زهران القاسمي يروي سردية ماء الأفلاج في «تغريبة القافر»

التصميم: منشور

حنان سليمان
نشر في 2023/05/14

تواصل الرواية العُمانية الصعود بنكهتها الثقافية، والانتشار عربيًا ودوليًا حاملة الخصوصية المحلية خارج حدود السلطنة، والتي تتمثل تارة في اللهجة، أو في سرد حقبة تاريخية، أو تناول ثقافة وطبيعة ربما تكون غير معروفة نسبيًا خارج نطاق دول الخليج.

يمكن تتبع هذا الصعود منذ عام 2019 حين فازت الكاتبة العُمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر الدولية البريطانية المرموقة عن روايتها «سيدات القمر». وللعام الثاني على التوالي، تحتل الرواية العُمانية منزلًا في جائزة البوكر العربية في عام 2022، إذ ترشحت رواية «دلشاد.. سيرة الجوع والشبع» للكاتبة العُمانية بشرى خلفان للقائمة القصيرة للجائزة، وفازت بعدها بجائزة كتارا للرواية العربية.

بينما في العام الحالي تنافس على الجائزة رواية «تغريبة القافر» عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع ودار رشم للنشر والتوزيع عام 2022، للكاتب العُماني زهران القاسمي. ويعد النص هو الرابع للقاسمي في مشواره الروائي الذي بدأ عام 2013، ويسرد فيه حياة القرى والجبال والقنص مستخدمًا تعبيرات ذات خصوصية ثقافية وحوار مُطعم باللهجة المحلية، هذا إضافة إلى نصوص شعرية عديدة منذ عام 2006.

تبدأ الرواية بداية مشوقة. «طارش» ينقل خبرا لأهل القرية: «غريقة غريقة» ليتساءل الناس: من تكون؟ غريبة أم واحدة منّا؟ كيف سقطت؟ هل دفعها أحد؟ والطارش هو ناقل الأخبار شفوية كانت أو مكتوبة، وهو بمثابة ساعي البريد في العصر الحديث. يتعرف الناس على الجثة، وهي لمريم بنت حمد ود غانم، الخيَّاطة، زوجة عبد الله جميل، «بَيدار» يعمل في الضواحي بسقاية النخيل والاعتناء بالمزروعات. والبَيدار هو الفلاح أو المزارع الذي لا يملك أرضًا ويعمل بأجر في بساتين الآخرين، وذلك بعد أن نهب أهل القرية أملاك أبيه وتقاسموا إرثه. 

ولادة من موت

«ماي.. ماي» هكذا كان يتمتم سالم بهدوء وجسده منحني بينما أذنه ملتصقة بالأرض يُنصت إلى خرير المياه الجوفية كأن أحدًا يناديه من الأعماق، حتى قيل «ولد عبد الله بن جميّل يسمع شيئًا في باطن الأرض». 

يدلف سالم إلى عالم أصوات خاص دونًا عمن حوله. نقرأ: «أصغى للأعماق، سمع وجيب قلبه يدق، سمع صراصير الأرض تعزف لحنها الأبدي، سمع همسًا، وسمع دبيب نملة تتسلق صخرة ملساء، وصوت فأر يقرض ورقة، سمع الأصوات تأتي من بعيد حتى كاد يسمع هواجس البشر من حوله».

سالم هو القافر، مُقتفي أثر الماء، منذ ولادته عند البئر والناس تتوجس منه، يُسمعونه كلامًا جارحًا، ويقذفونه بالحجر أحيانًا، تهمس النساء بالتعاويذ كلما رأين «ود الجن» أو «ود الغريقة» الذي اتهموه بالسحر، يرددن بعض الأذكار ويلعنّ الشيطان، يُبعدون عنه أطفالهم فلا يلعب معهم حتى عاش غريبًا منبوذًا بينهم. 

سبب التشاؤم يرجع إلى خروجه إلى الحياة من رحم أمه الغارقة. «في بطنها حياة» هكذا قالوا عندما اكتشفوا جثتها. ماتت مريم، وشقّت عمتها بطنها لتستخرج الطفل الحي من الرحم.

