
قد يهمك أيضًا: فلسفة النكتة: كيف يضحك السعوديون؟
قَلَّاش وبتاكل جُلَّاش
كانت «القفشة» هي المفردة الدالة على سرعة البديهة وخفة الدم لعقود طويلة عند المصريين.
بعيدًا عن هذا التأمل الفلسفي لظاهرة القلش، لن نخسر شيئًا إذا راجعنا مادة «قَلَشَ» في معجم «لسان العرب»، لنجد أن المفردة الوحيدة المتولدة من هذه المادة هناك هي «أقلش»، ويُعرِّفها ابن منظور بأنها «اسم أعجمي، وهو دخيل لأنه ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة، إنما الشينات كلها في كلامهم قبل اللامات». أما في قاموس المعاني، فنجد في تعريف كلمة «قلَّاش»: «اسم عَلَم تركي معناه الداهية المحتال، وورد كذلك في اللغتين الفارسية والكردية بمعنى التافه، العاطل، المحتال».
شخصيًّا، لا أعرف إن كانت مفردة القلش كانت متداوَلة بعيدًا عن التعليق على مباريات كرة القدم، قبل أن تكتسب في السنوات الأخيرة معناها الذي ندور حوله في هذا المقال، فاللاعب «يقلِش» الكرة إذا ركلها في غير الاتجاه الذي أرادها فيه. اصطدمتُ بالمعنى الجديد للمرة الأولى في لقاء مع صديق (ربما بعد 25 يناير) وصف ما أفعله بالكلمات تلقائيًّا بأنه «قلش»، واستخدم جملة «إنت قلَّاش؟ وبتحب تاكل جُلَّاش؟» لأعرف بعد ذلك أن أحمد مكي قالها في فيلم «طير إنت».
المهم أن هذا الاستخدام الجديد للمفردة، الذي يستحضر دائمًا مشهد اللاعب الذي يركل الكرة فلا تطاوع إرادته، يوقعنا في مفارقة دالة، مفادها أن الفعل الحافل بالقصدية المتمثل في انتزاع الكلمات من سياقها الطبيعي وإفقادها مرونتها، يوصف بمفردة ترتبط في خيالنا باللاقصدية والاعتباط في «عصيان الكرة قدم اللاعب».
هل هي بالفعل مفارقة دالة؟ ربما نعود إلى دلالتها بعد قليل.
بين القفشة والقلشة
قفزًا إلى ما قبل ظهور هذا المعنى مباشرة، نجد أن «القفشة» كانت المفردة الدالة على سرعة البديهة وخفة الدم لعقود طويلة عند المصريين خاصة، وكثيرون يتحدثون عن قفشات أم كلثوم وعدد من المشاهير.
القفش في «لسان العرب» يُطلَق على النكاح والأكل في شدة، ويُطلق كذلك على الجمع. والأقرب إلى المعنى المقصود هنا هو الجمع أو الاصطياد، فالقفشجي (كما اعتاد المصريون تسميته) ذلك الذي يصطاد التفاصيل التي يغفل عنها الآخرون، وينسج حولها نكتة تُحيل المستمعين إلى موقف مضحك متخيَّل، ونتمسك بهذا التعريف حتى لو خلط بعض الناس بين القفشة والقلشة كما في هذا الموضوع.
نقطتان بخصوص القفشة مهمتان هنا:
- أنها تَستخدم اللغة وسيطًا لاستحضار مضمون مشهدي متخيَّل، لا كما في القلشة
- أن الأسلاف سموا من اشتهر بهذا الفعل: «قفشجي»
المقطع «جي» له ظروفه التاريخية، لأنه يدل على النسب إلى الحِرفة في اللغة التركية التي تأثرت بها العامية المصرية وكثير من العاميات العربية، لظروف وقوع كثير من الأقطار العربية تحت الحكم العثماني. وهو بهذا يفترض أن «القفشجي» يمتهن «القفش»، فكأنه يتكسَّب به، والشاهد هو القصدية التي توحي بها التسمية.
أما القلَّاش، فهي مجرد صيغة مبالغة من قَلَش، ذلك الفعل المستحدث، لا تفترض في ذاتها قصدية من أي نوع، فربما يكون هذا القلاش مريضًا، ولا يستطيع فكاكًا من دافع مبهم لديه يحثه على مواصلة القلش.
نعود هنا إلى المفارقة التي أرجأنا الحديث عنها منذ قليل. ترتبط استعارة مفردة القلش من ملاعب كرة القدم، حيث تعصي الكرة قصد اللاعب، بالتواطؤ المجتمعي على اختيار صيغة المبالغة (المحايدة بخصوص القصدية أو عدمها) لتسمية فاعل القلش، فلم نجد كثيرين يسمونه «قلشجي» مثلًا على غرار «قفشجي».
ربما هو أقرب إلى الفنون الزائلة الآن مثل «الغرافيتي»، لكن من يدري؟ ألا يمكن أن نجد مشروعًا اليوم أو غدًا لجمع قلشات أضحكت الناس كثيرًا في كتاب؟
لا أحب أن أبدو قافزًا من مقدمات بسيطة إلى نتائج هائلة غير مناسبة للمقام، لكن يبدو لي أن لهذا التآمر اللاواعي على إظهار هذا الفعل (الحافل بالقصدية والمدمر للغة كوسيط للتواصل من أجل الإضحاك) بمظهر الفعل العبثي اللا إرادي، علاقة وثيقة بتزايد إحساس مجتمعاتنا بالعبثية. ربما تكون العبثية سياسية ومجتمعية عند الغالبية العظمى من الناس، وربما تكون عبثية كونية عند قلة منهم، إلا أنها هناك حاضرة بالتأكيد.
أزعم أن ظاهرة تفشي تعاطي القلش في المجتمع تؤهل القلش كظاهرة جمالية لدخول حلبة المنافسة مع الرواية والدراما في الجدل النقدي العربي، الذي أداره الدكتور جابر عصفور بمقولته «زمن الرواية»، والدكتور حسن عطية بمقولته المضادة «بل هو زمن الدراما».
القلش، من ناحية، ليس بعيدًا عن الشعر إذا تأملناه فلسفيًّا، كما فعلنا استنادًا إلى رؤية كروتشه وسارتر، وهو من ناحية أخرى أكثر ارتباطًا من الرواية والدراما والشعر نفسه بواقع الحياة، لأنه يولَد لحظيًّا وتلقائيًّا في أكثر الحوارات يوميةً وعادية، وهو أخيرًا لا يعدو كونه فنًّا بما فيه من الموهبة القابلة للتدريب والصقل والعمل، وبقدرته المشهودة على الإضحاك كالكوميديا الدرامية، وفي بعض المواقف.
ربما هو أقرب إلى الفنون الزائلة الآن مثل «الغرافيتي»، لكن من يدري، ألا يمكن أن نجد مشروعًا اليوم أو غدًا لجمع قلشات أضحكت الناس كثيرًا في كتاب؟ أنثولوجيا لأهم القلَّاشين في مصر مثلًا؟ من يدري، ربما تتكرس قريبا مقولة «زمن القلش» بشكل رسمي.