نحو «دُشٍّ» واحد: هل نحتاج إلى إحياء عادة الاستحمام الجماعي؟

الصورة: Holde Schneider

ندى حنان
نشر في 2017/06/05

إذا تهتَ في أحد الأحياء الشعبية المصرية، وسمعت أصداء غناء ناعم تصحبه ضحكات صاخبة ومزاح فاحش، فاعلم أنك مررت على «حمام التلات»، وهو حمام شعبي تستحم فيه السيدات جنبًا إلى جنب دون خجل أو تحفظ. قد يستنكر بعض الناس وجود هذه الحمامات العامة، ولا يتقبل فكرة أن يستحم أمام شخص غريب عنه، لكن مقالًا على موقع «كوارتز» أثبت عالمية الاستحمام الجماعي وفؤائده المميزة.

من الحمامات العامة إلى أحواض الاستحمام الشخصية

حمام الصالحين في مدينة خنشلة بالجزائر، بُني منذ ألفي عام ولا يزال يزدحم برواده

لم يتعامل البشر في الماضي مع الاستحمام باعتباره ممارسة فردية شديدة الخصوصية كما يحدث الآن، فشاعت الحمامات الشعبية في الحضارات المختلفة على مرِّ التاريخ الإنساني، واحتلت مكانة خاصة في ثقافة بعض المجتمعات.

يذكر المقال أن الناس في آسيا نظروا قديمًا إلى الاستحمام الجماعي باعتباره طقسًا دينيًّا، له منافع طبية جمة تساعدهم على تطهير أرواحهم وأجسادهم. وفي بلاد الإغريق، سادت الأنشطة الترفيهية من غناء ورقص ورياضة في هذه الحمامات. أما في روما فكانت الحمامات الشعبية مثل الحدائق العامة، تتوافد عليها مختلف طوائف المجتمع لمناقشة السياسة وتناول الطعام والتريُّض والقراءة.

رغم ندرة الحمامات الشعبية في العصر الحديث، فإنها احتفظت بدورها الأساسي في الحياة الاجتماعية في بعض الدول، مثل السويد واليابان وتركيا. لكن عادة الاستحمام الجماعي انقرضت في معظم العالم تقريبًا، وانزوى كل فرد داخل حوض الاستحمام في منزله، لينظف نفسه وحيدًا وبطريقة آلية تهدف إلى غسل جسده في أقل وقت وبأعلى كفاءة ممكنة.

اقرأ أيضًا: العالم يتجه إلى العزوبية

يساعدنا استكشاف أجساد الآخرين ولمسها وشم رائحتها في فهم أجسادنا.

يرى المقال أن أُفول نجم الحمام الشعبي كان نتيجة مباشرة لتغير نمط الحياة العالمي، انتقالًا من المجتمعات الشعائرية الصغيرة إلى العواصم المتحضرة المكتظة بالسكان.

لازَم ذلك كثير من المزايا بالتأكيد، مثل توافر الخدمات والسلع وسهولة الوصول إليها، لكنه جاء ببعض العيوب كذلك، مثل الشعور بالوحدة واللامبالاة، وظهور اضطرابات نفسية جديدة لم يكن لها أثر من قبل، كنوبات الهلع والإحباط واضطرابات القلق الاجتماعي.

الاستحمام الجماعي وأحلام المساواة

مدارس التعري في اليابان: محاولات لإنقاذ الحمامات العامة من الاحتضار

يتلخص الدور الحقيقي للحمامات العامة حسب المقال في كونها وسيلة لتسهيل التقاء جماعات من البشر ما كانوا ليجتمعوا دونها، ووضعهم في حالة اتصال جسدي مباشر.

ربما أصبحنا في حاجة لهذا القرب الذي تتيحه الحمامات العامة أكثر من أي وقت مضى، لتجنب الوحدة التي تلازمنا في المدن الكبرى، حيث يمر الكثيرون من حولنا دون أن يرانا أحد. لن يتحقق ذلك القرب في الحمامات المعدنية الفاخرة (Spa) وصالونات التجميل التي تَعِدُ القادرين بالشباب الأبدي، ولن تتلاشى هذه الوحدة إلا في الحمامات العامة الرخيصة المتاحة للجميع.