أما لغز غرق أمه التي كانت تهاب الآبار فيستمر إلى قرب نهاية الرواية التي اختلطت فيها الواقعية بالغرائبية. أُصيبت مريم بصداع فتّاك تدوي فيه الطوارق برأسها حتى تكاد تفلقه. حدث هذا بعد حملها سالم. لا يذهب الصداع إلا عندما تغوص في الماء. على إثر ذلك التطور تتغير حياتها، تهيم في الطرقات، ويتوقف عملها، يصير كل همها الخلاص من هذا الصداع المؤلم الذي لا يوجد له تفسير، فحتى صوت المناجير كان يطيب لها النوم عليه دون ضجر. والمنجور هو البكرة الكبيرة التي يُستخرج بها الماء من البئر.

يرث سالم الصداع عن أمه وتدق المطارق في رأسه. يتحول إلى سجين الخرير لا يسمع إلا صوت الماء.

الماء في هذه الرواية، التي يبلغ عدد صفحاتها 230 صفحة، ليس مجرد مجال عمل للبطل بل هو مدار الحكي كله سائلًا ومنحبسًا، فمنه البداية وإليه النهاية، وكأن النص يدور في حركة دائرية حول فوهة البئر.

هل للغز صلة بمجاورة بيت مريم لمقبرة؟ هل هناك ساحرة؟ هل تفيد الطلاسم؟ ماذا عن النذور والقرابين ونشر البخور والأحلام؟ والخاتم الفضي ذي الفص الياقوتي الأحمر؟ والهمس الذي ينادي «تعالي تعالي»؟ هل يبتلع الماء سالم كما ابتلع أمه؟ اعتادت القرية القيل والقال والشائعات الكثيرة. لاكتها الألسنة حتى أن إحداهن سمَّت طفلتها «شنّة» لأن الأسماء الشائنة تمنع الحسد وتحرس الطفل من العين، أما القافر فيدرك «أنه تحت عيون الناس، وأن كل حركة من حركاته مرصودة، سواء صعد جبلًا أو نزل واديًا، سعيدًا كان أو حزينًا بائسًا، خرج من بيته أو ظل فيه، فلا أحد في هذه القرية يتحرك خارج عيون الآخرين».

يتكرر توقف سالم عن اقتفاء أثر الماء؛ مرة في محاولة للعيش حياة طبيعية، ومرة بعد أن يفقد عزيزًا آخر في الماء. «حدّثته نفسه بأنه من الخطأ أن تخرج بعض الأشياء من سجنها، وأن الماء الذي يعيد الحياة إلى القرى كان لزامًا أن يبقى في مكانه، لأنه مصحوب بلعنة منذ القدم. ولمّا قد سمع مرارًا أن الماء المحجور في باطن الأرض تحرسه كائنات الأرض السفلية، ظن ما حدث لأبيه انتقامًا منها حتى يتوقف عن ذلك العبث».

لكنه وفي كل مرة يعود لما امتهن بقوة، بخاصة بعد أن يضرب القحط البلاد فتجف الينابيع والوديان ويعطش الناس. ولمّا بدا للقرية نفعه والحاجة إليه، كفّ الأهالي عن أذيته وألغوا لقب «ود الغريقة» من قاموسهم. صاروا يعرفونه بـ«القافر» وكأن شيئًا لم يكن بعد أن جلب لهم الخير.

الماء بطلًا

الماء في هذه الرواية، التي يبلغ عدد صفحاتها 230 صفحة، ليس مجرد مجال عمل للبطل بل هو مدار الحكي كله سائلًا ومنحبسًا، فمنه البداية وإليه النهاية، وكأن النص يدور في حركة دائرية حول فوهة البئر. غرقت مريم، وعند دفنها، أمطرت القرية «وكأن السماء قد اندلقت بحرًا على المكان في تلك الساعة».

رغم أن الوقت كان صيفًا لكن الشتاء كان قد حل بغتة لدرجة الرجفة. ابنُها سالم ارتبط عمله بالماء والأفلاج، اُختير له هذا الاسم بعد أن سلَّمه الله من الغرق، من الموت، وأصبح قافرًا يخدم الأفلاج. ولما انحسر الماء وحلّ القحط، عاد لما اعتاد. ولكلمة الفلج دلالتان هما مجرى الماء والتقسيم أو الشق إلى نصفين.