يساعدنا الاستحمام مع الآخرين في إدراك التنوع، ويهدم مقاييس الجسد الطبيعي الصارمة.

فتحت الحمامات العامة في روما أبوابها لكل أفراد الشعب على اختلاف طوائفهم، ليستحموا جنبًا إلى جنب، ولعبت بذلك دورًا مهمًّا في العملية الديمقراطية بحسب المقال، إذ جمعت المواطنين من مختلف الأعراق والأعمار في مكان واحد، ودفعتهم إلى التعامل مباشرةً بعضهم مع بعض، حتى أن الإمبراطور كان يستحم معهم بصفة منتظمة وهو محاط بحراسه وعبيده.

يرى كاتب المقال أن استكشاف أجساد الآخرين ولمسها وشم رائحتها يساعدنا في فهم أجسادنا، بدلًا من أن نجد أنفسنا في مواجهة الأجساد غير الحقيقية والمعدلة بالفوتوشوب التي تفرضها علينا وسائل الإعلام المختلفة، وتتسبب في إبعادنا أميالًا عن أنفسنا.

ارتبط العري في مجتمعاتنا بالأفلام الإباحية التي ترسخ مفهوم الجسد المثالي الخالي من العيوب، فأصبحنا ننفر من الأجسام المشعرة، والبطون الممتلئة، والأثداء التي لا توافق معايير البورن، في حين تتغير هذه النظرة في البلاد المتمسكة بتقليد الحمامات العامة، لأن الاستحمام مع الآخرين يساعدنا في إدراك التنوع، ويهدم المقاييس الصارمة التي تصنف بها وسائل الإعلام والإفلام الإباحية معايير الجسد الطبيعي.

قد يعجبك أيضًا: حلم «الجسد المثالي» يدمر حياة المرأة العربية منذ طفولتها

ماذا لو توافر الحمام الشعبي كالسابق؟

حمام شعبي عام أثري قديم
حمام شعبي في عكا - الصورة: Zxc0505

إذا طُرح نموذج مستقبلي من الحمامات الشعبية، يعيد إحياء دورها الاجتماعي الذي عرفه أجدادنا ويبرز أكثر مظاهرها إثارةً، سيساعد ذلك في محو مكانة الأماكن العامة الأخرى، ليقوم الحمام العام بدور المكتبة والمسارح ومسابقات الشطرنج، وقد تلحق به الحدائق الواسعة ليشبه حمامات المغرب العامة الشهيرة، ويتواصل المستحمون مباشرةً مع الطبيعة.

قد يهمك أيضًا: كيف يجعلنا الأدب والفن أكثر تعاطفًا مع الآخرين؟

ستساعد الحمامات العامة في إرساء أنماط اقتصادية مستدامة، مثل تلك التي بادرت منظمة الأمم المتحدة بتطبيقها في أثناء مؤتمر التغير المناخي الذي انعقد في باريس عام 2016، حين اتفقت الدول المشاركة على استخدام وسائل صديقة للبيئة بدلًا من سخانات الغاز. ورغم التأثير الذي لا يُذكر لسخانات المياه إذا قورن بالتلوث الذي تُحدثه السيارات والطائرات، فإنها ستظل تمثل عبئًا على البيئة.

تعتبر الحمامات الشعبية ظاهرة عالمية، تتخطى مفهوم النظافة الشخصية وتعزز جوانب الحياة المختلفة التي دمرتها حياة المدينة. وربما ينبغي علينا التخلص من المفاهيم المغلوطة والظنون السيئة التي تلطخ سمعة هذه الأماكن، لنتمكن من استغلال مزايا تلك العادة القديمة التي واظب عليها أجدادنا لقرون.

مواضيع مشابهة