والماء أحد عناصر الطبيعة الأربعة عند فلاسفة الإغريق. يدل على الانسياب والحركة والتغير الدائم، وفي الوقت نفسه على الهدوء والصفاء، كما يحرر من القيود والآلام. ربما لهذا وجدت فيه مريم راحتها من الصداع. وبحسب أرسطو فإن طبيعة الماء ترتكز على خاصيتين، البرودة والرطوبة. ربما أيضًا لهذا السبب لم يتأثر سالم بكلام أهل القرية واتهامهم له بالجنون كونه يبحث عن الماء في الصخر، ولا حتى أمه في حياتها. استقبلا الكلام عنهما ببرودة رُغم أنه أثار حفيظة من يحبونهم مثل نصرا بنت رمضان زوجة سالم التي كان الكلام عنه «كالشوك يخزُّ جسمها».

يحمل الغلاف خيوط الصوف التي كانت تغزلها نصرا بانتظار سالم على خلفية لون هادئ رمز للفَلَج أو مجرى الماء لتضعنا الرواية منذ عتباتها الأولى في أجواء الخصوصية العُمانية. ويعد نظام الأفلاج من أبرز المعالم الحضارية في عمان. يجلب نظام الري المعمول به حتى الآن الماء من المصادر الجوفية على مدى كيلومترات لخدمة الزراعة والسكان المقيمين، لكن انخفاض مستوى المياه الجوفية بات يهدد نظام الأفلاج. وقد أُدرجت خمسة أفلاج عُمانية ضمن قائمة التراث العالمي المسجلة لدى منظمة يونسكو

كان واردا أن ينزلق القاسمي في روايته إلى سرد تاريخي عن نظام الأفلاج الذي تعيش عليه عمان بشكل كبير، لكنه التزم الإطار الأدبي وبذلك آثر الملمح الإنساني الذي جعل له اليد العليا والوحيدة على النص على خلفية معلوماتية مقتضبة عن الأفلاج ليس إلا.

تمثل أنظمة الري الخمسة المسجلة نحو ثلاثة آلاف نظام ري مستخدمة حتى الآن في عُمان. ويعود أقدم بناء لها إلى نحو عام 500 ميلادية، ولكن الأدلة الأثرية الأخيرة تشير إلى أن أنظمة الري كانت موجودة في المنطقة منذ عام 2500 قبل الميلاد. ويُعرف نظام الري بالأفلاج في دولة الإمارات كذلك.

كان واردا أن ينزلق القاسمي في روايته إلى سرد تاريخي عن نظام الأفلاج الذي تعيش عليه السلطنة بشكل كبير، لكنه التزم الإطار الأدبي وبذلك آثر الملمح الإنساني الذي جعل له اليد العليا والوحيدة على النص على خلفية معلوماتية مقتضبة عن الأفلاج ليس إلا. كان أيضًا بإمكانه تناول السحر والأعمال السُفلية بشكل أوضح وإفراد مساحة أكبر لهما وربما زرع شخصية ساحر بين الشخوص والاستغراق في تفاصيل لها جمهورها الخاص، لكنه لم يفعل ولم ينجرف إلى خرافات أو علم لن تفيد درايته ولن يضر جهله شيئًا.

غلَّب الكاتب الحس الواعي المسؤول على سرده الذي يمزج بين الواقعي والتخييلي بتمحوره حول أحداث غرائبية، في فلكها دار النص وشخوصه قد يتعجب منها قارئ الحضر، لكنها واقعية حيث تجري في مجتمعها البدائي. قد يعزو البعض هذه الأحداث إلى الخيال أو اضطرابات نفسية أو أعمال سفلية قبل أن يفك اللغز بنهاية الرواية إذ فضّل الكاتب أن يُنهي حيرة قارئه ويُفسر له ما وقع. 

جاءت الرواية في اثني عشر فصلًا فيهم من الشخصيات والقصص الهامشية التي لا تضيف شيئًا وحذفها لن يخل بالنص أبرزها قصة إبراهيم بن مهدي زوج آسيا مُرضعة القافر، لكنها تبقى رواية مختلفة ذات مذاق خاص تتميز عن روايات النهج الواقعي المتعارف المنافسة في جائزة البوكر العربية لهذا العام.

هذه المراجعة جزء من ملف جائزة البوكر العربية: «منشور» يراجع الكتب المرشحة في القائمة القصيرة.

مواضيع مشابهة